محاضرة للأب ايلي خنيصر،

خادم رعيّة مار الياس الحيّ – الخنشارة، المتن.

“طوبى منذ الآن للأموات الّذين يموتون في الربّ” (رؤيا 14: 13- 18)

النصّ الإنجيليّ:

“ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يقول:”أُكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مُنْذُ الآنَ فِي الرَّبِّ”. فيُجيبُ الرُّوح: “نَعَمْ، فيَسْتَرِيحُونَ مِنْ أَتْعَابِهِمْ، لأنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتْبَعُهُمْ”. ونَظَرْتُ فرأيتُ سَحَابَةً بَيْضَاء، جلسَ عليها مِثلُ ابْنِ إِنْسَانٍ، وعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ مسنون. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مَلاَكٌ آخَر، يَصْيح صياحًا عاليًا بالْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: “خُذ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، جَاءَتْ ساعَةُ الْحَصَادِ، ونَضِجَ حَصادُ الأَرْضِ”. فَأَلْقَى الْجَالِسُ عَلَى السَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحُصِدَتِ الأَرْضُ. وخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، ومَعَهُ أَيْضًا مِنْجَلٌ مسنون. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ مَذْبَحِ الهيكَل مَلاَكٌ آخَرُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، فَصَاح صياحًا عَاليًا بالملاك الّذي يَحمِلُ المِنْجَلَ المَسنون: “خُذ مِنْجَلَكَ المَسنون وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْومِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا نَضِجَت”. فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ علَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْومَ الأَرْضِ، وأَفرَغها في مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وَدِيسَتِ الْمَعْصَرَةُ في خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَجرى منها دَمٌ على ارتفاع لُجُمِ الْخَيْلِ، إلى مَدى مِئَتَي مِيل”.

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

إخوتي، إنّ الكِتاب المقدَّس يحتوي على الكثير من الرُّموز والأرقام، فالّذين كتبوه لجأوا إلى استخدام لُغاتٍ رمزيةٍ وأرقامٍ معروفةٍ دلالاتُها بالنِّسبة إلى المؤمِنين في ذلك الحين. قَبْل البَدء بِشَرح هذا النَّص، أودُّ أن أُذكِّركم بما قاله الربُّ يسوع لأحد علماء الشَّريعة الّذي جاء إليه وسأله قائلاً: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟”؛ أجابه حينها الربُّ يسوع: “ماذا كُتِب في النَّاموس؟ كيف تقرأ؟”. إذًا، لم يسأل الربُّ يسوع عالمَ الشَّريعة “ما الّذي يقرأه”، بل “كيف يقرأ؟”، وهذا يعني أنَّ الـمُهمّ ليس أن يقرأ الإنسان كلمةَ الله، بل أن يَفهَم ما يَقرأه. وانطلاقًا من جواب يسوع هذا، سنبدأ بِشَرح هذا النَّص، لنتمكَّن من تفكيك الرُّموز الّتي يحتوي عليها، فنفَهم ما الّذي نقرأه وتَصل إلينا الفِكرة اللّاهوتيّة منه.

 “ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يقول:”أُكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مُنْذُ الآنَ فِي الرَّبِّ”. إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك” تُركِّز في كلِّ لقاءاتها على موضوع هذه الآية، وهو القيامة والحياة الأبديّة: ما هي الأفراح الّتي تنتظِرُنا في السّماء؟ إخوتي، قَبْل الغَوص في شَرح هذا النَّص، علينا بدايةً التعرُّف إلى الإطار الّذي كُتِبَ فيه، أي علينا معرفة ما الّذي قاله يوحنّا الحبيب للمؤمِنين سابقًا كي نتمكَّن من فَهمِ ما الّذي يقوله لهم الآن.

إنّ الإصحاح 14 من سِفر الرُّؤيا، يبدأ على الشَّكل التَّالي: “ثُمَّ نَظَرْتُ ورأيتُ حمَلاً وَاقِفًا عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِلّا الْمِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً للهِ وَلِلْخَرُوفِ.”

إنّ الخروف أو الحَمَل هو موضوع سِفر الرُّؤيا. إنّ الكثيرين يعتقدون أنّ سِفر الرُّؤيا يتكلّم على نهاية العالَم، ولكنّ هذا الاعتقاد خاطِئٌ تمامًا. كتبَ يوحنّا هذا السِّفر، حين كان في المنفى، بإلهامٍ من الرُّوح القدس، وقد وجّهه إلى الكنيسة الّتي في روما والّتي كانت تُضطَهد مِن قِبَل الأباطِرة الرُّومان. بالنِّسبة إلى يوحنّا الحبيب، إنّ المسؤول عن الكنيسة هو الحَمل الّذي فَداها، وهو يسوع المذبوح؛ لذا، نَجد في سِفر الرُّؤيا، أنّ الحَمل يَرمُز إلى الربِّ يسوع. وفي هذا السِّفر، نُدرِك أنّ هذا الحَمَل هو في مواجهةٍ دائمةٍ مع التِّنين، الّذي يُشير إلى الشَّيطان. ولهذا التِّنين ابنٌ هو الوَحش، وهو يشير إلى السُّلطة الرُّومانيّة، وتحديدًا إلى الامبراطور، تُسانِدُه الدِّيانة الوثنيّة. إذًا، باختصار، يقوم سِفر الرُّؤيا على صِراعٍ بين الحَمَل والتِّنِين، بين أتباع الحَمَل وأتباع التِّنين، أي بين الكنيسة والسُّلطة الرُّومانيّة. كلَّما ازداد الاضطهادُ على الكنيسة، ازدادَ عددُ الشُّهداء، أي ازداد عددُ القائمين في السّماء أمام الله والصّارِخين إليه: “إنتَقم لِدِمائنا، انتقِم لِدمائنا”. 

عند سماعه صوتَ هؤلاء الشُّهداء، يُظهِر الحَملُ الوديع، أي الربُّ، غَضَبَه على التِّنين وعلى الوَحش، ويُرسِل إليهما ضَرَباتٍ مشابهةً لِتِلك الّتي كان قد أرسلها في القديم إلى فرعون، بِهَدف تحرير شعب اسرائيل من أرض العبوديّة. إنَّ الربَّ يُرسِل ضرباته، من خلال الملائكة، إلى السُّلطتين السِّياسيّة والدِّينيّة في روما الّتي تُحارِب كنيسة المسيح. ونتيجة هذه الضَّربات، ستَكون انهيار روما والسُّلطة الوثنيّة، وسيَشهَد كُلُّ ملوك الأرض على زوال روما، إذ سيَصرُخون قائلين: “سَقَطَتْ بابِل! سَقَطَتْ بابِل!”. في الكِتاب المقدَّس، يَرمز الحملُ إلى الربّ يسوع: فالحَمَل لونه أبيض، أمّا التَّيس فَلَونُه أسود. إنَّ اللّون الأبيض يُشير إلى العِماد، إلى الرِّداء الّذي يَلبسُه أبناءُ الله المنتصرون على التِّنين وأتباعِه. إخوتي، هل تَعلَمون أنّ أوَّل شخصٍ أقام الذَّبيحة في الكتاب المقدَّس، وفي الكَون، هو الله الآب في الفِردَوس؟! ففي العودة إلى سِفر التَّكوين، نقرأ أنّ الربَّ قد نَظر إلى آدم عندما وَقَع في الخطيئة، فرآه عُريانًا من النِّعمة، ويقول لنا الكِتاب: “وخاط الله لآدَم وحوّاء ثيابًا مِن جِلد الحَمل”. 

وهنا نَطرح السُّؤال: مِن أين أتى الربُّ بِهذا الحَمَل؟ لقد ذَبح الله حَملاً في الفِردوس ليُلبِس آدم وحوّاء مِن جِلدِه. إنّ هذه الصُّورة الرَّمزيّة ستُشير في العهد الجديد إلى يسوع المسيح الّذي ذُبِح على الصَّليب، فألبَسَ المؤمنينَ جسَده، وهذا ما أكَّده بولس الرَّسول حين قال لنا: “أنتم الّذين بالمسيح اعتمَدَتم، المسيح قد لَبِستُم”. إذًا، إنّ أوَّل مَن استعمل الطَّقس الدَّمويّ التكفيريّ مِن أجل التَّكفير عن خطيئة آدم وحوَّاء، هو الله في الفِردوس، إذ ذَبحَ الحمل وألبَس جِلدَه آدم وحوّاء، بعد أن خَسِرا ثوب النِّعمة.

“ثُمَّ نَظَرْتُ ورأيتُ حمَلاً وَاقِفًا عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ”. في بداية هذا الإصحاح، نلاحظ أنّ الحَمَل واقفٌ على جَبَل صِهيون. إخوتي، كانت العذراء مريم واقفةً عند أقدام الصّليب، لا راكعةً ومفجوعةً، وهذا ما أخبرَنا به يوحنّا الرَّسول في إنجيله حين قال: “وكانت واقفةً عند صليب يسوع أُمُّه”. هنا، نرى الحَملَ واقفًا على جبل صِهيون. إنّ هذه الوقفة هي وقفة القيامة: فالحملُ واقِفٌ، قائمٌ، مُستَعِدٌّ لِيُواجِهَ التِّنين والوَحش ولينتَصِرَ عليهما. إنّ الحَمَل يتشَّفع عند الله الآب لِكُلِّ مُحبِّيه، أي لِكُلِّ الّذين يرقدون بِيَسوع المسيح، كي يَدخلوا إلى الفرح الأبديّ. 

إنّ جَبَل صِهيون هو جَبَل الـمُوريّا. حين قال الله لإبراهيم: “إبراهيم، خُذ ابنَك وَحيدَك، وأَصعِده على جبلٍ أَدُلُّكَ عليه، وقَدِّمْه ذبيحةً أو مُحرقة” (تك …)، قال إبراهيم في نفسه:” أمعقولٌ أن يَطلب الله منّي الولد الّذي أعطاني إيّاه؟! ألم يَعِدني بأن يُعطيَني نسلاً عظيمًا من خلاله؟! فكيفَ يَقول لي اليوم: قدِّم لي ابنَك وحيدَك ذبيحةً؟!” إخوتي، في طَلبِ الله هذا من إبراهيم، هناك ما هو أبعد مِن الامتحان: فَحِين صَعِد ابراهيم إلى جَبَل الموريّا، وأقام المذبح، وتهيّأ لتنفيذ ما طَلبَه الله منه، تَدخَّل الربَّ ومَنعَه مِن قَتِل الصَّبي. إخوتي، إنّ ابراهيم لم يتمكَّن من قراءة فِكر الله، لأنّ فِكر الله يتخطَّى العَمل بِحَدِّ ذاته. هكذا نحن أيضًا، حين تَحدُث معنا أمورٌ لا نستطيع فَهمَها، علينا أن نطلبَ المساعدة من الرُّوح القدس لقراءة العلامات، إذ إنّنا عاجزون وحدنا عن فَهم إرادة الله. مع إبراهيم، كانت إرادة الله تقوم على مَنعِ ابراهيم من ذَبحِ اسحَق ابنه، لذا قام ملاك الربّ بِكَفِّ يَدِ ابراهيم عن ذلك. كانت إرادة الله أن يَدُلَّ ابراهيم على جبل الموريّا، حيث ستُبنى أورشليم في ما بعد، كما يُخبرنا سِفر الأخبار. وعلى هذا الجَبَل الّذي كان سيُذبَح عليه اسحقَ، سَيُذبَح الربُّ، إذ سيتحوَّل هذا الجبل إلى الجُلجلة؛ وسيَكون اسحق صورةً عن المسيح. لهذا السَّبب، سمّى الله هذا الجبل جَبَل الموريّا، أي جبل “الله يرى أو يُدبِّر”. إنّ الله سيُدبِّر خلاص البشريّة، على جبل صِهيون، حيث الحَمَلُ واقفٌ ومُستعِدٌّ للانتصار على الشّيطان ومَنحِ الخلاص للبَشريّة بأسرِها.

“وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ”: يُخبرنا سِفر الرُّؤيا هنا عن وجود مئةٍ وأربعةٍ وأربعين ألفًا، واقفِين مع الحَمَل ومَختومِين على جباهِهم بِاسم الله الآب. إنّ عبارة “اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ”، تُشير إلى أنّ هؤلاء هُم أولاد الله، أولاد القيامة، أولاد الرَّجاء، أولاد الفرح، أولاد الحُلَل البيضاء الّذين يتهلَّلون في السَّماء بِفَرحٍ أبديّ، حيث لا حزنٌ ولا بُكاء ولا تَنهُّدٌ، بل حياةٌ أبديّةٌ لا تنتهي. إنّ شهودَ يَهوه، يستخدمون هذا الرَّقم “مئة وأربعين ألفًا”، ليُضلِّلوا المؤمِنِين قائلين إنّ هذا الرُّقم يُشير إلى عدَدِهم في العالَم، وبالتّالي، بحسب اعتقادِهم، هُم فقط الّذين سيَخلُصون دون سوِاهم من البشر. بالطَّبع، هذه القراءة هي قراءة خاطئة، لأنّها قراءة حرفيّة، والكتاب المقدَّس يتطلَّب قراءةً رمزيّةً للأرقام. إنّ الرَّقم “مئة وأربعة وأربعين ألفًا” هو كنايةٌ عن الرَّقم 12 مضروب بالرَّقم 12، مضروبٌ بالرَّقم ألف. إنَّ الرَّقم 12 الأوَّل يرمز إلى كلّ المؤمِنِين في العهد القديم، الّذين عاشوا حياة البرارة والصّلاح، ونَخُصّ بالذِّكر أسباط إسرائيل الاثني عشر، إضافةً إلى كلِّ مَن اتَّبَعَ نَهجَهم، إذ يُعتَبرون أبناء ابراهيم مِن حيث أعمالهم الصَّالحة. 

إنّ الرَّقم 12 الثَّاني، يرمز إلى الرُّسل الاثني عشر، أي إلى الكنيسة، أي إلى كلِّ مَن عاش إيمانه، وكان بارًّا، فأصبَحَ  مستحقًّا الدُّخول إلى ملكوت السَّماوات، بِسَبب أعمالِه على هذه الأرض، الّتي ستَتَبعُه. إنّ الرَّقم “ألف” في الكتاب المقدَّس يَرمز إلى الرَّقم الّذي لا يُعَدَّ ولا يُحصى، أي إلى العدد اللّامحدود. وبالتَّالي، إنّ الرَّقم مئة وأربعين ألفًا، لا يعني 144 ألف شخص فقط، بل هو يُشير إلى شعوبِ الأرض الّتي آمَنَتْ بالربَّ، وصَعدت إلى السَّماء، وها هي الآن واقفةٌ منتصرةٌ مع الحمل، واسمُ الله على جِباهها. لقد ركّز يوحنّا الحبيب على هذه العبارة “اسم الله على جباههم”، لأنّ الامبراطور في ذلك الحين كان يَدمُغ كلّ أبناء الامبراطوريّة التّابعين له بالرَّقم “666” على يَدِهم اليُمنى. إنّ الرَّقم “666”، هو رقم الامبراطور، الّذي يمثِّل الوحش، ابن التِّنين، أي الشَّيطان، الّذي يُحارب كنيسة يسوع المسيح. إذًا، مَن ليس لديه هذا الوَسم على يَدِه اليُمنى، ويرغب في متابعة حياته من خلال أعمال التِّجارة أي بعمليّات البَيع والشِّراء، أو أيّة أمور أخرى، لا يستطيع ذلك، إذ إنّه مَحرَومٌ مِن كلِّ حقوقه المدنيّة. هذا هو قصاص المسيحيّ في الامبراطوريّة الرُّومانيّة أن يُجرَّدَ من حقوقه المدنيّة، لأنّه رفض الخضوع للامبراطور ولآلهتِه الوثنيّة! إذًا، هذا هو وَضعُ الكنيسة حين كُتِب سِفر الرُّؤيا! إنّها كنيسةٌ مُجاهدةٌ على الأرض، تتألَّم من الاضطهاد، في الوقت الّذي يعيش أتباعُ الامبراطور حياة الرّفاهيّة والتَرَف. 

إنّ كنيسة يسوع الّتي تتألَّم على الأرض سَتُصبحُ – حينَ تصعَدُ إلى السّماء – كنيسةً منتَصِرةً تَتهلَّلُ بحضور يسوع المسيح، وتترَّنمُ وتَصدَح بالأناشيد؛ لذا قال لنا يوحنّا: “وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ”. تخيّلوا معي أن يقفَ أحدُهم أمام أهمِّ الشَّلالات في العالم، ويسعى إلى التكلُّم مع رفيقه؛ أقول لكم إنّ رفيقَه لن يتمكَّنَ من سماعِه لأنّ هديرَ المياه قويٌّ جدًّا. إنّ صلوات القدِّيسين، أولئك الّذين انتَصروا على الوحش بِواسِطَة إيمانهم، تَصعدُ إلى الله في السّماوات، بغزارة وقوّةٍ كهدير المياه. إخوتي، إنّ ما يعيشه أطفال غزَّة وأهلها اليوم قد اختبرَه المؤمِنون بالربّ منذ ألفَي سنة، إذ كان المؤمنون يتعرَّضون للقتل الوحشيّ، من تقطيع الأطراف ورَميٍ للاُسود، وكان الرُّومانيّون يفرَحون لمشاهدتهم المسيحيّين يتعذّبون ويموتون بهذه الطُرُق الوحشيّة. حين نقول إنّ اسمَ الله على جباهِهم، فهذا يعني أنّ هؤلاء قد أصبحوا مُلكًا لله، على عكس أولئك الّذين وُسِموا بِرَقم الامبراطور، فأصبحوا من أتباع الشَّيطان ومُلكِه. إذًا، يُخبرنا يوحنّا الحبيب، كاتب هذا السِّفر، أنَّ أتباع الشَّيطان يعيشون في الزِّنى والعِهر والفِسق على الأرض، أي في حالة الخطيئة، بينما أتباع الله يعيشون على هذه الأرض حياةَ البرارة فيُقاسون الاضطهاد، ولكن عندما يَصعد هؤلاء إلى السّماء فإنّهم سيُشاهدون الربّ ويعيشون في فرحٍ أبديّ بحضوره. 

“وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِلّا الْمِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ”: إنّ الكائنات الأربع تُعرَف لدينا اليوم بِاسم الشِّروبيم. مَن هُم الشَّروبيم؟ الشِّروبيم هي كائناتٌ حيّةٌ لها أربعة وجوه: الأسد الـمُجنَّح، الثّور المجنَّح، الإنسان بهيئة ملاك، والنَّسر. هذه الكائنات تَمَّ ذِكرها في العهد القديم، وقِيل عنها إنّها تَلعب عدّة أدوار:

1 – حراسة الفِردَوس: بَعدما طَردَ الله آدَم، يقول لنا الكِتاب المقدَّس: “أقام الله الكاروبيم على باب الفردوس وبيَدِه سيفٌ مشتعلٌ”، كي لا يتمكَّن أحدٌ مِن الدُّخول إلى الفردوس أو الخروج منه.

2- حراسة تابوت العهد: يخبرنا العهد القديم أنّ الربَّ قال لموسى: “اصنَع لك اثنَين من الكاروبيم وضَعهما على تابوت العَهَد”، ففَعل موسى ما أمرَه به الربَّ، إذ وَضَع تِمثالَين من ذهب باسِطَين أجنَحِتَهما نحو بعضهما البعض. وكان الله يتجلَّى على تابوت العهد بكلِّ مَجده. عندما أَدخَل سُليمان تابوتَ العهد إلى الهيكل، وضَعَ أَسدَين كبيرَين يرمزان إلى الشِّروبيم. وفي هذا الإطار، نَذكر أنّه جاء في سِفر المزامير، ما يلي: “لأنَّك بين حَيوانَين تُعرَف”. وهنا قد يتساءل البعض عن معنى هذه الآية قائلاً: هل يجلس الله بين حيوانات؟ لا، إخوتي! إنّ الأسد يرمز إلى ملك الغابة وإلى الشِّروبيم. وكان في أيّام سليمان أنّ هذه الكائنات، أي الشِّروبيم، تَحمل تابوت العهد، وتَجُرّ له المركبة وتَحمله. إذًا، لدينا أقرب الملائكة إلى الله: السِّرافيم وهدفُها، الدّوران حول العرش والتّرنيم لله، قائلةً: “قُدّوس، قدّوس، ربّ الصَّباؤوت”. 

إنّ الملائكة جبرائيل ومِيخائيل وروفائيل، هُم أمام عرش الله، وهناك مسافةٌ تفصِل بينهم وبين العرش، وهُم يأخذون أوامرَهُم مِن السّاكن على العرش، ويُنَفِّذون أوامره. بينما الملائكة الأقرب إلى الله، هُم السِّرافيم الّذين يدورون حول العرش، والشِّروبيم الّذين يَحمِلونَه. هل تعلمون، إخوتي، أنّ هناك مَن صار أقرب إلى الله من الشِّروبيم والسِّرافيم؟ العذراء مريم! حين تجسَّد يسوع الكلمة في أحشائها وسَكن فيها، وأصبح جالسًا عند أقدامها. أمام هذا المنظر، ينذهل الشّروبيم والسّرافيم، إذ تمكَّنت فتاةٌ من أهل الأرض من أن تتخطّاهم، فأصبحت أقرب من الملائكة إلى الله، وتمكَّنَتْ مِن الدّنو إلى الثّالوث الأقدس، الّذي اختارها بأن تكون أُمًّا للكَلِمة الإلهيّة. وهذا ما تُعبِّر عنه الكنيسة الشَّرقيّة إذ تُرتِّل قائلة: “يا مَن هي أكرَم من الشِّروبيم، وأمجَدُ بلا قياسٍ من السِّرافيم. يا مَن ولَدَتْ الله الكَلِمة ولبِثَتْ بتولاً، إنَّكِ حقًّا والدةُ الإله. إيّاكِ نُعظِّم”. إذًا، إنّ الكائنات الأربعة الّتي تَحمِل عرشَ الله، ترمز إلى الأبرار الّذين صَعِدوا إلى السَّماء، فرحِين ومُعيِّدين يَصدَحون ويُرتِّلون بأفواههم مِثلَ هَديرِ مياهٍ لا ينقطع. هذا التَّسبيح يكون أمام الكائنات الأربعة، الّتي تشير إلى حضور الله، لأنّها هي الّتي تحمِل الله. فَكَم هو عظيمٌ النَّص الّذي نقرأه اليوم، إذ نستطيع مِن خلاله أن نرى أنّه حين نَصَعدُ إلى السّماء بعد موتنا الأرضيّ، سنَرى أمورًا كلَّمنا عليها بولس الرَّسول حين قال لنا: “ما لَم تره عينٌ وما لَم تَسمَع به أُذُنٌ، ما لَم يخطر على قلب بَشَر، هذا ما أَعدَّه الله للّذين يُحبُّونه”(). إنّ هؤلاء المئة والأربعين ألفًا الّذين آمنوا بالله، قد صعِدوا إلى السّماء بسبب أعمالهم الّتي تتبَعهم. ويُضيف سِفر الرُّؤيا قيَقول لنا إنّ “هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً للهِ وَلِلْخَرُوفِ”. 

وهنا نَطرح السُّؤال: هل كلُّ مَن تنجَّس بامرأةٍ لا يَدخل إلى السّماء؟ وبالتّالي ما هو المقصود بهذه العبارة؟ إخوتي، ليس المقصود بهذا الكلامِ الزِّنى الجسديّ، كما قد يعتقد بعض الّذين يقومون بقراءةٍ حَرفيةٍ للنَّص؛ بل المقصود بهذه العبارة هو خيانة المؤمن للعَهد مع الله. إنّ خيانة العهد مع الله من خلال اتِّباع آلهةٍ أُخرى هي بمثابة خيانة عُظمى يرتكبها الإنسان. فحين أدخل الربُّ شعبَه إلى أرض الميعاد، حذَّرهم من عبادة إله بَعل واعتباره مَصدر الخيرات، إذ لا مَصدر للخيرات إلّا الله. حين أقام الله عهدًا مع شعبه مع موسى في جبل سيناء،  كرَّسه بالدَّم ورَبَطَهُ بِاسمه هو، هو الربّ. إذًا، إنّ المقصود بهذه العبارة، هو المؤمنون الّذين لم يعبدوا إلهًا آخر غير الله ولم يسجدوا إلّا له. في الكتاب المقدَّس، ترمز النِّساء إلى الآلهة الوثنيّة الّتي قد ينجَّر الشَّعب وراءها. إخوتي، ما يريد يوحنّا الحبيب قولَه لنا هنا هو أنّ كلَّ مَن بَقيَ ثابتًا في إيمانه بالربّ على هذه الأرض، سينال السَّماء بَعد موتِه الأرضيّ، أمّا الّذي تنجسَّ بالنِّساء أي ترَك الله ليتبَع آلهةً وثنيّة، فإنّ نهايته ستَكون الهلاك الأبديّ.

إخوتي، في بداية الإصحاح 14، قال لنا يوحنّا إنَّ الحمل كان مستعدًّا للقتال، متحمِّسًا ومتشِّفًعا إلى الله الآب، واقفًا وقفة القيامة. أمّا هنا في ختام هذا الإصحاح، فإنّنا نراه جالسًا على العرش، إذ يقول لنا يوحّنا الحبيب كاتب هذا السِّفر: “ونَظَرْتُ فرأيتُ سَحَابَةً بَيْضَاء، جلسَ عليها مِثلُ ابْنِ إِنْسَانٍ، وعَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ مسنون. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مَلاَكٌ آخَر، يَصْيح صياحًا عاليًا بالْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ”. إنّ الجلوس يشير إلى استعداد الحمل لِحَدثٍ في غاية الأهميّة. هنا، نتذكَّر إنجيل متّى في نصّ الدَّينونة، الّذي يقول لنا: “في ذلك اليوم، سوف يأتي ابنُ الإنسان ويَجلس على عرشِ مَجدِه، ليَدين الأحياء والأموات”(). إذًا، عندما يجلس ابن الإنسان على العرش، فهذا يعني أنّه جاء ليَدين العالَم.  

ثمّ يأتي الملاك ويقول: “ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يقول:”أُكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مُنْذُ الآنَ فِي الرَّبِّ”. فيُجيبُ الرُّوح: “نَعَمْ، فيَسْتَرِيحُونَ مِنْ أَتْعَابِهِمْ، لأنَّ أَعْمَالَهُمْ تَتْبَعُهُمْ”. إنّ عبارة “منذ الآن” تعني منذ اللَّحظة الّتي فدى فيها الربّ يسوع – الحمل، البشريّةَ بِدَمِه مصالِحًا الله الآب مع الإنسانيّة. ابتداءً من هذه اللَّحظة، نستطيع أن نقول إنّ الّذين يرقدون في الربَّ سيتمَّجدون في السَّماء. قبل موت المسيح وقيامته، كان الأبرار في العهد القديم بعد موتهم الأرضيّ ينتظرون مَجيء الربّ، في الجَحيم أي ما يُعرَف بِاسم “شِيُول”؛ أمّا بعد موت المسيح وقيامته، فقد دَخلوا معه إلى السّماء، ويقول لنا الكتاب المقدَّس في هذا الإطار: “وتراءى كثيرٌ من الأموات لِذَويهم في المدينة”، أي أنّ الأموات الّذين كانوا في الجحيم قاموا من الموت مع قيامة الحَمل. أمّا في العهد الجديد، عهد الكنيسة، فإنّ كُلّ الّذين يموتون بِاسْم الحَمَل، يرقدون بالربّ، وبالتّالي، سيَدخُلُون إلى السَّماء، لأنّ أعمالَهم تتبَعُهُم. وهنا أودّ العودة إلى نصّ الدَّينونة في إنجيل متّى، لأستفيض في شرح عبارة ” أعمالَهم تتبَعهم”: إنّ الإنجيليّ متّى يُخبرنا أنّه في يوم الدَّينونة، يُرسِل الله ملائكته فيَقوم الأموات، الّذين يُقسَمون إلى فِئتَين: الفئة الأُولى هي الخراف والثانية هي الجِداء. في إنجيل متّى، نقرأ أنَّ الربَّ يقول للخراف الّذي يَقِفون إلى اليمين: “تَعالَوا يا مبارَكي أبي، رِثوا الـمَلكوت الـمُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالَم”(). 

إنّ الإنسان يَدخل إلى السّماء ويكون من الخراف، إذا كانت أعمالُه على هذه الأرض تستحقّ المكافأة أي الفَرح الأبديّ. وهذا ما قَصَده يوحنّا الحبيب في سِفر الرُّؤيا حين قال لنا إنّ أعمال الأبرار تتبَعهم إلى السّماء. في إنجيل متّى، سأل الخراف عن سبب هذه المكافأة الّتي نالوها فأتاهم الجواب من الربّ، إذ قال لهم: “كُنتُ جائعًا، فأطعمتموني، كنتُ عطشانًا فسَقيتموني، كنتُ عُريانًا فكَسَوتُموني، كُنتُ غريبًا فآويتموني، كنتُ مريضًا فزُرتموني، كنتُ سَجينًا فَأتَيتُم إليّ” (). إخوتي، إنّ الرَّقم 6 يرمز إلى النَّقص. لقد عدَّد الربُّ يسوع لهم ستّة أعمالٍ قاموا بها على الأرض، فالطبيعة البشريّة بحدٍّ ذاتِها ناقصة. عندئذٍ سأل الخراف الربَّ عن وقت قيامِهم بكلّ ما ذَكرَه لهم، فيُجيبُهم الربّ: “كلّ ما فَعلتُموه لإخوتي هؤلاء الصِغار، فلِي قد فَعَلتُموه”. هنا، نجد تفسيرًا لما قرأناه في سِفر الرُّؤيا حين قال لنا يوحنّا الحبيب إنّ أعمال الأبرار تتبَعهم إلى السّماء. 

إخوتي، إنّ الربَّ يسوع هو الّذي يُعطي الأبرار الكمال، لذا وَضَع الرَّقم سبعة في هذه الأفعال حين قال لهم: “كلُّ ما فَعلتُموه لإخوتي الصِّغار، فَلِي قد فَعلتموه”. إنّ يسوع قد أكمل هذه الأفعال وأعطاها كمال المحبّة، حين قال لهم: “رِثوا الملكوت الـمُعَدَّ لَكم”. إذًا، إخوتي، إنّ الربَّ يسوع لم يُحاسِب النَّاس على أديانِهم وطوائفهم، على طعامِهم أو على عِلمهم أو على زيارتهم الأماكن المقدَّسة أو سواها؛ بل حاسبَهم على أعمال المحبّة الّتي قاموا بها أو لم يقوموا بها. وهذا يعني أنّه كما تصرَّف معنا يسوع، علينا أن نتصرَّف مع الآخَرين: “كما أحببتُكم أنا، هكذا أحبُّوا بعضكم بعضًا”. كيف أحبّنا يسوع؟ 

إخوتي، نحن كُنّا جياعًا، فأعطانا جسده؛ كنّا عِطاشًا، فسَقانا دَمَه؛ وكنّا عُراة، فألبَسَنا النَّعمة، ألبسَنا المسيح؛ وكُنّا غُرباء، فأعطانا السّماء بيتًا لنا، قائلاً لنا: “في بيت أبي منازِلُ كثيرة”؛ وكنّا مرضى، فشفانا؛ وكُنّا أسرَى، فحرَّرَنا من الخطيئة. هكذا علينا أن نتصرَّف مع الآخَرين، كي تتشَّفع لنا أعمالُنا عند الله الدّيان، فيتمكَّن مِن أن يَحكم علينا انطلاقًا منها بِصُعودِنا إلى السَّماء أو نزولنا إلى النَّار.

“ثُمَّ خَرَجَ مِنَ مَذْبَحِ الهيكَل مَلاَكٌ آخَرُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، فَصَاح صياحًا عَاليًا بِالمَلاك الّذي يَحمِلُ المِنْجَلَ المَسنون: “خُذ مِنْجَلَكَ المَسنون وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْومِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا نَضِجَت”. إنّ النَّار هنا ترمز إلى النَّار الأبديّة. إنّ هذا الملاك في ساعة الدَّينونة، يعيدُنا إلى مَثَل الزُّؤان: بَعد أن قام الزَّارع بِزَرع القمح نَبَت معه الزُّؤان، حينها طلب الربُّ من أُجرائه أن يتركوا الزّؤان ينمو مع القمح وفي وقت الحصاد يَفصِلهما، فيَضع القمح في الأهراء ويحرق الزُّؤان. إنّ الزّؤان يرمز إلى الأشرار الّذين يرفضون الله ومحبّته، فيُحاربونه؛ وبالتّالي، من الطّبيعي أن يكون مكانهم العذاب الأبديّ. حين يُخبرنا يوحنّا عن الملاك الّذي معه مِنجلٌ للحصاد، فإنّه يُشير إلى ساعة الدَّينونة، أي إلى السّاعة الأخيرة الّتي فيها سيأتي الربَّ ليَدين العالَم. إنّ الملائكة سيَحصدون القمح كما سيحصدون الزّؤان، والقَمح سيُدخِلونه إلى السَّماء والزّؤان سيَرمونه في النَّار الأبديّة. لذا نجد أنّ لهذا الملاكِ الّذي قام بالحصاد سُلطةً على النّار. إنّ الكأس في الكِتاب المقدَّس، ترمز إلى اللَّعنة. فكما يُوضَع النبيذ أو الخمر في الكأس للدَّلالة على الفرح، إذ إنَّ  العِنَب يرمز إلى الفرح، كذلك يمكن أن يتحوّل ما في داخل هذه الكأس مِن عصير الكَرمة إلى خَلّ، وهذا الخلّ هو رمز اللَّعنة. هنا نتذكَّر ما حدث مع يسوع حين كان في بستان الزَّيتون، إذ قال لأبيه: “إن شئتَ، أبعِد عنِّي هذه الكأس”، أي أبعِد عنِّي يا أبتاه  كأس المرارة، كأس اللَّعنة، كأس العذاب. لكنّ الربّ عاد وقال لأبيه:”ولكن لا مشيئتي بل مشيئتُك”. إنّ الربَّ يسوع قد جاء ليُتمِّم مشيئة الآب، لذا شَرِب يسوع هذه الكأس، فتَعذَّب وبُصِق عليه، وواجه أكبر وأقصى درجات العنف، ولكنّه كان يمشي بِصَمتٍ، كحَمَلٍ لا يَفتَح فاهُ، أمام الّذين يَجُزُّونه. بِصَمته هذا، استطاع الربُّ يسوع أن يُخلِّص الإنسان والبشريّة بأسرِها. في العهد القديم، عندما كان الشَّعب يُخطئ ويخون العهد مع الله، كان الله يقول له إنّه سيُشرِبه من كأس الغَضَب. وهنا لن أدخل في مسألة غضب الله: هل الله يغضب؟ إخوتي، إنّ ربَّنا هو كُليُّ الرَّحمة، ولكن عندما يستَعمل هذا الأسلوب مع شعبه، يجب عدم تفسير كلامه تفسيرًا بشريًّا لأنّ الله مختلفٌ جدًّا عن الإنسان. عندما يغضب الإنسان، فإنّه يغضب جرّاء حِقد، جرّاء غيرة وحَسَد، ويصل به غضبه إلى حدِّ القتل. في حين أنَّ غضَبَ الله، هو غضب مقدَّس: فعندما يغضب الله، فهذا يدلّ على أنّه يريد أن يؤدِّبني، من خلال ضربةٍ معيّنةٍ تَجعلني أعي أنّه بالقُرب منّي، فأُدرك أنّ الطريق الّذي أسير به كان سيؤدِّي بي إلى الهلاك. 

لذا، نراه على سبيل المثال، يسمح بأن تُكسَر رِجلي كي لا أذهب إلى هذا المكان الّذي سيؤدِّي إلى هلاكي. وهنا، أودُّ أن أخبركم مثَلاً يذكره لنا النبيّ حزقيال في سِفرِه، فيقول: كان لراعٍ غنمةٌ طائشة، تسير على الدَّوام في الطَّريق الّذي يؤدِّي بها إلى الهلاك. وكان الرَّاعي في كلِّ مرَّةٍ يعمل على كفّ هذه الغنمة عن طريقها، كي لا تقع في المهوار وتموت. حاول هذا الرّاعي مرّاتٍ عديدةً أن يردَّها عن طريقها الخاطِئ إلّا أنّه لم يَفلَح. لذلك، قام بِكَسر رِجل الغنمة، الّتي قامت بالصّراخ من شدَّة الوَجع، أمّا الرَّاعي فقام باحتضانها وتجبير رِجلها، والاهتمام بها كثيرًا وقام بِتَدليلها. عندئذٍ تمكنَّتْ هذه الغنمة من اكتشاف محبّة الرَّاعي لها. كذلك الربّ، حين يجدنا سائرين في طريق الهلاك، يقوم بتوجيه ضربةٍ معيّنةٍ تمنعنا من إكمال طريقنا صوب الهلاك. 

إخوتي، علينا أن نتقبَّل تلك الضَّربات من الله، وقراءتها بطريقة صحيحة. إنّ الربَّ يريد أن يَضعنا على مِنكَبيَه، ويهتّم بنا. وهنا فقط، نستطيع أن نفهم قول الربّ في الكِتاب: “أدَّبني الربُّ تأديبًا وإلى الموت لَم يُسلِمني”. إنّ هذه الكأس الّتي كلَّمنا عليها يوحنّا الحبيب في هذا الإصحاح من سِفر الرُّؤيا ترمز إلى السُّلطة الرُّومانيّة، أي الوَحش، وإلى المرأة الجالسة على الوحش والّتي تُمثّل روما. إنّ هذه المرأة تَحمل بيَدها كأس الزِّنى، كأس الفجور، تُشير إلى وَضع روما في أيّام يوحنّا الحبيب. ففي تلك الأيّام كانت رُوما تَسكَرُ بقتل المسيحيّين الأبرياء، وتَفرَح لعذاباتِهم. 

هنا، يُخبرنا سِفر الرُّؤيا، أنّ الحَمل سيأتي ويأخذ هذه الكأس الّتي تحمِلُها هذه المرأة ويُسقيها لروما وشعبِها، ويحوِّل هذه المرارة عليها، فَتَشرب روما وشعبها كأس غضب الحَمل عليها، عندما يُنزِل بها الضَّربات. حين يقف التِّنين خَلفَ الوحش والشِّعب الرُّومانيّ، سيقوم الحمل بالدِّفاع عن كنيسته. فإذا كان أبناء روما الّذين يعبدون الشَّمس ويؤلِّهونها، فليُخبرونا الآن ما الّذي سيَحدث بهم عندما يُنزِل الله بِهم الضَّربات فَتحرقُهم الشَّمس. إنّ الشَّمس ستَحرقهم، أي أنّها ستَحرق الوَسم المدموغ على أيدِيهم، أي الرَّقم 666. هذه هي كأس غضب الله على المرأة الزَّانيّة الّتي هي روما الممثّلة بالوَحِش أو بالامبراطور الرُّومانيّ، المستمِّد قوّته من التِّنين لضرب كنيسة المسيح.

 

“طوبى للأموات الّذين يموتون في الربّ منذ الآن”، إذ إنّهم سَيَستَريحون من أتعابِهم، وأعمالُهم تتبَعُهم. هنا، علينا ألّا ننسى ما ورد في نصّ الدَّينونة في إنجيل متّى، إذ إنّ الربَّ سيُحاسِب الأموات على ستّة أفعالٍ قاموا بها أو امتنعوا عن القيام بها. وحين يسألونه عن الوقت الّذي قاموا بهذه الأعمال الصّالحة، سيُخبرنا عن كمال المحبّة، قائلاً لنا: إنّ كلّ ما فَعلناه مع الآخَرين فَلَه فَعلناه، لذا نحن نستحقّ أن نَدخُل إلى فرَحِ ربِّنا. وهذا الفرح سنتكّلَّم عليه في حلقةٍ أخرى في شهر شباط، في ختام هذه اللِّقاءات: ماذا ينتظرنا في السَّماء من مَجدٍ عَظيم؟ ما هي الأفراح السّماويّة؟ وماذا قال عنها الكِتاب المقدّس؟ ماذا ينتظرنا فوق؟ تنتظرنا أورشليم الجديدة، الّتي فيها سيَمسَح الربُّ كلّ دمعةٍ من عيون محبِّيه.

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلنا.

 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp