القدّاس الاحتفاليّ في عيد القيامة المجيدة،
كنيسة سيّدة الخلاص – مرجبا، المتن.
كلمة ترحيب للخوري يوسف الخوري – خادم الرعيّة:
“الله روحٌ وبالرّوح والحقّ يجب على العابدين أن يعبدوه” يو 4: 24.
تَفِدونَ إلينا مِن سماءِ القيامةِ، تتوافَدُونَ مِن وَمَع المسيح القائمِ من الموتِ، تَفِدُونَ بالرّوح والعقلِ في فِعلِ المشهد الإنجيليّ الأوّل على الصّليبِ، “أذكرني في ملكوتِكَ”، وفي فِعلِ المشهد الإنجيليّ الثّاني “لعازر والغنيّ وإخوته الخمسة”. أنتم اليوم بحضورِكم واحتفالاتِكم تُجسِّدونَ موسى والأنبياء، تُجسِّدون العقلَ والرّوح، تُجسِّدونَ الكلمةَ والرّوح فتظهر في الكلمة المتجسِّد، مُعلنين المسيح قام حقًّا قام، شاهِدِين على ألوهية الإنسان وإنسانيّة الإله، شاهدينَ على أنَّ تاريخَنا المتألِّم هو تاريخُ الكلمةِ حقًّا في يسوع المسيح، وصَيرُورَتَنا هي صَيرورَتُه وحياتَنا هيَ حياتُه. فتاريخُنا مستمِّرٌ، على اختلافٍ كلّي، في سعادةٍ غير متناهية، وفي ديناميّةِ رغباتٍ لا حدودَ لها. ولقد صدق القول المأثور: “الحياة تدول ولا تزول”.
وهذا ما يدلّ عليه في ما كتَبَ الفيلسوف جاك ماريتان، فيقول: “كما أنَّ الكلمة المتجسِّد كان له في الأرض، حياة إلهيّة وحياةٌ بشريّة على السَّواء، كذلك الطوباويّون في السَّماء قد دَخلوا الحياة الإلهيّة نفسَها بالمشاهدةِ، في حين يحيَون فيها أيضًا خارج المشاهدةِ، ولكن ضِمنَ إشعاعِها، حياةً بشريّة ممجَّدةً ومنوّرةً وبَينَهم تبادلٌ فكريّ، معبَّر عنه بحريّة كلِّ منهم. كلُّ طوباويّ هو سيِّد أفكارِهِ وقلبِهِ، وإنّه ينقلها بحرّية أمام مَن يريد. وفي السّماء ثمَّة أحداثٌ تحدث، فالطوباويّون الجُدد يَفِدون ويَفِدون باستمرارٍ من الأرض، فيُولَدُونَ للحياة الأبديّة ويستقبلهم الآخرون وتُعقَد الصَّداقات.
وفي السَّماء سيظلّ القدِّيسون على الحبّ الّذي به أحبّوا مَن في الأرض. إنّكم تذكرونَ ما قالته تريزيا الصَّغيرة: “أريدُ أن أُمضي حياتي في السَّماء أعمل الخير في الأرض.” هذا الكلام بَعيدُ الغَورِ والمغزى بحيثُ يُشيرُ إلى ما قد نُسمّيه “أَنَسِيّة القدِّيسين” حتّى في السّماء. وهناك دَورٌ خاصٌ أُنيطَ بالـمُختارين غير الـمُعَدِّين للتَّطويب، القدِّيسين غير الظاهِرين، الّذينَ حملوا معهم إلى السّماء ذِكرَ أصدقائهم، ويستمرّون في حبِّهم على نحوِ ما أحبّوهم”.
نعم، أهلاً وسهلاً بكم، أنتم المختارين، أنتم القدِّيسين غير الظاهرين. أهلاً وسهلاً بكم إلى مائدة المسيح في كسر الكلمة وفي كسر الخبزِ والخمر. مرحبًا بكم في مَرجبا، للمسيح في كنيسة سيِّدة الخلاص، وكلُّنا واحد على صليب الإيمان نهتِف:”أذكرني في ملكوتك”.
المسيح قام حقًّا قام.
عظة القدّاس الإلهيّ للأباتي سمعان أبو عبدو المريميّ:
حضرة المونسنيور النائب العام على أبرشيّة بيروت للكلدان، رافايل طرابلسي،
حضرة مدبّر هذه الرعيّة، الخوري يوسف الخوري المحترم،
آبائي الأجلّاء، أخواتي الرّاهبات،
حضرة رؤساء البلديّات وأعضاء المجالس البلديّة والاختياريّة المحترمين،
حضرة المخاتير الكرام،
حضرة أعضاء لجان الوقف والحركات الرسوليّة والجمعيّات،
وأبناء رعيّة سيّدة الخلاص- مرجبا الكرام،
إخوتي، أخواتي،
ها نحن، نلتقي للسّنة الثانية عشرة، مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، للاحتفال بقيامة الربّ يسوع من بين الأموات. ويا لميزة هذا الرّقم إذ يرمز إلى عدد الرّسل الاثني عشر الّذين اختارهم المسيح لاتِّباعه وأَوكلهم نقل البشارة! واليوم، نلتقي، مؤمِنين من جميع الطوائف المسيحيّة، في هذه الرعيّة الحبيبة، رعيّة سيّدة الخلاص مرجبا، للاحتفال بقيامة ربّنا يسوع المسيح، بعد دعوةٍ كريمةٍ من خادم هذه الرعيّة ومعاونيه، للمشاركة في هذا الاحتفال السنويّ.
بعد قيامته من بين الأموات، ظهر يسوع لتلميذَي عمّاوس أثناء عودتهما إلى قريتهما، ليؤكِّد لهما تلك الحقيقة داعيًا إيّاهما إلى عدم الخوف من الموت لأنّه قد انتصر عليه، ونزع كلّ سلطان له على البشر. إنّ لقاء الربّ مع تلميذَي عمّاوس، يرمز إلى لقاء الربّ مع كلِّ مؤمِن. بعد موت يسوع، قرّر تلميذا عمّاوس مغادرة أورشليم والعودة إلى قريتهما لأنّهما اعتقدا أنّ موت المسيح على الصّليب، شكّل نهايةَ آمالهما بالربّ المخلِّص. شعر تلميذا عمّاوس بالحزن والإحباط لفراق الربّ لهما، لذا قرّرا العودة إلى حياتهما الماضية. وهذا ما نختبره نحن أيضًا، عندما تعترِض حياتنا حالةُ موتٍ أو صعوباتُ الحياة، إذ نجد سهولة في التّراجع عن المسيرة الّتي بدأناها مع الربّ، والعودة إلى حياتنا الماضية. في مسيرة عودة هذين الرّسولين إلى قريتهما، تَدخَّلَ يسوع في الوقت المناسب ليُعطيهما علامة الرّجاء ويشفيهما من كآبتهما وحُزنِهما، فابتدأ اللّقاء معهما شارحًا لهما أنّه كان لا بُدَّ للمسيح أن يتألّم ويموت ويقوم في اليوم الثّالث، مُحقِّقًا بذلك كلَّ ما قيلَ عنه في الكُتُب المقدَّسة. لقد طلب هذان التِّلميذان من يسوع، حين وُصُولِهما إلى قريتهما أن يمكثَ معهما لأنّ المساء قد حان، والنّهار قد مال. وحين يحين المساء في حياتنا، أي حين نتعرَّض لاختبار الألم والفقدان في هذه الحياة، فلتكن صرخةُ هذين التِّلميذين صرختَنا نحن أيضًا، قائلين له: “اُمكُثْ معنا يا ربّ”. لقد سار الربُّ مع هذين التِّلميذَين هذه الطريق لأنّ علامات القيامة لم تكن منطبعةً بعد في قلبيهما. ولكن عندما كسر الربُّ الخبز أمامهما وشكر وبارك، عرفاه، فاختفى عن أعينهما. إذًا، عندما اختبرا القيامة، أصبح بإمكان هذين الرّسولَين الشَّهادة للربّ، ولهذا السَّبب اختفى الربُّ عن أعينهما.
إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك” في مرجبا، تتابع مسيرة شهادتها للربّ القائم، على مثال تلميذَي عمّاوس. بعد اختبارهما للقيامة، عاد تلميذَا عماوس إلى أورشليم، أي إلى المكان الّذي فيه اختبرا الحبّ الأوّل، إلى حيث كان لقاؤهما الأوّل بالربّ يسوع. لقد غيّرت القيامة تلميذَي عمّاوس، ودفعتهما إلى التبشير بالربّ القائم، وهي أيضًا قادرة أن تُغيّرنا نحن أيضًا وتحوِّلنا إلى شهودٍ لإيماننا بالربّ، بفِعْلِ نعمة الرّوح القدس العامل فينا.
لم يكن اختبار تلميذَي عمّاوس للقيامة، بالأَمر السَّهل، فَهُما لم يتمكّنا من معرفة الربّ على الرّغم من مسيرته معهما وشرحه لهما الكُتُب المقدَّسة. لذا، لا نتفاجأنَّ حين نجد صعوبةً في الإيمان بالقيامة. إنّ هذا النّص الإنجيليّ يَعرِضُ لنا ردّات فعلٍ متنوِّعة إزاء القيامة: فنقرأ أوّلاً ردَّ فِعلِ توما الرّسول، كما نقرأ ردَّ فِعل مريم المجدليّة الّتي وَجَدت، هي أيضًا، صعوبةً في معرفته، وأخيرًا نقرأ ردَّ فِعْلِ تلميذَي عمّاوس اللّذين كانا عائدَيْن إلى قريتهما مُحبَطَيْن. عندما نتعرَّض في حياتنا للإحباط والحزن والشَّك، يصعُب علينا معرفة يسوع على الرّغم مِن ظهوره لنا في أشكال متعدِّدة، ولكن الربَّ يتدخّل في حياتنا في الوقت المناسب ليمنحنا دواء الرَّجاء الشّافي لكلّ حالات اليأس والإحباط والحزن الّتي نُعاني منها. إنّ يسوع المسيح هو القيامة، هو الحياة.
هذا ما تسعى إليه جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الّتي انطلقت في هذه الرعيّة الحبيبة في 31 تمّوز 2009. إنّ هذه الجماعة تصلّي من أجل الموتى المؤمِنين وتدعو كلّ الّذين يُشاركونها الصّلاة إلى ذِكر أمواتهم بفرح، متمسِّكين بالرّجاء النّابع من قيامة المسيح يسوع. إخوتي، يحقّ لنا بكلّ تأكيد أن نحزن لفراق أحبّائنا، ولكن علينا عدم الانغماس في حالة الحزن هذه، إذ علينا أن نصلّي لهم ونذكرهم بفرحٍ، مُتَحلّين برجاءٍ مسيحيّ، إذ نعلم أنَّه لم يعد للموت مِن سُلطانٍ علينا إذ أصبحت الكلمة الأخيرة للقائم من بين الأموات، أي للربّ يسوع المسيح. إنَّ صلاتنا لأمواتنا الرّاقدين لا تُعبّر عن حُزننا لفراقهم، إنّما تُعبّر عن رجائنا بقيامة الأموات، المبنيّ على قيامة الربّ يسوع. هذا هو رجاؤنا، وهذا هو رجاء الكنيسة جمعاء أنَّ المسيح قد قام من بين الأموات وهو سيُقيمنا معه يوم نأتي في ملكوته.
إنّنا نجتمع اليوم، نحن المؤمِنين بالربّ، من كافة الطوائف، لنشهد لقيامة الربّ من بين الأموات، مُصلّين بكلّ رجاء وفرحٍ لأمواتنا، سائلين الربّ لأجلهم: “اشفع يا ربّ بهم، وارحمهم، واذكُرهم في ملكوتك”. في الختام، أودّ أن أتوجّه بالشُّكر إلى كلّ الآباء الأجلّاء الحاضرين معنا اليوم في هذا اللِّقاء الفَرِح، إذ كان البعض منهم مُرافقًا لمسيرة هذه الجماعة الروحيّة منذ نشأتها، كما ساهم البعض الآخر في دعم هذه الجماعة عبر إطلاقهم لها في رعاياهم. كما أودّ أن أشكر أبناء هذه الرعيّة الحبيبة، رعيّة سيدة الخلاص مرجبا، الّـتي عبّرت عن رغبتها لانطلاقة هذه الجماعة في رعيّتها منذ 2009، إذ رأت فيها دعمًا لإيمانها بالربّ يسوع القائم. ونتمنّى لهذه الرعيّة برئاسة خادمها، الخوري يوسف الخوري، المزيد من المثابرة الروحيّة، كي تصل رسالة هذه الجماعة إلى كلّ المؤمِنين في هذه الرعيّة، فيتَّحدوا بالصّلاة لأجل جميع أمواتهم، بروحٍ مِلؤه الإيمان والرّجاء بقيامة الربّ. إنّ ذِكر الرّاقدين لا يجب أن يكون في أوقات الشِّدة والحزن فحسب، بل يجب ذكرهم دائمًا بفرح كي يتمكنّوا من الدّخول إلى العرس السماويّ الّذي يدعونا إليه الربّ يسوع.
فليباركنا الربّ وليرحم أمواتنا جميعًا.
المسيح قام.
ملاحظة: دُوِّنت الكلمات بأمانةٍ من قبلنا.