“في الصّوم”
بقلم سيادة المطران شكرالله نبيل الحاج،
الصّوم هو الانقطاع عن الطّعام لفترةٍ محدّدةٍ، وبما أنَّ الطَّعام ضروريٌّ لحياة الإنسان، فالصّائم بِانقطاعه عن هذا الضّروريّ، يؤكّد أنّ هناك ما هو أهمّ منه وهو الله، مَصدرُ الحياة ومُعطيها. ومِن هنا نَفهم أنّ الصّوم هو رجوعٌ لله، وخروجٌ من الذّات ومِن رغائب الإنسان ومُشتهاه، ليَكون الله المشتهى الأوّل، لا بَل الوحيد.
بالصّوم نَخرج أيضًا مِن الإفراط في الاهتمام بحاجات حياتِنا الماديّة لِنَحصل على حريّة القلب ونَنفتح على الخلاص الّذي استحقّه لنا المسيح، فنَدخل إلى مَدرسة يسوع، ونتشبّه بِصومِه، هو الّذي بدأ حياته العلنيّة بالصّوم أربعِين يومًا بَعد عِماده. صام ليَستقبل كلّ شيءٍ مِن الله الآب، ويَدخل في حميميّة حبِّه وأُبوّته ويحصل على رِضاه، ويتغذّى من كلمتِه، هو الّذي أجاب المُجرِّب، وقال له: “ليس بالخبز وَحْدَه يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمةٍ تخرج من فَمِ الله” (مت 4: 4).
ومِن كلمة الله في الإنجيل المقدّس، نتعلَّم من السيِّد، أنّ الانفتاح على الله، يَصحبه حتمًا الانفتاح على القريب وبالأخصّ على المحتاج والمِعوَّز والفقير، وما أكثرهم في أيّامِنا القاسية هذه! فالسّيد، وقَبل أن يتكلَّم عن الصّوم في عِظته على الجبل، سَبَق وتكلَّم أوّلاً عن الصّدقة، وأمَرَ بأن تكون في الخفاء، ولِوَجه الله وحده: “لِتَكن صَدَقتُك في الخفاء، وأبوك السّماويّ الذي يرى في الخفاء، هو يُجازيكَ علانيةً” (مت 6: 4).
ومع الصَّدقة، قال بالصّلاة وأعطانا بالمناسبة، “دُرَّة الإنجيل”، وهي صلاة الأبانا، الّتي تؤكِّد على بنوَّتنا للآب السّماويّ وأُخوَّتنا لبَعضِنا البعض، كما نقول، بكفايتِنا بالخبز اليوميّ، وبالتماس غفران الله، والوَعد بِغفراننا لكلّ مَن أخطأ وأساء إلينا. وبهذا يُصبح صومُنا أيضًا، زَمن غفرانٍ وتوبةٍ وعودةٍ إلى رَحمة الآب والارتماء بين يَديه وهو الكليّ الحنان والرأفة.
والصّائم الّذي ذاق حلاوة المصالحة يَعرف من الآن وصاعدًا كيف يُخمِد رغباتِ الإنسان الأرضيّ وأهواء الجسد، بِتقشّفِه وإماتاته، كما أنّه يَعرف كيف يُرضي الله، بِغياب عريسِه السّماويّ، وكيف ينتظر عودَته الثانية؛ فالمسيح لما قِيلَ له، إنّ تلاميذ يوحنّا يَصومون، وتلاميذ الفرّيسيّيِن يَصومون، فلِماذا تلاميذه لا يصومون، أجاب وقال: “هل يستطيع بَنو العِرس أنْ يصوموا والعريس مَعهم؟ ما دامَ العرِيسُ مَعَهُم لاَ يَستَطِيعُون أنْ يَصُومُوا، ولكن ستأتي أيّامٌ يكون فيها العريس قد رُفِع من بينِهم فَحينئذٍ يَصومون” (مر 2: 18- 20). أجل إنّ صومَنا هو بالنهاية قبولٌ بِغَيبة العريس وانتظارٌ وشوقٌ حارقٌ لِطَلَّتِه البهيّة في مجيئه الثاني.
“في قلبِكَ يا ربّ مِن المقدِرة على الغُفران، فوق ما في العالم أجمع مِن المقدِرة على الشرّ”، فاغفِر لنا يا سيّد خطايانا واغسِلنا من ذنوبنِا، وسهِّل لنا الوصول في هذا الصّوم إلى كرسِيّ الاعتراف للإقرار بآثامِنا بعد النَّدامة والتَّوبة النَّضوح، فنَخرج من هناك وقد لَبِسنا مجدّدًا بهاء معموديّتنا وأصبَحنا أهلاً للاشتراك بمائدة الافخارستيّا بانتظار الجلوس، على مائدة الملكوت الّتي تُعِدُّها للصّائمِين التائبِين. لكَ المجد إلى الأبد. آمين.