“في الصّلاة لأجل الرّاقدين”
بقلم المونسنيور رافايل الطرابلسي،
في التقليد الكاثوليكي الغربي، يُكرَّسُ شهر تشرين الثاني للصلاة من أجل السابق انتقالهم ويُخصَّص اليوم الثاني منه للاحتفال بالخدمة الإفخارستيَّة على نيَّة المتنيِّحين على رجاء القيامة للحياة الأبديَّة..
في ابتهالنا لأجل الموتى، تتّحد الكنيسة المجاهدة بالكنيسة الظافرة المنتصرة متخطيَّةً حواجز المكان حيث يتلاشى سُلطان الزمن ويضمحلُّ حجابُ المادَّة. الراقدون والأحياء يبقون ضمن شَرِكةِ حياةٍ وصلاةٍ أخوَّيةٍ سِرِّيةٍ تتجلّى بشكلٍ خاص في ومضاتٍ ملكوتيّة تلتمعُ خلال احتفالنا بالطقوس المقدَّسة ولا سيما لدى مشاركتنا في وليمة الشُّكر الإفخارستيَّة ….. حيث تجلس البشريَّةُ كُلُّها إلى مائدة الربَّ … يأحذُ ما لها ويُعطيها ما له أي حياتَه التي لا تنضُب ولا يعتريها تحوّل!
إكرامُ الميت والصلاةُ لأجله عادةٌ ضاربةٌ في القِدَم لدى شعوب الأرض طُرّاً ولنا في سِفرَي “نحميا” و”المكابيين الثاني” شهاداتٌ على مِثلِ تلك الممارسات … ثمَّ إنّ بولس الرسول، إذ يستذكر الراقد “أونيسفورس” يقول “ليُعطه الربُّ أن يجد رحمةً في ذلك اليوم ” (2 تيم 1 :18)
كيف لا وجميعُنا، أحياءً كُنّا أم أمواتاً، أعضاءٌ في جسدِ المسيح (1 كور 12: 27)؟
الحقيقةُ أنّ الكنيسة، ناهيك عن الأيام الخاصة التي خُصِّصَتْ لتذكار الراقدين بحسب الطقوس المختلفة والمدارس الليترجيَّة المتنوّعة، تنطلق من قوانين الرُّسُل الأطهار وتعاليم الآباء القديسين … لتُرشدنا إلى عدد الذكرانيات التي يُفضّلُ الاحتفالُ بها بعد انتقال أحد المؤمنين.
يذكر كتابُ قوانين الرُّسُل ويشيرُ عددٌ من آباء الكنيسة كمِثل القدّيس غريغوريوس اللاهوتي وسمعان التسالونيكي وإسيذوروس البيلوسي وسواهم ….. أنّ الصّلاة لأجل الميت ينبغي أن تُقام في اليوم الثالث لوفاته استذكاراً لقيامة المخلّص له المجد.
يُحتفل بخدمة الراقدين أيضاً في اليوم التاسع لنياح المؤمن في إشارةٍ إلى عدد الطغمات الملائكية… ثمَّ في اليوم الأربعين إذ إنّ اليهود بكوا موسى أربعين يوماً
القدّيس غريغوريوس الثاولوغُس يتحدّث عن جنّاز السنة والقديس سمعان التسالونيكي يرى أنَّ صلاة اليوم الثالث تشير إلى كَون المتوفي قد حصل على وجوده بفضل الثالوث القدوس وأنّه في اليوم التاسع تنضمّ روحُه إلى مواكب الملائكة.
أمّا في شرحه لصلاة اليوم الأربعين فيقول القدّيس سمعان إنّ ذلك إنما يُشير إلى الصعود الإلهي … وكما صَعِدَ يسوع إلى أبيه في اليوم الأربعين لقيامته المجيدة؛ فسيصعد الراقدُ كذلك عند تمام الأربعين ليمثُل أمام المنبر الرهيب العادل !
في شرحٍ آخر لرمزيّة مواقيت الصّلاة لأجل الراقدين، نجد أنّ صلاة اليوم الثالث ترتبط بتشوّه وجه الميت في القبر ثالث يوم … ثمَّ إنّ اليوم التاسع لوفاته يشهدُ على بدء تفكُّك الجبلة دون القلب. أما في اليوم الأربعين، فتُقام الصىلاة لأجل السابق نياحُه بسبب فناء قلبه …. لما للقلب من أهميّةٍ بيولوجيةٍ ورمزيّةٍ روحيّةٍ!
هذا التحليل يتعلّق بمُعتقدٍ قديم يرى أنّ التكوين البشري للإنسان يتمُّ على هذا النحو؛ ففي اليوم الثالث للتلقيح يتصوّر الفؤاد وفي اليوم التاسع يتجمَّد الجسد وفي الأربعين يرتسم البدنُ إلى منظر ٍ كاملٍ.
صلاتُنا إلى الربّ يسوع أن يسكُب على موتانا السابق انتقالُهم إليه، فيضاً سخيًّا من رضوانه ويجعلنا
مستحقّين معاينة مجده الذي لا يُدنى منه . آمين.
أنطر كتاب “الذكرانيات المقدّسة” تأليف الراهب بندكتوس من الجبل المقدس، ترجمة راهبات دير السيدة بلمانا 2006، ص. 25 -27.
أنظر كتاب “التريوديون الخشوعي”، المنشورات الأرثوذكسية، الطبعة الثانية 1996 ص. 18.