صباح الخير أحبّائي،

اليوم، تحتفل كنيستنا المارونيّة بالأحد الجديد، في حين أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تحتفل بعيد القيامة المجيدة. لذا أطلب منكم، كما تُصلُّون لأمواتكم، أن تُصلُّوا أيضًا من أجل وَحدة الكنائس،كي يضع الربُّ نِعمتَه في قلوب المسؤولِين الكنسيِّين جميعًا مِن دون استثناء، فيَعمَلوا على توحيد الاحتفال في عيد الفِصح عند جميع الجماعات المسيحيّة في العالم. بعد انتقالنا من هذا العالم، وعند وقوفنا أمام عرش الربّ في الملكوت، سنُحاسَب لا على انتماءاتنا الطائفيّة الّتي هي مِن صناعة بشريّة لتقسيم الكنيسة، إنَّما على أعمال الخير الّتي قُمنا بها، وعلى أعمال المحبّة الّتي عِشناها مع إخوتنا في هذه الحياة الأرضيّة.
إنَّ كنيسة مار يوسف، كما كنائس عديدة في العالم، كاثوليكيّة وأرثوذكسيّة، وخاصّةً في الشرق الأوسط، وتحديدًا في لبنان، تَذكُر موتاها من خلال جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّتي تأسَّست في لبنان مِن سنواتٍ قليلة. وهنا، أودُّ أن أشكر السيِّدة الّتي تهتَّم بهذه الجماعة الجميلة والصَّغيرة في هذه الرعيّة. إنَّ هذه الجماعة قد ازدادت انتشارًا في كندا مؤخَّرًا، إذ أصبحت موجودة في عدَّة رعايا وعدَّة مقاطعات: أوتاوا وتورنتو ومونتريال، ولا زالت في تَوسُّعٍ دائم. إنَّ هَدَف هذه الجماعة هو ذِكر الموتى المؤمِنِين في الصّلاة، وهي تلتقي مرَّةً في الشَّهر، ومَن أراد منكم الحصول على معلوماتٍ إضافيّة حول هذه الجماعة، يستطيع طَرح أسئلته على السَّيدة لور في نهاية القدَّاس، لإفادتكم حول هَدَف هذه الجماعة وعملِها في الرعيّة.

في هذا الأحد الأوّل بعد القيامة، اختارَتْ لنا الكنيسة نصًّا مِن رسائل القدِّيس بولس، يركِّز فيه الرَّسول على ثلاث أفكار أساسيّة:
أوَّلاً: لم يكن بولس الرَّسول مِن بين الرُّسل الاثني عشر، فهو لم يتمكَّن من معرفة يسوع جسديًّا، أي أنّه لم يتمكَّن من رؤيته بعيون الجسد ولا مخالطته في حياته اليوميّة، كما هي حال بقيّة الرُّسل. ولكنَّ بولس الرَّسول قد تعرَّف إلى الربِّ بالإيمان، فكَتَب رسائل عديدة للمؤمِنِين حَثَّهم من خلالها على الإسراع إلى اقتبال المعموديّة، وإعلان إيمانهم بالربّ، لأنّ “ملكوت الله قريب”، إذ بالنِّسبة لمار بولس، ملكوت الربِّ آتٍ في السَّنوات القليلة القادمة. في الرِّسالة الَّتي تُلِيَت على مسامِعنا اليوم، يُخبرنا بولس الرَّسول أنَّ على المؤمِن الشَّهادة للربّ، فالإيمان لا يُعبَّر عنه إلّا بالشَّهادة.

ثانيًا: يُضيف بولس الرَّسول في رسالته هذه، أنَّ المؤمِن يُصبح سفيرًا للربّ، نتيجة شهادَته لإيمانه، لذا يستخدم بولس الرَّسول عبارة: “سفراء المسيح”. إنَّ السَّفير يمثِّل دَولته الّتي أرسلَته لمهمَّة تمثيلها في المجتمعات الدَّوليّة، لذا عليه أن ينقل للآخَرين بكلِّ أمانة، ما يُعبِّر عن سياسة دَولته ومعتقداتها، لا معتقداته الخاصَّة، فالسَّفير لا يمثِّل ذاته بل يمثِّل دولته، أي أنَّه يُصبح لديه التزام مَعنويّ تجاه دَولته بحكم المسؤوليّة. فمثلًا أنا أسقفٌ في الكنيسة المارونيّة، عليّ أن أنقل للمؤمِنِين العقائد الإيمانيّة، لا معتقداتي وآرائي الخاصّة. إنَّ مار بولس الّذي لم يتعرَّف إلى الربِّ بعيون الجسد، بل بعيون الإيمان فقط، قد أصبح أهمَّ سفيرٍ للربّ، إذ لم يكتب أحدٌ من الرُّسل كما كَتَب بولس الرَّسول ولا بِقَدر ما كتب، وقد قاده حبَّه للمسيح إلى الاستشهاد، شهادةً لحضور المسيح في حياته.

ثالثًا: في هذه الرِّسالة، يدعونا بولس الرَّسول إلى نقل هذه الحالة الإيمانيّة من المجتمع الّذي نعيش فيه إلى المجتمعات الأُخرى. وهذه الرِّسالة تأتي بالتَّوازن مع الإنجيل: فالإنجيل يكلِّمنا عن الرَّسول توما، الّذي عاش مع الربِّ واختبره، ورأى عجائبه، ولكنَّه شَكَّ في قيامة الربِّ، على عكس بولس الرَّسول الّذي لم يتمكَّن من اختبار الربِّ جسديًّا، إنَّما فقط إيمانيًّا، ولكنَّه أصبح سفيرًا للربِّ وكلَّمنا عن الإيمان كبقيّة الرُّسل الّذين تتلمَذوا على يد الربِّ يسوع. بعد شكِّ توما، اضطرَّ الربُّ للظُّهور للرَّسول ليؤكِّد له حقيقة القيامة، طالبًا منه أن يتحسَّس جروحاته الخمسة. بعد أن تأكَّد الرَّسول من قيامة الربّ، انطلق توما في العالم كلِّه مبشِّرًا بها، ووصل ببشارته إلى مِصر والهِند.

إنَّ الكنيسة تعرِضُ علينا الحالة الّتي عاشها كلٌّ مِن هَذَين الرَّسولَين، توما وبولس، لتَحُثَّنا على طَرح السؤال على ذواتنا، في هذا الأحد، الأحد الجديد: مِثل أيِّ رسولٍ من هَذَين الرَّسولَين نرغب أن نكون في حياتنا: مِثلُ توما الّذي شكَّ بقيامة الربِّ يسوع على الرُّغم من اختباره الأرضيّ، والّذي لا يتأكَّد من إيمانه إلّا من خلال ظهور الربِّ له؛ أم مِثل بولس الرَّسول الّذي اختبر الربَّ بالإيمان فقط، وقد تحوَّل بعد ذلك إلى أحد أهمّ “سفراء المسيح”؟ في سَبْتِ النُّور، عند المسحيِّين الأرثوذكس، تنطلق شُعلَة النُّور مِن قبر المسيح، وينتظر وصولها إلى بلادهم بلهفة، جميع المسيحيِّين في العالم كلِّه. 

ولكنَّ السؤال الّذي يُطرَح: هل نحن بحاجة إلى هذه الشُّعلة، للإيمان بقيامة الربّ، أم أنَّ هذه الشُّعلة تُساعدنا على النُّمو في الإيمان والثَّبات فيه؟ هل إيماننا بالربِّ مَبنيّ على الشُّعلة المقدَّسة، أم على مواعيد المعموديّة الّتي نِلناها عند اقتبالنا المسيح في حياتنا؟ في حياتنا اليوميّة، قد نتعرَّض لصعوباتٍ تُثَبِّتنا وتقوِّينا وتُعطينا زَخمًا إيمانيًّا وتُدخلُنا أكثر في حياة المسيح وتُدخله إلى حياتنا. إنَّ انطلاق “شُعلَة النُّور مِن قبر المسيح” لا تمنحنا الإيمان بالربِّ يسوع، إنّما يزداد إيماننا من خلالها وبِقدر ما نفعِّله في حياتنا من خلال وَضْع طاقتنا في خدمة الآخَرين. إنَّ شعلة النُور تشجِّع المؤمِن على الاستمرار في ممارسة أعمال المحبّة والقيام بالتَّضحيات في سبيل الآخَرين من أجل المسيح، إذ يجد في ما يقوم به من أعمالٍ مَعنىً وجدوى.

في الأحد الجديد، أي بعد أن مَضى أسبوع على اختبار الرُّسل لحَدَث القيامة، نجد ذواتنا أمام حالَتين: حالة توما الرَّسول، وحالة بولس الرَّسول. وهنا يُطرَح علينا السُّؤال: هل إيماننا قويّ لنقولَ عن ذواتنا إنّنا حقًّا “سُفراء المسيح”، كما قال لنا بولس الرَّسول في رسالة اليوم؟ هل نملك القناعة الكافية بأنَّ معموديّتنا قد جَعلَتنا حقًّا أبناءً وبنات لله، أي هل نشعر حقًا بحضور الله في حياتنا، على الرُّغم من كلِّ الصُّعوبات الّتي تعترِضنا؟ أم أنّنا نُشكِّك في إيماننا بالربِّ عند كلِّ صعوبة، ونطالب الربَّ بظهور إلهيّ ليؤكِّد لنا صِحةَ إيماننا به، وأنّه حقَّا إلهُنا؟ هذا هو السُّؤال الّذي نطرحه على ذواتنا عند كلِّ لقاء لنا بالقربانة المقدَّسة في الذبيحة الإلهيّة، فنتَّخِذ القرار بإكمال المسيرة مع الربِّ أم بإنهائها. 

بالطبع، على المؤمِنِين أن يشجِّعوا بعضهم البعض، على متابعة المسيرة الإيمانيّة، فيكونوا شعبًا مؤمِنًا، وسُفراء للمسيح في عالَمِنا اليوم. إنَّنا جميعًا مُعرَّضون للوقوع في الخطيئة بسبب جَبْلَتِنا الضَّعيفة، ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح هو: هل نحن حقًّا “سُفراء المسيح”، أي هل نحن نحمل حقًّا يسوع في قلوبنا، ونحمل حُبَّ القيامة وتضحيتها في قلوبنا؟ هل نحمل الضُّعفاء في حياتنا؟ ما مِن أحدٍ معصوم عن الخطأ، ولكنّ المطلوب هو ألّا نخسر تلك الالتفاتة نحو الآخَرين الّذين يحتاجون إلينا: المهمَّشين والفقراء. ليس الفقير هو الفقير بالمال، إذ إنّ هناك كثيرٌ مِن أغنياء كُثُرًا فقراء، وفقراء كثيرين أغنياء. وبالتّالي ليس المال هُوَ مَا يُحدِّد الغِنى في هذه الحياة، فالأخلاق ومحبّة الآخَر هما اللّتان تُحدِّدان معنى الغنى الحقيقيّ في هذا العالم. فالغنى عند يسوع مَرهونٌ بعطفِنا على البشريّة الضَّعيفة، مرهونٌ بصلاتنا من أجل أمواتنا، مرهونٌ بانتباهِنا لعائلاتنا وللقِيَم الّتي نؤمِن بها. فهذه الدُّنيا، كما كانت تقول جدَّتي، مبنيّة على حُسن المعاملة مع الآخَرين.

في هذه المناسبة، أودُّ أن نُصلِّي من أجل موتى جميع الحاضرين ههنا، وجميع الموتى المؤمِنِين. كما أودُّ أن أشكر جميع الّذين يدفعوننا إلى الصّلاة من أجل موتانا، وبخاصّة الأَنفس المطهريّة والأنفس المنقطعة الّتي لا تجد مَن يذكُرها، إذ إنَّ هناك الكثير مِن الّذين رَحلوا مِن هذه الدُّنيا، وأصبحوا في دُنيا الحقّ ولا أهلَ لهم أو أحبّاء يذكُرونهم في صلواتهم. واليوم، في هذه الحالة الروحيّة الّتي نعيشها كجماعة مؤمِنة، ونحن كـ”سُفراء المسيح”، نُصلِّي من أجل موتانا، الّذينَ سبقونا إلى الحياة الأبديّة، كما أطلب منكم أيضًا الصّلاة من أجل وَحدة الكنائس. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.