في جسَدي أعِيش القيامة”

بقلم الأب فادي مسلّم،

يَبقى الموت منذ الخلق لُغزاً مخيفاً للإنسان، لأنّه هو الحقل الوحيد الّذي يَستحيل على الإنسان معرفته بالاختبار، كَونه يَختبره بالآخرين؛ وموت الجسد، يشكِّل الفشل الذريع للوجود الإنسانيّ، لأنّه يَفصله عن عالَمه الأرضيّ ويُدخله في الاِنحلال. ولكن هذا القول يَصحّ فقط عند الّذين يحدِّدون الإنسان «بالجسد». صحيحٌ أنّه ظاهريّاً، ألجسد هو شيءٌ يُمكن وصفه وتحليله ويفرض وجوده في مساحةٍ معيّنةٍ؛ وجسدي يشكّل حضوري في العالم، وخارجاً عنه لا أكون، وهو الوسيلة التي تَجعلني أعيش العلاقة بالآخرين وباللّه؛ بِوساطته أصلّي وأعمل، وهو يدلّ على تاريخي وعُمري من خلال الشعر الأبيض والتجعّدات، وموته وانحلاله يَدُلاّنِ على غِيابي ونِهايتي.

ولكن الإنسان ليس جسداً وحسب، لأنّ حقيقتَه أعمق من مَظهره الجسديّ وهي تتخطاه. مِن الممكن أنْ أكون حاضراً بِجسدي في مكان معيَّن، ولكنّي لا أكون حاضراً بِروحي؛ فالجسد إذن، مُعطَى لنا كوسيلةٍ من خلالها يَظهر الرّوح ويعبِّر عن ذاته، وحقيقة الإنسان تَكمن في هذه الوحدة التي تربط بين الجسد والرّوح كارتباط الصّوت بالكلمة والعقل بالمعرفة. فالجسد بدون روحٍ يُصبِح جثّةً هامدةً، لا تعبِّر عن حقيقة وجوهر الإنسان. فالجسد الإنسانيّ هو الّذي يكشف عن حقيقة الرّوح، والأعمال الأكثر روحيّة تتحقّق بِوساطة الجسد؛ ليس الرّوح الّذي يُصلّي بل الإنسان بِجسده. يقول القدّيس أغسطينس: «إنْ لم تصبحوا روحانيّين في عمق أجسادكم، تُصبحون جسدِيّين في صميم روحكم». فالتناغم بين الجسد والرّوح، هو مسيرةٌ يقوم فيها الإنسان بِمعونة الله، لِيَصير على صورته؛ وهذا يبقى رَهن صُنعِنا، لأنّ مهمَّتنا هي أنْ نجعلَ الرّوح بِإرادتنا وحرّيتنا، يقودُنا كما قاد يسوع طوال حياته الجسديّة، لِنَصير في صورة بشريّته. وهذا ما تؤول إليه ممارسة الأسرار في الحياة المسيحيّة.

في المعموديّة، نُعتَق من الولادة الجسديّة المادّية، فتَسقط فيها ترابيّتُنا لِنولد ثانيّةً بالرّوح؛ فيَمنحنا الربّ مواهب الرّوح القدس في سِرّ المَيرون، لِنُجاهد الجهاد الحسَن ونَستحقّ المشاركة بِجسد الربّ ودمه في سِرّ الافخارستيّا التي هي عُربون قيامتنا، لأنّه بها تتّحد أجسادنا بِجسد القائم من الموت. وإن ثقُلَت علينا التجارب وأسقَطَتنا، يعود الربّ ويُقيمنا معه من جديد بِوساطة سِرّ التوبة، فنَختبر عندئذ موت المسيح وقيامته في أجسادنا. 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp