“شهادة المؤمِن في الضّيق”
عظة للأب موريس معوَّض، خادم كنيسة مار تقلا- المروج.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين
في هذا المساء، نجتمع معًا في هذه الذبيحة الإلهيّة، لنحتفل بالذكرى العاشرة لانطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك” في رعيّتنا، في كنيسة مار تقلا- المروج.
إنَّ هذا النَّص الإنجيليّ (مر 13: 9-13) الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يدفعنا إلى طَرحِ السُّؤال: ما الّذي يطلبه منّا الربُّ اليوم مِن خلال هذا الكلام؟ يتمحوّر هذا النَّص حول الاضطهاد الّذي سيُعانيه الرُّسل في إعلانهم البشارة الإنجيليّة. إنّ اضطهاد الرُّسل جرى أثناء الـحُكم الرُّومانيّ، وأدَّى إلى شهادتهم الدَّمويّة. أمّا اليوم، فلا وجود للاضطهاد المباشر بسبب إيماننا بالربّ، ولا وجود لسُلطةٍ غريبة حاكمة في بلادنا، فنحن نعيش في سلام خارجيّ، على الرُّغم من وجود مخالفات يرتكبها المسؤولون بحقِّ المواطنِين.
إنّ الاضطهاد لا يقتصر على العذاب الجسديّ، الّذي يتعرَّض له الإنسان بسبب إيمانه، بل قد يتَّخذ أشكالًا متعدِّدة، وما أكثرها اليوم في عالمنا. في عالمنا اليوم لا ضرورة لشهادة الدَّم إنّما للشَّهادة البيضاء، الّتي تقوم على شهادة المؤمِن للربِّ يسوع في حياته اليوميّة من خلال أعماله وتصرُّفاته مع الآخَرين. وهنا يُطرح السّؤال: إلى أيّة درجة تتطابق حياتنا مع حياة الربِّ يسوع المسيح وتعاليمه؟ وإليكم مِثال عن مؤمِنٍ قد أصبح قدِّيسًا على الرُّغم من صِغَر سنِّه، لأنّ حياته كانت مطابقة لتعاليم الربِّ يسوع، وهو القدِّيس دومنيكو سافيو. كان القدِّيس دومنيكو سافيو أحد تلاميذ القدِّيس دون بوسكو. سأل يومًا القدِّيس دون بوسكو تلاميذه: ماذا تفعلون إذا عَلمْتُم أنّكم على بُعد ساعة من لقائكم الأبديّ بالربِّ يسوع؟ تعدَّدتْ أجوبةُ التّلاميذ ما بين الإسراع في التَّوبة وطلب المغفرة، وما بين قضاء السَّاعات الباقية من حياتهم في الصّلاة، وسواها من الأجوبة المماثلة لذلك. أمّا جواب القدِّيس دومينكو سافيو فكان لافتًا إذ قال لمعلِّمه إنَّه يستمرُّ في اللَّعب لأنّه مستعدٌّ وحاضرٌ للقاء الربِّ يسوع في كلِّ آنٍ، لأنَّه يمجِّد الله في كلِّ عملٍ يقوم به. إذًا، كان القدِّيس دومنيكو سافيو قادرًا على عيشِ تعاليم الربِّ على الرُّغم مِن صِغَر سنِّه.
انطلاقًا من هذا المثل وإنجيل اليوم، يُطرَح علينا السُّؤال: كيف نتصرَّف إذا عَلِمنا أنَّ ساعة انتقالِنا من هذا العالم قد أصبحت قريبةً جدًّا؟ إنَّ الماضي مهمٌّ جدًّا في حياتنا. فالإيمان ليس وليد السّاعة، ولا الحياة الروحيّة للمؤمِن، ولا التَّوبة ولا الغفران. فكما أنَّ الإنسان لا يصل إلى أعلى المراتب في الدِّراسة والشَّهادات الجامعيّة، إلّا بعد أنْ يتدَّرج في مراحل علميّة متعدِّدة، كذلك لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى قمّة الإيمان وقمّة الحياة الروحيّة مع الربِّ إلَّا من خلال مروره بِعِدّة امتحانات وتجارب تشدِّده وتمنحه القوَّة وتدفعه إلى اختبار الله.
للأسف، إنَّ بعض المؤمِنِين يعيشون حالة انفصام في حياتهم، إذ يسعون إلى تحقيق ما فشلوا في إنجازه في حياتهم الخاصّة من خلال أبنائهم. إنَّ المؤمِنِين يسعون إلى دَفع أبنائهم إلى التفوُّق في العِلم، ولكن هذا لا يعطيهم الحقّ لِدَفعهم إلى تحقيق أحلام والِدِيهم غير المحقَّقة بسبب عدم توافر الموارد الماليّة، في صِغرهم عند أهاليهم أو لأسبابٍ أخرى. إنَّ تَفوُّق أبنائنا في الدِّراسة لا يشير أبدًا إلى نجاحهم في علاقتهم بالربّ، فإنَّ الكثيرين من أبنائنا فاشلون على هذا المستوى بدليل عدم التزامهم في الكنيسة، وعدم التزامهم بالجماعات الرَّسوليّة كالطَّلائع والفرسان وما إلى هنالك من جماعاتٍ روحيّة.
لم يعد الاضطهاد في أيّامِنا مُرتكِزًا على الشَّهادة الدَّمويّة، ولكنَّه اتَّخذ أشكالاً متعدِّدة منها: اضطهادٌ اقتصاديٌّ وكذلك اجتماعيٌّ. إنّ مجتمعنا اليوم لا يسمع صوت دَويّ القذائف، بسبب انعدام الحروب الخارجيّة الظّاهرة، ففي بعض الأماكن من العالم هناك حروب اقتصاديَّة. إنَّ أشرس حربٍ يعاني منها مجتمعنا هي حرب وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، لأنّها حربٌ صامتةٌ مدّمرة لشبيبتنا بِنَوعٍ خاصّ، إذ تُمرِّر لهم في البداية أمورًا صالحة لِتَشُّدهم إليها، ولكنّها فيما بعد تشجِّعهم على أمور غير منسجمة مع تعاليم الربِّ يسوع المسيح.
إنَّ شبيبتنا وأطفالنا، وبخاصّة غير الملتزمين بجماعاتٍ كنسيّة، قد يواجهون صعوبة في التَّمييز في الأمور الّتي تقدِّمها لهم وسائل التواصل الاجتماعيّ، بين ما هو منسجمٌ مع تعاليم الربّ وما هو غير منسجمٍ معها، بسبب عدم التزامهم الكنسيّ وخبرتهم المتواضعة في الحياة. وهنا يكمن الخطر على أطفالنا وشبابنا، إذ تشكِّل وسائل التواصل الاجتماعيّ أحد أحدث أنواع الاضطهاد الجديد في عالمِنا.
إنّ إحدى وسائل مواجهة هذا النَّوع الجديد من الاضطهاد هو الشَهادة البيضاء: إذ على المؤمِن أن يسعى إلى أن يكون شاهدًا في حياته على تعاليم الربِّ من خلال سلوكيّاته في المجتمع مع الآخَرين. فالإيمان إخوتي، لا يُعبَّر عنه فقط على المستوى الفرديّ بل يُعبَّر عنه ضِمن مجموعات بشريّة كالعائلة، فالعائلة المؤمِنة تُصبح علامةً مضيئة وشهادة حيّة في قلب المجتمع، نتيجة عيشها لإيمانها بالربِّ يسوع. من خلال هذا النَّص الإنجيليّ، يريد الربُّ أن يقول لنا إنّ أنواع الاضطهادت ستختلف عبر العصور ولكنَّها ستبقى مستمِّرة، لذا علينا نحن المؤمِنِين المحافظة على ذواتنا وعلى عائلاتنا من التَّعاليم المخالفة لتعاليم الربِّ يسوع.
في الختام، أجدِّد معايدتي لجماعة “أذكرني في ملكوتك”، بأعضائها المتواجِدين في هذه الرعيّة، وللجماعة ككلّ في لبنان وفي العالم كلِّه. في هذه المناسبة السَّعيدة، نسأل الله أن يمنحنا النِّعمة لنكون مستعدِّين للقائه الأبديّ، وأن يمنحنا الجرأة الّتي تَمتَّع بها لصِّ اليمين، فنبني علاقة روحيّة مميَّزة مع الربِّ يسوع، فلا نتردَّد في طلبِنا: “أُذكرنا يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتك”.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبلنا.