القدّاس الاحتفاليّ في عيد القيامة المجيدة،

كنيسة رقاد السيّدة- المحيدثة، المتن.

عظة القدّاس الإلهيّ للأب ملحم الحوراني، خادم الرعيّة:

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين

أيّها الآباء الأجلّاء، يا إخوتي، يا جميع الّذين يُحبّون “اُذكرني في ملكوتك”،

ما هو سرّ المسيحيّة؟ المسيحيّة هي قومٌ أرادوا أن يُعطوا فرحاً في الأرض، كما أرادوا ألّا نعيش بشراً على الأرض. المسيحيّة هي ناسٌ نظروا إلى المسيح القائم من بين الأموات، وقالوا “هكذا نحن، وهكذا سنصنع أيّامنا وسنين عمرنا كلّه”، فكان الفصح أمراً يوميّاً في الكنيسة. والمسيحيّة هي قومٌ تعرّضوا للحزن _فَمَن منّا لم يأخذ الموتُ منه أحداً يُحبّه_، ولكنّ المسيحيّة غالِبةُ الحزن، فلا يُمكن للحزن أن يتغلّب على فرحنا.
إخوتُنا وأخواتُنا في “اُذكرني في ملكوتك” هم صورةٌ عن المسيحيّة. لقد أرادوا أن يقولوا إنّ الحزن حاضِرٌ دائماً، ولكنّنا سنستعدّ له، سنمسح كلّ دمعةٍ من عيون النّاس وعيوننا، فَتكون قلوبنا مُشعّةً بنور قبر المسيح الّذي قام من بين الأموات.

أريد، اليوم، أن أتكلّم على أمريْن. الأمر الأوّل هو أنّنا نُواجه، كلّ يومٍ، موتَ إنسانٍ ما. البشر يموتون فكلّنا مُكوّنون من لحمٍ ودمٍ، نحن وعائلاتنا، وأقرباؤنا وأصدقاؤنا، ونتعرّض للموت، فكيف نُعالج ذلك؟ أردتُ أن أختار آيةً من إنجيل يوحنّا، من خطاب المسيح الوداعيّ في الإصحاح السّادس عشر، يقول فيها المسيح: “المرأة حين تَلِدُ تحزن لأنّ ساعتها قد جاءت، ولكنّها متى وَلدَت الطّفل، لا تعود تذكر الشّدّة لأجل الفرح لأنّ إنساناً قد وُلِدَ في العالم”. كيف نفهم هذه الآية والنّاس يموتون؟ إذا شرحْنا هذه الآية في سياقها الحَرفيّ التاريخيّ، نفهم أن المسيح فيها يُودّع تلاميذه قائلاً إنّها ستأتي ساعةٌ يرحل فيها ويتركهم، سيُصلب ويموت ويقوم من بين الأموات، وهم سيبقَوْن على الأرض كي يشهدوا على ذلك، كما أنّهم سيحزنون حزناً مؤقّتاً ولكنّه سرعان ما سيتحوّل إلى فرحٍ يُشبه فرح المرأة الّتي تَلِد.
فهِمنا هذه الآية في سياقها التاريخيّ. ولكن، إذا مات أحدهم، كيف نفهمها؟
المرأة، اليوم، هي المجموعة الكَنسيّة، الجماعة المؤمنة. يقول: “المرأة وهي تلد تحزن”. حياتنا على الأرض هي تحضير لحياتنا في ملكوت السّموات، وعندما ينطلق أحدنا من هنا إلى السّماء، يولد في ملكوت السّموات. أنتم موجودون، الآن، في كنيسة رُقاد السّيدة. أنظروا إلى هذه الأيقونة الصّغيرة الموجودة قرب الشّمعة، تُلاحِظون العذراء في عيد رقادها في الخامس عشر من شهر آب. عندما رقدت السّيّدة، والدة الإله، رسم الرّسام السّيّدة مُمَدّدة على منضدة يُودّعها الرّسُل، ولكنّه رسم، في يد ابنها يسوع، القائم في المجد، طفلةً مُقمّطةً بأقمطةٍ بيضاء، يرفعها، وكأنّ الكنيسة تقول إنّه عندما يموت الإنسان هنا يولد فوق.

سأعيد قراءة الآية بعد أن شُرحت: “المرأة (أيْ نحن) وهي تلد (إلى فوق) تحزن (طبعاً نحزن إن تركنا أحدهم، ولكن ليس كحزن الّذين لا رجاء لهم) لأنّ ساعتها قد جاءت، ولكنّها، متى ولدت الطّفل (إلى فوق)، لا تعود تذكر الشّدّة (لحظة رقاد ابن الجماعة) نتيجة الفرح، لأنّ إنساناً قد وُلِدَ في العالم (العالم الحقيقيّ)”.

هذه الأرض ليست العالم إنّما هي صورة عنه. أمّا العالم الحقيقيّ فهو فوق، ونحن، من هناك، نرى هذا العالم أي الأرض، لذلك هو لا يعنينا إلى حدّ كبير على الرّغم من أنّنا نولد فيه ونتعلّم فيه ونعمل فيه ونتعب فيه ونتزوّج فيه وننجب الأطفال فيه. هناك أمور تُتعبنا، في هذا العالم، ولكن مكافآتها هي في العالم الحقيقيّ. هذا هو الأمر الأوّل الّذي أردتُ أن أقوله لكم اليوم.

أمّا الأمر الثّاني فهو أنّنا، في هذا الأحد، قرأنا من الإصحاح العشرين من إنجيل يوحنّا المقطع الّذي يتكلّم على توما الرّسول. يقول هذا الإنجيل إنّه في يوم القيامة، ظهر المسيح على تلاميذه عشيّة ذلك اليوم والأبواب مُغلقة وكان التّلاميذ مجتمعين خوفاً من اليهود، فظهر المسيح في وسطهم وقال: “السّلام لكم”. من الجانب الخارجيّ هم خائفون، أمّا من الجانب الدّاخليّ فهم يشعرون بالسّلام. ذلك يُظهر لنا كم أنّ مسيحنا يُرافقنا من الدّاخل، أي أنّ المهمّ أن نكون في الدّاخل لأنّ هناك بعض النّاس الّذين يبقَوْن في الخارج فيشعرون بالخوف. بالطّبع، نحن لا نُحبّ أن نعيش في الخوف والحزن دائماً، لذلك ندخل الكنيسة حيث يُعطينا مسيحنا، الّذي قام من بين الأموات، السّلام.

ولكن في هذا الاجتماع الّذي حصل بعد ظهر يوم القيامة، كان واحد من التّلاميذ غائباً وهو توما. ولأنّ المسيحَ حريصٌ على كلّ غائبٍ منّا، ظهر مرّةً ثانيةً الظّهور نفسه بِحضور توما، وهو العضو الضّعيف في الجماعة، يُمثّل الشّخصيّة الضّعيفة الموجودة في داخلنا، الّتي تعبَتْ، شعرتْ بالشّك، مرضتْ، حزنتْ والّتي رفض يسوع أن يتركها، فظهر عليهم من جديد بعد ثمانية أيّام، لم ينظر إلى توما فقط قائلاً له “السّلام لك”، فهو لا يُوزّع سلامه فرديّاً، ولكنه يُعطيه إلى الجماعة كلّها. ونحن إذا أردنا السّلام، علينا أن نكون في الجماعة، فانتسابنا إليها هو الّذي يُعطينا السّلام.

قال لهم المسيح “السّلام لكم”، وخصوصاً السّلام للّذي كان غائباً في المرّة الماضية، وهو توما الّذي يشكّ، وأعطاهم السّلام نفسه في اليوم الثّامن. قام المسيح من الموت يوم الأحد وقد اعتبرنا أنّ القيامة هي أمر يحصل في الآخرة، في اليوم الثّامن أيّ في اليوم الأخير، اليوم الّذي هو من خارج الزّمن. لا وجود لليوم الثّامن في الأسبوع الواحد. إلّا أنّ الكنيسة تُعيّد لهذا اليوم الثّامن، اليوم الّذي قام فيه الرّبّ وهو اليوم الأخير. فالمسيح قام وعبَر الزمن إلى ذلك النّهار الأخير، مثل الثّمرة الّتي تنضج قبل أن يحين وقت نضوجها (باكورة). لقد قام في اليوم الثّامن الأخير منذ 2014 سنة. إذاً أدخلَنا المسيح في الزّمن الأخير، بسبب قيامته.

قالت الكنيسة إنّ يوم قيامة يسوع لن يكون فقط اليوم الثّامن، بل سنصنع من كلّ أحد يوماً ثامناً خارج الزّمن، حتّى نستطيع أن نعيش القيامة. فالمؤمنون الذين يحبون أن يعيشوا في ذلك الزمن، فليأتوا ويُصلّوا مع  الجماعة لأنّ المسيح يظهر في اليوم الثامن ويعُطي سلامَه لجميع الذين في البيت.

لقد جئنا، اليوم، للاحتفال بالذّكرى السّنويّة لهذه المجموعة الحلوة، “أذكرني في ملكوتك”، الّتي أرادت أن تُظهر الفرح على الرّغم من الحزن. فأينما تنظر، ترى العذاب والتّعب والحزن، ولكن عندما تُصبح في الدّاخل، داخل الجماعة المسيحيّة، تجد الفرح الّذي يستطيع أن يُشعّ فيها وفيك عندما تنتسب إليها، ثم يشعّ في العالم كلّه. لقد جئنا كي نحتفل بهذا العيد السّنويّ الذي أحبّت هذه الجماعة أن يكون في زمن القيامة. وفي هذه المرّة، نستقبلكم في كنيستنا بفرحٍ كبيرٍ.

فلنكتَسبْ إذاً معاني هذا العيد ونعِشِ الفرح الآن، وفي الآخرة ابتداءً من الآن، أو بالأحرى فَلْندَعِ الآخرة تكون معنا منذ الآن، لأنّ مَن حولنا متعَبون وبحاجة إلى مَن يُعزّيهم. إذا كنّا مَن يكتب عليهم المسيحُ قيامتَه اليوم، لن يكون هذا العيد عيد “توما” بل عيد كلّ منكم، وعيد كلّ مَن كان غائباً في الصّباح، وعيد كلٍّ منّا انتسب إلى المسيح، ويُظهر أنّه يحمل شعلة قيامته الّتي ستخرج من الكنيسة وتُشعل العالم، حتّى يكون مُضاءً بنور يسوع القائم من بين الأموات.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp