“قلبًا نقيًّا اخْلُق فيَّ يا الله…” (مز١٠:٥١)
بقلم الأباتي سمعان أبو عبدو،
حانَ الوَقتُ وَاقتَرَبَ مَلَكوتُ الله، وبالتّالي لم يَعُد الارتداد يَعني العَودة إلى الوراء، وإنّما القيام بِقفزةٍ إلى الأمام والدّخول إلى الملكوت، والتّمسُّك بالخلاص الّذي أتى إلى البشريّة بِشكلٍ مجّانيٍّ، من خلال مُبادرة الله الحرّة والمـُطلَقة. عندما نَجتاز “بريّة” زَمن الصّوم، فإنّنا نَتطلّع نحو القيامة التي هي انْتصارُ يسوع النِهائيّ والأخير على الشّرير والخطيئة والموت. السّير بِكلّ حزمٍ على دَرب يسوع، الدّرب المؤدِّية إلى الحياة، والنّظر إلى يسوع، وإلى ما صنَع والسَّير بِصحبتِه.
زَمن الصّوم فيه تمرينٌ داخليٌّ، يَتناول الجسد والنّفس والقلب وما فيها من أهواءٍ وميولٍ ومشاعرَ وعواطف. الإنسان الصّائم مَدعوٌّ إلى أنْ يُسامح، وأنْ يُعطي الغُفران. والغُفران فيه وصولٌ إلى المحبّة، والمحبّة هي كلّ شيءٍ في المسيحيّة. ومتى وَجَد الإنسان المحبّة وَجد الله المحبّة؛ وهذا ما يَعنيه قَول الإنجيل: “فإن تَغفِروا للنّاس زلاَّتِهِم يَغفِر لكم أبوكم السّماويّ زلاَّتكم” (متى 14:6). المحبّة لا تُقابلها إلاّ المحبة.
في الصّوم نَنظر إلى حقيقة أنفسِنا، هو الزّمن المناسِب لكي نَتُوب، ونَنظر إلى داخلِنا ونُسقِط الأقنعة التي نَرتديها كلّ يومٍ، وأنْ نُكافِح ضدّ الأنانيّة واللامبالاة والزّور والنّفاق في أنفسِنا، لِنَحصَل على حريّة القلب ونَنفتِح على الخلاص الّذي استَحقّه لنا المسيح، فنَدخل إلى مَدرسة يسوع، ونَتشبَّه بِصومِه، هو الّذي بَدأ حياتَه العلنيّة بالصّوم أربعِين يومًا بَعد عِماده (متى 4: 1 – 11).
النّبي موسى صام أربعِينَ يومًا على جَبل سيناء قَبْل أنْ يَستلم الوصايا العشر (خر 34: 28) وسار إيليا إلى جبل حوريب لا يأكل ولا يَشرب أربعِين يومًا حتّى تراءى الله له (1 مل 19: 8). أمّا دانيال فقد أعطاه الله فَهمًا ومَعرفةً بعدما صام ثلاثة أسابيع (دا 17:1 و10: 2 – 21). كذلك “نادى أهل نينوى بِصومٍ ولبِسوا مُسوحًا مِن كبيرهم إلى صغيرهم” (يونان 3 :5) عندما أعلَن لهم يونان غضَب الرّب عليهم.
الصّوم هو زَمن الحِسّ بما هو مُقدَّس، الزّمن المميّز لِعَيْش خبرةٍ حقيقيّةٍ مع الله، والانطلاق إليه بِتوبةٍ صادقةٍ، مُنصِتِين إلى صوتِه يَهمِس في قلوبِنا. إنّه سَعْيٌ إلى إسقاط المسافات والجدران وقَبول الآخر المختلف. فيه إطلالةٌ فِصحيّةٌ جديدةٌ مبنيّةٌ على التّغيير في العلاقة مع الله ومع الذّات ومع النّاس بِأعمال الرّحمة والمحبّة والتّصدُّق من أجل بِناء الأخوّة وتَعزيز السّلام.