حضرة الآباء الأجلاء، أيها الأخوة الأحبّاء،

في هذا الأسبوع، أسبوع الحواريين حسب الطَّقس الماروني، الأسبوع الذي نعيش فيه زمن الفصح بقوَّةٍ وكأنَّنا نحتفلُ مع لصِّ اليمين الذي قال: “اذكرني يا رب متى أتيتَ في ملكوتك”، وقال له المسيح: “اليوم تكونُ مَعي في الفردوس”. وفي هذا الحدث نتأمَّلُ في نعمةِ الرَّبِّ وعطيَّتِه للبشريَّةِ، وكم كانَ كلامُ القدِّيس بولس الذي سَمعناه بليغاً في هذا المجال: “أنتم بالنِّعمةِ مُخلَّصون”، لا بأعمالٍ فعلتموها ؟ ولا لشيءٍ قُمْنا به، فـ “الخلاصُ عطيَّةٌ مجانيَّةٌ مِن الرَّبِّ” ومهما كان وَضْعُنا وأينما كُنَّا إذا اقتَبَلْنا هذه النِّعمة فنحنُ مُخلَّصون. وأفضلُ مثالٍ على الموقف الإيمانيِّ الحقيقيِّ هو من خلالِ هَذَين اللِّصَين. الاثنان خضَعا للعذاب ذاته وعاشا الحياة ذاتها. الأوَّلُ تفوَّهَ بكل لعنة لله والناس وكلِّ تجديفٍ، أمَّا الثَّاني فالتفتَ إلى المسيحِ وقال له: “اذكرني يا ربُّ متى أتيتَ في ملكوتك”. وهكذا ذهبَ الأوَّلُ إلى الهلاك مع خطيئَتِه وتجديفِه، أمَّا الثَّاني فتبرَّرَ ودخلَ إلى النُّور.
ومِن الأمور الأساسيَّة التي يُحدِّثُنا عنها الآباءُ الرُّوحيُّون فيما يخصُّ التَّواضعَ – لأنَّ الإقرارَ بالخطيئةِ يتطلَّبُ تواضعاً – أنَّ التَّواضعَ هو بابُ الملكوتِ. ومِنَ وسائِل عيش التَّواضع أن نتذكَّرَ ذلك الكلامَ من سِفرِ الحكمةِ في فَصلِهِ السَّابع: “أنا إنسانٌ يموتُ ولذلكَ التمسْتُ الحكمةَ وروحَ الله” هذا ما يعني أنَّنا بشرٌ ذاهبون، أنَّ كلَّ واحدٍ مِنَّا إنسانٌ يموتُ، أنَّنا كما نُردِّدُ في ليتورجيَّتنا المارونية يوم اثنين
الرَّماد: “اذكر يا إنسانُ أنَّكَ ترابٌ وإلى التُّرابِ تعودُ”. قوَّةُ الحياةِ والقدرةُ على القيامةِ ليسَتْ مِنكَ أيُّها الإنسان، فهي عطيَّةٌ، هي النِّعمةُ. والله يُعطينا هذه القدرةَ وهذه النِّعمةَ.

وقد اجتمعْتُم اليومَ لنحتفلَ معاً بهذه الذَّبيحة – جماعة “اذكرني في ملكوتك” – وأتيتُم من مناطقَ مختلفةٍ من لبنان لتَشهدوا للقيامةِ، لأنَّنا نحنُ المؤمنون عندما نتكلَّمُ عن الموتِ نتكلَّمُ عن القيامةِ، ولا معنى للموتِ عند المسيحيِّ إلَّا إذا اقترنَ بالقيامةِ، بتلكَ النِّعمةِ التي أعطانا إيَّاها الرَّبُّ. وكما يقولُ القدِّيسُ بولس: “دُفِنتُم مَعَه لتقوموا مَعَه”. تموتون أيضاً كما سمعتُم في هذا النَّصِّ عن إنسانِنا القديم، إنسانِ الخطيئةِ المستعبَدِ مِنَ الشَّهوات، لنقوم للإنسانِ الجديدِ، الإنسانِ على صورةِ الله بالبرّ والحق.
وهكذا المشروع الذي وضعتُموهُ في ذواتِكم، أن تعيشوا في ذكرى الَّذين سبقونا وأن نتذكَّرَ نحنُ أيضاً أنَّنا بشرٌ محدود نلتمسُ الحكمةَ وروحَ الله. نلتمسُ تلكَ النِّعمةَ التي أُعطينا بذورَها في العمادِ، والتي نحملُها وحملَها أمواتُنا، ونُعلنُ في الوقتِ عَينهِ أنَّ أمواتَنا يشاركونَنا ذلك الحضورَ الإلهيَّ. اللهُ، روحُ الله، حكمةُ الله كانت فيهم، تُعطَى لنا وتُعطى لمن يأتي بعدنا، سوف نقبلُها كلصِّ اليمينِ ونتوجَّهُ إلى الله ونقولُ له: “اذكرني في ملكوتك” .

نرفعُ الصَّلاةَ معكم اليومَ كي يتحقَّقَ مشروعُكم فعلاً فيُصبِحَ شهادةً للإيمان، شهادةً للكنيسة. وكما نُحدِّدُها في التَّحديداتِ اللَّاهوتيَّةِ، كنيسةُ الأرضِ، الكنيسةُ المجاهدةُ، الكنيسةُ المتألِّمةُ والكنيسةُ الممجَّدةُ. وعملُكُم ومشروعُكُم هو شهادةٌ لهذهِ الكنيسةِ، وَحدةِ الكنيسة، وَحدةِ البشريَّةِ، فالمسيحُ كما يُذكِّرُنا إنجيلُ القدِّيسِ مرقس في هذا اليوم بالذَّات لم يحصرِ البشارة في منطقةٍ معيَّنةٍ أو مجتمعٍ مُعيَّنٍ أو عِرقٍ مُعيَّنٍ: “اذهبوا إلى العالمِ كلِّهِ دونَ استثناءٍ، دونَ حواجزَ”. وسمعْتُ عن مشروعِكُم أنَّه ينتشرُ من لبنان إلى الأميركيَّتَين. اذهبوا إلى العالم كلِّه واشهدوا دوماً للقيامةِ، اشهدوا للكنيسةِ ولوحدةِ الكنيسة. وما يُسعدُني هو أن يُشاركَ مَعَنا كهنةٌ من أخوانِنا في الكنيسةِ الأرثوذكسيَّة، فبمشاركَتِهم نشهدُ لوحدةِ الإيمانِ، لوحدةِ الكنيسةِ بالرَّغم من تعثُّراتِ التَّاريخ، فالمسيحُ واحدٌ والكنيسةُ واحدةٌ وكلُّنا نتطلَّعُ إلى المسيحِ ونقولُ له: “اذكرني متى أتيتَ في ملكوتِكَ”.

نرفعُ هذه الذَّبيحةَ أيُّها الأحبَّةُ ونذكرُ أمواتكم وأمواتنا والأموات الذين لا أحدَ يذكرُهم. نرفعُهُم مع القربانِ اليومَ طالبينَ من الله أن يسمعَ صوتَنا باسمِهم ومعهُم:”اذكرني يا الله متى أتيتَ في ملكوتِكَ” فيُسكِنَهم فَسيحَ ملكوتِهِ. وُنصلِّي من أجلِ جميعِ المحسنينَ إلى الكنيسة وإلى نشاطاتِكُم طالبينَ من اللهِ أن يكافِئَهم بفيض من النعمةِ التي سمِعْنا عنها في رسالةِ القدِّيس بولس، آمين.

ملاحظة: دُوِّنَت العظة بأمانةٍ من قبلنا.