“فاضَ قلبي بنشيدٍ رائعٍ أقول إنّ نشيدِي هو للمَلِك” (مز 45:1)
بقلم المونسنيور رافائيل طرابلسي، النائب الأسقفي العام في أبرشية بيروت الكلدانيّة،
يترنّم المزمور 45 بالـمَلِك الإله، ويَتهلّل داوود بالرّوح القدس، وهذا هو شعار تأمّلِنا ونحن نَستقبِل الـمَلِكَ المولودَ في مغارةٍ، متنكّرًا، آخذًا ما ليسَ له ليَرفعنا إلى ما لم نَكُن عليه. يَتنبّأ داوود المرنّم بهذا النّشيد الذي سَوف تَصدح به المسكونة أمام عرش الملك الحقيقيّ. وقد تحقّقت هذه الرؤيا النبويّة في ملءِ الزَّمن، عندما جاء مَجوسٌ من المشرق، من بلاد ما بين النهرَين، ليَسجدوا لِمَلِكٍ لا يَمُتُّ ظاهريًّا إلى الملوكيّة بشيءٍ. ولهذا الـمَلِك المزدرى من خاصَّته والموضوع في مِذوَد البهائم غير النّاطقة، رتَّلت ملائكةُ السّماوات مُنشدةً السَّلامَ على الأرض ومجدَ الله في الأعالي.
وُلِد المسيحُ بين الرُّعاة والأغنام، لِيُشير بذلك إلى كَونِه الراعي الحقّ الّذي يسهر على خرافه النّاطقة، أي بني البَشر الّذين أبدَعهم، ويُشاركهم حياتهم الصّعبة ومآسيهم “فتسمعُ الخرافُ صوته وهو يناديها” (يو 3:10).
لم ينتَهِ تدبيرُ التجسُّد الإلهيّ عند هذا الحدّ، ذلك أنّ حدث التجسُّد تحوَّل إلى مسيرة تجسُّد، وَفعلَ التأنُّس صار مسيرة تأنُّس. هذا ما عبَّر عنه القدِّيس ايريناوس (130-202) بِشرحه سرّ التجسُّد؛ وذلك يعني أنّ حياة الله- الكلمة، يسوع المتجسِّد،كانت عبارة عن تأنُّسٍ وتأقلمٍ مع الوضع البشريّ تأقلمًا مستديمًا. وقد عاش يسوع هذه المسيرة البشريّة، إذ عمل عملاً يدويًّا حين تعلَّم النجارة من يوسف مربِّيه، فقيل عنه إنّه “ابن يوسف” النجّار (لو22:4)، واهتمّ لمآسي إخوته البشر الرازحين تحت أعباء الألم والمرض والموت فَشفاهم (متى9 : 20-22)، وقَبِل تَوبةَ خاطئةٍ (لو7: 37)، وقُبلة تلميذٍ خائنٍ
(متى 26: 48-50). كذلك شعَرَ يسوع بالجوع والعطش والألم، واختَبر في جسده معاناة الإنسانيّة كلِّها، وعاشها بِملئها في جسدٍ بشريِّ وحَّدَه بألوهيّته هو الّذي “فيه حلَّ كمال الألوهيّة جسديًّا” (قو 2: 9).
واليوم، يعيش يسوعُ الملك والراعي، معنا وبيننا، يُعاني معنا مرارة المرض وأوضاع الزمن الحاضر، ويعيشُ مأساتنا وقد نَصَب خًيْمته بيننا. فالله، أراد بحكمتِه أنْ يتشاركَ الحياةَ في ملئِها مع الإنسان حتّى ينبُضَ بالحياة الّتي يستمدّها باستمرارٍ مِن الّذي “فيه كانت الحياةُ… نورُ النَّاس” (يو1: 4)، و”مِن مِلئهِ نِلنا جميعُنا نعمةً فوقَ نعمةٍ” (يو1: 16).
تجسَّدَ المسيحُ ليُعيدَ إلينا الوحدة والسّلام والمحبة، فلنَكُن رُسُل سلامِه، وعَمَلة كرمه فإنّه “قوَّتُنا وثباتُنا إلى النِّهاية” (1كور1: 8). فلنَكُن الساعينَ إلى السّلام في قلب عائلاتِنا ومجتمعاتنا المفكّكة، لِنَنطلق، وقد رأينا النُّور الحقيقيّ الساطع من مغارة بيت لحم إلى ميدان الجهاد الرُّوحيّ، “واخلعوا عنكم أعمالَ الظُّلمة والبَسوا سِلاحَ النُّور!” (رو 13: 12)، ولننتَظِر مكافأة الدَّيَّان العادل لأنّه “أمينٌ الّذي دعانا إلى مشاركةِ ابنهِ يسوع المسيح ربّنا” (1 كور 9:1)، الّذي له المجدُ والعزّة مع ابنه الأزليّ المتجسِّد لأجلِنا وروحه القدّوس المحيي إلى أبد الدّهور!
وُلِدَ المسيح، هللويا!