محاضرة لسيادة المطران شارل مراد،
النائب البطريركيّ لأبرشيّة بيروت للسُّريان الكاثوليك.
“فآمِنوا بي أيضًا. في بيتِ أبي منازِلُ كثيرة….”(يو 14: 2)
النصّ الإنجيليّ:
“لا تَضطرِبْ قلوبُكُم. إنَّكُم تُؤمِنونَ بالله فآمِنوا بي أيضًا. في بيتِ أبي منازِلُ كثيرة، ولو لم تَكُنْ، أتُراني قُلتُ لكم إنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقامًا،وإذا ذَهَبتُ وأعددتُ لكُم مُقامًا، أَرجِعُ فآخُذُكم إليَّ، لِتكونوا أنتم أيضًا حيثُ أكون. أنتُم تعرفونَ الطّريقَ إلى حيثُ أنا ذاهِب”. قالَ لهُ توما: “يا ربُّ، إنّنا لا نعرِفُ إلى أينَ تَذهب، فكيفَ نَعرِفُ الطّريقَ؟”. قالَ لهُ يسوع: “أنا الطّريقُ والحَقُّ والحياة. لا يَمضي أحَدٌ إلى الآبِ إلَّا بي”.المجد لك يا ربّ! المجد لك!
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
بدايةً، أودّ أن أشكر السَّيدة جانيت والجماعة الّتي دعَتْني إلى هذا اللّقاء. في مقدّمة هذا اللِّقاء، تمَّ شُكري على قبولي المشاركة فيه، ولكن في الحقيقة، إنّه لَشَرفٌ كبيرٌ ولَفرَحٌ عظيمٌ لي أن أكون معكم، وخصوصًا أنّنا سنتكلّم في موضوعٍ مقدَّسٍ ومبارَكٍ.
إنّ الوقت الـمُعطى لنا لا يسمح لنا بالتّأمّل في كلّ آيات هذا النَّص الإنجيليّ، لذا اخترتُ الآية الّتي أُحبّها جدًّا في هذا النَّص، وهي: “في بيتِ أبي منازِلُ كثيرة”، كي نتأمّل فيها معًا، ونفكِّر فيها بصوتٍ مرتفعٍ. وكما قالت مايا في بداية اللِّقاء، سيَكون المجال مفتوحًا لكم، بعد انتهاء الحديث، لتوسيع الموضوع من خلال طَرحِ أسئلتكم والتَّعبير عن أفكارِكم.
إنّ هذا النَّص الإنجيليّ مأخوذٌ من إنجيل يوحنا، الإصحاح 14. وفي الإصحاح السّابق لهذا النَّص، أي في الإصحاح 13، كلَّمنا الإنجيليّ يوحنّا عن عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه قَبْل آلامِه، الّذي فيه غسَلَ أَرجُلَ تلاميذه، وأخبرَهم أنّه سيتألَّم ثمّ يُغادِرهم؛ بتعبيرٍ آخر، أخبر يسوع تلاميذه خلال هذا العشاء عن كلِّ مشروعِهِ الخلاصيّ: عن خيانة يهوذا له، وعن نُكران بطرس له قَبْلَ صياح الدِّيك. شعر التَّلاميذ بالخوف والاضطراب إثر سماعهم هذا الكلام، لذا قام الربّ بتهدئة روعِهم، في بداية هذا الإصحاح، بِقَولِه لهم: “لا تَضطرِبْ قلوبُكُم. إنَّكُم تُؤمِنونَ بالله فآمِنوا بي” (يو 14: 1). في كلّ مرّةٍ تعترض حياتنا، صعوبةٌ أو حالةُ شكٍّ، نشعر بحاجتنا إلى سماع هذه العبارة من يسوع: “لا تضطرب قلوبُكم”، خصوصًا عندما نَجهلُ المستقبل. إنّ الإنسان يعيش هاجس الخوف من المستقبل لأنَّه لا يعلم ما الَّذي ينتظره، لذلك يَطرَح السُّؤال على ذاته: ماذا سيَحلُّ بي في المستقبل؟ كيف سأموت؟ كما يتساءل عن الخطوات الّتي يستطيع القيام بها كي يكون مستقبله أفضل، ويتساءل أيضًا حول مدى قدرته على الإتِّكال على الله وتسليم حياته له في هذه الحياة الّتي يعيشها على الأرض. في هذا الإطار، يأتي كلام الربّ لتلاميذه، وبالتّالي يقول لنا: “لا تَضطرِبْ قلوبُكُم. إنَّكُم تُؤمِنونَ بالله فآمِنوا بي” (يو 14: 1)، ليُعطينا تعزيةً وليُشدِّد خطواتنا في الاتِّكال عليه.
ثمّ يتابع الربّ حديثه مع تلاميذه، في هذا الإصحاح، فيَقول لهم: “في بيتِ أبي منازِلُ كثيرة، ولو لم تَكُنْ، أتُراني قُلتُ لكم إنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقامًا”(يو 14: 2). إنّ كلام الربِّ هذا يؤكِّد لنا وجودَ السّماء، وقد سمَّاها الربّ يسوع: “بيت أبي”، وهذا يعني أنّ السّماء لَيسَت بيتًا غريبًا، إنّما هي بيتُ الآب السّماوي. وفي مكانٍ آخر من الإنجيل، يقول لنا الربّ يسوع إنّ لا أحدَ يعرف ما في السّماء إلّا الّذي نَزِل من السّماء. نحن لم نكن نعرِف شيئًا عن السّماء، غير أنّ الربّ يسوع الّذي نَزَل من السّماء، أخبرنا عن السّماء من خلال وَصفِه لها بِقَوله لنا: “في بيتِ أبي منازلُ كثيرة”(يو 14: 2). إنّ عبارة “منازِلُ كثيرة”، تُشير إلى أنّ الّذين سيَدخلون إلى السّماء كُثُرٌ، وبالتّالي اعتقادُنا بأنّ كثيرين من بيننا ذاهبون إلى جهنمّ هو خاطِئٌ تمامًا. كما تُشير هذه العبارة إلى أنّه مهما ازدحمَتْ الجموع في السّماء، سيَبقى لكلِّ واحدٍ منّا مكانٌ فيها. إنّ هذا الكلام يدفعنا إلى الشَّعور بالرَّاحة والطمأنينة، إذ يقول لنا الربّ بما معناه إنّ كلَّ مَن يريد السُّكنى في السّماء يستطيع الإقامة فيها وحَجزَ مكانٍ له فيها. عندما نريد حضورَ عرضٍ فنيّ، أو عندما نُعبِّر عن رغبتنا في السَّفر إلى بلدٍ ما، يتوجَّب علينا الاتِّصال لحجزِ مكانٍ لنا في الاحتفال الّذي سَيُقام، أو في الرِّحلة الّتي نريد القيام بها. كم نشعر بالحزن، عندما يأتينا الجواب بأنّ كلّ الأماكن قد حُجِزت! وكم نفرح عندما نجد أنّ بعض الأماكن ما زالت متوافرة في الاحتفال أو الرِّحلة الّتي نرغب في القيام بها! إخوتي، كما نسعى إلى حَجز مكانٍ لنا في أيِّ عرضٍ سينمائي، أو في أيّة رحلةٍ نرغب في القيام بها على هذه الأرض، كذلك فلنسعَ جاهدين للحصول على مكاننا المحفوظ لنا في السّماء. وطالما أنّ مكانَنا محفوظٌ في السَّماء، فهذا يعني أنّنا أصبحنا ذا قيمةٍ وذا كرامة، أي أنّ الربَّ مِن شدَّة احترامه لنا، قام بِحَفظِ أماكنَ لنا في السّماء، فهو قد تجسَّد من أجلنا ومات من أجل خلاصِنا، لذا لن يتركنا وحدَنا في الطريق الّتي نسلكُها من دون مأوى. لذا، قال لنا “في بيتِ أبي منازل كثيرة”. إنّ عبارة “منازلُ كثيرةٌ” تعني أنّ كلّ شيءٍ سيَكون مؤمَّنًا لنا في السَّماء، وبالتّالي لن نكون بحاجةٍ إلى أيِّ شيءٍ. إنّ بعض مفسِّري الكتاب المقدَّس، قد ذهبوا في شَرحِهم لهذه العبارة إلى حدِّ اعتبار هذه المنازل عبارةً عن مَراتبَ في السَّماء، تُوزَّع على المؤمِنِين: فيَجلس البعض منّا في الصَّدارة، في حين أنّ آخرين يجلسون في آماكن أخرى في السَّماء. أنا شخصيًّا، أقول: لا يَهُمنِّي أين سأجلس في السَّماء، لأنَّ ما يهمّني هو أن أكون جالسًا في السَّماء. إخوتي، من المهمّ جدًا أن نعلم أنّنا جميعًا سنَكون في السّماء في حضرة الله، وسنُعاينه وجهًا لوَجهٍ. إنّها لعظمةٌ كبيرة ينالها الإنسان حين يعاين وجه الله.
إنّ السّماء هي مكانُ وجود الله. لذا، عندما يُفكِّر الإنسان في السَّماء، يَشعر بالخوف من الموت، لأنّه يُحِبّ الحياة. لذلك، يُسارِع الإنسان إلى زيارة الأطبّاء، عندما يَشعر بأنّه ليس على ما يُرام. وفي هذا الإطار، دأب الفكر البشريّ على اختراع آلاتٍ من شأنها إطالة عُمر الإنسان، علّها تمنعه من الموت. ولكن في الحقيقة، مهما تطوَّرَ الذكاء الإنسانيّ، ومهما تطوَّر العِلم، ومهما امتلكَ الإنسان من أموال، فهو لن يستطيع أن يتحاشى الموت، مهما طال عُمرُه. لماذا الموت؟ لا بُدَّ للإنسان من أن يموت، لأنّه خُلِق كي يعيش في السّماء، لا على هذه الأرض. وهذا ما قَصَده الربّ بِقولِه لنا: “في بيت أبي منازل كثيرة”، فالإنسان مدعوٌّ من خلال عيشِه على هذه الأرض، للوصول إلى ملكوت السّماوات. فإدراك الإنسان لهذه الحقيقة يمنحه النِّعمة كي يتخطَّى كلّ الصّعوبات الّتي تعترض حياته، وهذه النِّعمة هي الرَّجاء، والرَّجاء لا يُخيِّب صاحبه. إنّ الربَّ قد منح خلاصه لكلِّ إنسانٍ، من دون استثناء، غير أنّ البعض قد يرفضون هذا الخلاص، لذلك يعيشون بعيدًا عن الربّ في حياتهم الثانية. عندما نفكِّر في الحياة الثانية، علينا أن نُدرك أنّنا نحن الّذين نَدين ذواتنا لا المسيح الّذي يَدينُنا. فإذا انتقلنا إلى السّماء، ووَجدنا أنَّ ثيابَنا متَّسخةٌ وغير لائقة للقاء الربّ، فإنّنا تلقائيًّا سنشعر بالخجل من الدُّخول، لأنّ الموجودين في الدَّاخل أطهارٌ وعلى أَتَمِّ الاستعداد للقاء الربّ.
من خلال هذا النَّص، نُدرِك أنّ الربَّ يسوع لا يُحدِّد عددَ الدَّاخِلين إلى السّماء، فهو يقول لنا إنَّ “في بيتِ أبي منازل كثيرة”، وبالتّالي فإنَّ المسيح يسوع لا يكترث لعدد الّذين سيدخلون إلى السّماء. إنَّ هذا الكلام يدعوني إلى التعمُّق أكثر برحمة الله، فأكتشِف كم هي عَظيمة وكَم هي أكبر من السّماوات والأرض! في الكثير من الأحيان، لا ندُرِك عظمة رحمة الله لنا، لأنَّنا نُحجِّمه من خلال تفكيرنا وثقافتنا البَشريّين، ولكن إخوتي، فلنفكِّر قليلاً: إن كُنّا نحن البشر نسامح بعضَنا البعض ونغفر زلّات إخوتنا البشر، أيُعقَل ألّا يسامحنا الربّ على أخطائنا؟ في هذا الإطار، يقول لنا الكِتاب المقدَّس: إنّ رَحمة الله هي إلى الأبد. في عيد الصُّعود، نعيش زمنَ فَرحٍ لا زمنَ حزنٍ، لأنّ المسيح صَعِد إلى السَّماء، ليُحضِّر لنا مكانًا في السَّماء. وما يُعزِّينا أكثر، هو قَول المسيح لنا في الإنجيل: “سوف آتي وآخذكم إليّ” (يو 14: 3)، ممّا يؤكِّد لنا مجيئه الثاني واصطحابه لنا إلى الملكوت. وبالتّالي، لا داعٍ للخوف، لأنَّ الربَّ سيُمسِكنا يبَده ويُصعدنا معه إلى الملكوت. في حديثنا عن السّماء، يقول لنا الربّ عندما تُصَلّوا قولوا: “أبانا الّذي في السّماوات”، ويُضيف قائلاً لنا في مكانٍ آخر من الإنجيل: “إنّ أجرَكم في السّماوات عظيم”(متى 5: 12)، ويدعونا في مكانٍ آخر من الإنجيل قائلاً لنا: “اكنِزوا لكم كنوزًا في السّماوات”(متى 6: 20).
وبالتّالي، هل أحتاج بَعد إلى مزيد مِن التّأكيدات على وجود السّماء؟ إنّ ما نحن مدعوّون إليه هو أن نَعمل على استغلال رَحمة الله، بالمعنى الإيجابيّ للكلمة لا بمعناها السّلبيّ، للدُّخول إلى السّماء، تمامًا كما فَعل الابن الشّاطِر. إنّ الابن الشّاطِر، في بادئ الأمر، رَفضَ العيش في بيت أبيه، الّذي يرمز إلى السّماء، واختار إراديًّا العيش على هواه، بعيدًا عن هذا البيت. ولكن عندما بَذَّر كلّ ما كان يَملِك من أموال، وبات لا يملك شيئًا، قرّر العودة إلى بيت أبيه، حيث كان والِده متشوِّقًا للقائه، فما إن رآه عائدًا، حتّى أسرَع إليه وقبَّلَه واحتَضَنه، وأعاد استقباله من جديد في بيته. غير أنّ الأخ الأكبر، الّذي لم يترك بيتَ أبيه، رَفَض عودة أخيه مجددًّا إلى البيت. وبالتّالي، تمكَّن الابن الأصغر من الدُّخول إلى الملكوت، في حين أنّ الأخ الأكبر، الّذي كان يعتبر نفسه أمينًا، بَقيَ خارجه. كذلك، نحن أيضًا، في الكثير من الأحيان، قد نعتبر نفسنا من أبناء الملكوت، في حين أنّ قلوبنا ملئيةٌ بالغِيرة والشّعور بِعدم المساواة، فنتساءل في ذواتنا: لماذا علينا المثابرة على الصّلاة، إن كان آخرون لا يُصَلّون وينجحون في الدُّخول قَبْلَنا إلى ملكوت السّماوات؟ في هذا الإطار، نتذكَّر قول المسيح لتلاميذه: “لا يَضُلّكم أحدٌ، فإنّ الزَّواني والخطأة سوف يسبقونكم إلى ملكوت السّماوات”(متى 21: 31)، كما نتذكَّر لصّ اليمين الّذي تمكَّن من الدُّخول إلى الملكوت في آخر لحظات حياته، حين طلب ذلك إلى الربّ، فأجابه الربّ قائلاً له: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).
إذًا، إخوتي، هذا النَّص الإنجيليّ يشكِّل تعزيةً كبيرةً جدًّا لنا ويمنحنا الرَّجاء، لأنّنا من خلاله، نستطيع أن نفهَم رَحمة الله، ومحبّته لنا، وما يُحضِّره لنا. إخوتي، بكلّ بساطة، السّماء هي أن نكون مع الله؛ والسّماء هي مُعدَّةٌ لجميع البشر من دون استثناء. ولكن القرار يعود إلينا، لأنَّه علينا أن نختار إن كُنّا نريد العيش في السّماء أم البقاء على هذه الأرض. في الكثير من الأحيان، نختار العيش على الأرض، لأنَّنا نتلهّى بمشاغل هذا الزَّمن وهمومه، فنمضي الوقت في السّعي إلى تأمين لقمة عيشنا، متناسِين أنَّ كلّ عملٍ نقوم به على هذه الأرض، هو بمثابة حجرٍ نبني من خلاله بيتنا السّماويّ. وبالتّالي، كما نسعى على هذه الأرض إلى تأمين منزلٍ أرضيٍّ لنا، كذلك علينا أن نعمل على تأمين بيتٍ لنا في السَّماء. كما أنّه علينا ألّا ننسى أنّ كلَّ عملَ خيرٍ نزرعه في هذه الأرض، سنَحصده في السّماء، نِعمًا يفيضها علينا الربّ في السّماوات.
إخوتي، نحن مدعوون اليوم، من خلال هذا النَّص الإنجيليّ، إلى التَّفكير عميقًا في هذه العبارة: “في بيت أبي منازلُ كثيرةٌ”. إنّ “المنازل” تعني أن نكون مع الله. فإذا كنّا نفرح عندما نجالس أشخاصًا مُهمِّين في حياتنا، أو مُهمِّين على مستوى الشأن العام، أي في السّياسة أو في مجال العِلم أو أيّ مجالٍ آخر، فَكم بالحريّ بنا أن نفرَح عندما نسكن في بيت الربّ، أي في ملكوته، ونجلس على مائدته! إخوتي، علينا أن نعمل جميعًا من أجل تحقيق هذه الفرحة، مِن خلال ما نزرعه في هذه الأرض، فما نزرعه في هذه الأرض نحصده في السّماء. وبالتّالي، فإنَّ كلَّ عملٍ نقوم به على هذه الأرض، يشكِّل مدماكًا نبني فيه بيتنا السّماويّ الذي سَيَأوينا. ولا نستغربَنَّ إن كُنّا لم نقم بأيّ عملٍ على الأرض، بألّا نحصد شيئًا في السَّماء. إخوتي، إنّ الوقتَ يَمرُّ سريعًا، لذا فلنستفِد من الوقت المعطى لنا كي نقوم بكلّ ما نستطيع القيام به، فلا نندم على تكاسلنا أو اهمالنا. لذا إخوتي، فلنأخذ وقتنا في الصَّلاة، ولنأخذ وقتنا في الخدمة الّتي نقدِّمها للآخَرين، وكذلك لنأخذ وقتنا في محبّتنا للآخَرين، وفي الغفران الّذي نُعطيه للآخَرين؛ ولنَستفِد من رحمة الله لنا على هذه الأرض، كي لا نقول عندما نموت يا ليتنا قُمنا بهذا العمل أو ذاك، لأنّ القِطار سيَكون قد فات. وفي هذا الإطار، يقول أحد القدِّيسِين: كُثُرٌ هُم الأشخاص الَّذين يتمنَّون لو باستطاعتهم القيام من الموت لِلَحظات ليُصحِّحوا أخطاءً ارتكبوها على هذه الأرض، وليَعتَذِروا مِن الّذين أساؤا إليهم، وليعيشوا مزيدًا من المحبّة مع إخوتهم البشر. وما نصّ الغنيّ ولعازر إلّا خيرَ مثالٍ على ما نقول، فالغنيّ قد توسّل إلى ابراهيم كي يُرسِل الفقير، أي لِعازر، إليه ليبُلَّ طَرَف لسانه، كما طلَب إليه أن يُرسِله إلى إخوته الخمسة، ليُنبِّههم فلا ينالوا مصيره. فأجابه ابراهيم إنّه لديهم موسى والأنبياء، فليستمعوا إليهم. نحن اليوم، لدينا الكتاب المقدَّس الّذي يحتوي على كلِّ كلام موسى والأنبياء، ولدينا أيضًا كنيسة الأرض الّتي ننتمي إليها، والّتي تُحضِّر كنيسة السَّماء. لذلك، علينا أن نأخذ الأمور بِجَديّة، ولكن بفرح وبمحبة. أن نأخذ الأمور بجديّة لا يعني أبدًا أن نعُقِّد الأمور لأنّ المسيح لم يكن يومًا في حياته معقَّدًا.
“في بيت أبي منازلُ كثيرة”(يو 14: 2)، هي جُملةٌ علينا أن نردِّدها يوميًّا، في أعماق نفوسنا فلا ننسى أنّه لدينا بيوتًا في السّماء، فكما أنَّنا نَعمل جاهدين للحصول على بيتٍ أرضيٍ يأوينا طيلة حياتنا، كذلك لنسعَ كي نحصل على بيتنا السَّماويّ الّذي سيأوينا إلى دَهر الدَّاهرين.
سوف أترك بين أيديكم هذه الأفكار الّتي سنتأمّل فيها ونصلِّيها، فاتحًا المجال لكم لِتَوسيع الموضوع أكثر من خلال أسئلتكم وأفكاركم الّتي ستطرحونها الآن.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلنا.