انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”،

كنيسة مار يوحنا الرّسول – مونتريال، كندا.

 عِظة القدّاس الإلهيّ للأب شربل جعجع – خادم الرعيّة:

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين

أخواتي وإخوتي الأحبّاء، في هذا المساء المبارك، نحييكم ويسعدنا أن نُطلِق في رعيّتنا تذكار الموتى. ويُشرِّفنا أن نستقبل فيما بيننا جماعة “أذكرني في ملكوتك”. انطلقت جماعة “أذكرني في ملكوتك”، كما سَمِعنا في مقدِّمة القدَّاس، نتيجة تساؤل أحد المؤمِنِين حول الحياة الأبديّة وعن القيامة. واليوم، يُحدِّثنا الإنجيليّ يوحنّا، شفيع رعيّتنا، عن الأمانة للربّ، فَذِكرُنا في الملكوت السَّماويّ، هو نتيجة عيشِنا في هذه الحياة الأمانة لعطيّة الله. أريد أن أتأمَّل وإيّاكم، انطلاقًا من هذا الإنجيل، في أَمرَين: أوَّلاً، تعيين السيِّد العَبدَ بدلاً منه، إذ يقول لنا الإنجيل: “من هو العَبد الأمين الحكيم الّذي أقامه سيِّده (متّى 24: 45)؛ ثانيًا: مجيء السيِّد في ساعةٍ لا يعرِفها العبد، وما هذا إلّا للدّلالة على جهوزيّة هذا الأخير. هناكَ مَثَلٌ لبنانيّ يقول:”مَن أمَّنَك على مالِه، أمَّنَك على حالِه”. يُردِّد لنا الإنجيليّ يوحنّا كلام الربِّ يسوع ليقول لنا إنّ الله يثق بنا لدرجةٍ كبيرة، إذ أعطانا سُلطانًا على كُلِّ شيءٍ، وبالتّالي لَم نَعُد عَبيدًا لله، إنّما شُركاءَ له. عندما يتشارك اثنان في موضوعٍ مُعيَّن أو في تجارة معيَّنة، فإنَّه يُصبح لكلِّ واحدٍ منهما الحقَّ في التصرُّف في الموضوع الّذي يجمع بينهما. مِن فَيضِ حبِّه، خلقَنا الله، وأعطانا سُلطانًا على كلِّ شيءٍ، وأعطانا الحريّة للتصرُّف في هذا العالم انطلاقًا من الإمكانيّات الّتي زرعها فينا. وهنا يُطرَح السُّؤال: هل نحن مُدرِكون فِعلاً لـحُبِّ الله لنا، هذا الـحُبّ الّذي قاده إلى الثِّقة بنا؟ إنَّ حُبَّ الله العظيم لنا قَد دَفعه إلى تسليمنا ذاتِه من خلال القربان الأقدس وَقَدْ سَلَّطنا عليه. وأقامه على أهل بيته: وهنا أودُّ طَرح السُّؤال هل رأيتم يومًا أُمًّا تُعطي وكالةً لأحدٍ على أبنائها؟ بالطَّبع لا، وأُضيفُ قائلاً: إنَّ بعض الأُمّهات يرفِضْنَ ولا يَثِقْنَ بأزواجِهنَّ في مسألة الاهتمام بالأبناء. من هنا نكتشف عظمة محبّة الله الّتي دَفَعته للاتِّكالِ علينا إذ سلَّمنا ذاته قربانًا. نعم، أحبّائي، هذا هو سببُ فرحِنا وتَعزيَتِنا، عندما نُدرِك حُبَّ الله لنا، ونعيش حياتنا انطلاقًا من الثِّقة الّتي أعطانا إيّاها، مُفعِّلين حبَّه في حياتنا. إنَّ الحبَّ ليس مجرَّد عواطف ومشاعر، إنَّما هو مشروعٌ تكامل.

فحين أتكامل مع إخوتي في هذه الحياة، أعيش وصيَّة الله لنا مع الآخر، الّذي وَضَعه الله في موضع مسؤوليّة في حياتنا، أكان بابا روما أم كاهنًا، أبًا أم أمًّا، طبيبًا أم سائقَ أجرة، فعندما أعيشُ دَعوتي في مِلئها، في المكان الّذي أنا موجودٌ فيه، أستطيعُ عندئذٍ أن أعيش أمانتي للحُبّ. إنَّ موتانا الّذين نتذكَّرهم اليوم، أو بالأحرى نعيشُ ذِكراهم، هم أشخاصٌ قد عاشوا أمانتهم للربّ في حياتهم، وأصبحوا أمام الحقيقة المطلقة، ولهذا السَّبب نحن نطلب شفاعتهم.

إذًا، في هذه المحطَّة التَّأملية الأولى، علينا أن نتذكَّر دائمًا أنَّ الله يُحبُّنا ويثق بنا، وهو متَّكل علينا، وبخاصّة على الشَّباب والصّبايا من بيننا. وبالتّالي، علينا أن نتجاوب مع محبَّته وثقتِه بنا من خلال عَيشِنا الشَّراكة والتّكامل مع إخوتنا الّذين نلتقي بهم في هذه الحياة. ويأتي سيِّدُ ذلك العَبد في يومٍ لا ينتظره، وساعةٍ لا يَعرِفها (متّى 24: 51): في الرِّسالة الّتي تُلِيَت على مسامِعنا اليوم، يقول لنا بولس الرَّسول: “أمّا الأزمنة والأوقات أيّها الإخوة، فلا حاجة بكم أن يُكتَب في شأنها (1 تس 5: 1). لا يستطيعُ الإنسان أن يعلم تلك السّاعة، لأنَّ علاقتنا هي مع الله، الّذي هو خارج الزّمان والمكان. إنَّ الزَّمان هو مهمٌّ بالنّسبة للإنسان؛ أما بالنِّسبة لله، فلا أهميّة للزَّمان، إذ إنَّ ما يهمُّه هو الإنسان. في بعض الأحيان، عندما تعترِضنا صعوبة، نقول في نفوسنا: ما الّذي ينتظره الله كي يتدخَّل ويَضَع حدًّا للمشكلة الّتي نواجهها؟ إنَّ الانتظار مرتبطٌ بعامل الوقت، أمّا الخلاص فَهو مرتبطٌ بالله، فَهو لا يتدخَّل إلّا حينَ يجد أنَّ تلك النُّفوس قد أصبحت حاضرة للخلاص. إنَّ زَمَن الله مرتبطٌ بوَعده لنا، أمَّا زمن البشر أي الوقت، فَهو مرتبطٌ بالتّاريخ.

إنَّ الجهوزيّة المطلوبة منّا، تقوم على عَيْشِنا واجبَ اللَّحظة الحاضرة. فعلينا على سبيل المِثال: اعتبار قُدَّاسنا اليوم الّذي نُشارِكُ فيه هو القدّاس الأخير لنا على هذه الأرض، فنعيش هذا القُدَّاس كأنَّه آخرُ عملٍ نقوم به على هذه الأرض. وعندما يشعر الإنسان المؤمِن أنَّ ما يقوم به هو عملُه الأخير على هذه الأرض، فإنّه يقوم به على نحو أفضل، إذ تتغيَّر رؤيته الدَّاخليّة لهذا العمل. أن أعيش واجب اللَّحظة الحاضرة، يعني ان أعيش كلّ لحظة من حياتي على هذه الأرض، كأنَّها أوّل لحظة من حياتي الأرضيّة وآخر لحظةٍ فيها، وبالتّالي عليّ ان أعيشَها بقداسة. وهكذا أكون على استعداد لمجيءِ الربِّ في السّاعة الّتي يختارها هو.

في أحد الأيّام، فيما كان يلعب معهم، سأل القدِّيس فرنسيس الأطفال ماذا يفعلون إذ جاء الربُّ اليوم ليأخذهم معه. فقام كلُّ واحدٍ منهم يستعدُّ عبر توديع أحبّائه، أو تحضيره الطّعام الأرضيّ، استعدادًا للذّهاب مع الربِّ. غير أنَّ واحدًا من هؤلاء الأطفال بَقيَ مُسمَّرًا في أرضِه، فسأله القدِّيس فرنسيس عن السَّبب، فأجابه إنّه ينتظر قدوم الربِّ، لأنّه يقوم بكلِّ شيءٍ على أكمل وجه، ولا يحتاج إلى شيءٍ، لذا هو مستعدٌّ للذّهاب مع الربِّ. إذًا، على كلِّ مؤمِنٍ أن يسعى كي يقوم بكلِّ ما هو مقتنعٌ به، فيَظهر من خلاله مَجد الله، وحضوره الكامل فيه.

في خلاصةٍ لِما قُلناه: إنَّ الأمانة لله واجبٌ علينا تجاه الله. فإنّنا ولو كُنَّا غير أمناء لله، غير أنَّ الله يبقى أمينًا لنا، لأنّه هو هو، أمسِ واليوم وإلى الأبد، إله الحُبِّ الّذي لا يتغيَّر. إنَّ حُبَّ الله للبشر ثابتٌ، ونحن ثَمَرَته. لذلك، علينا في كلِّ يومٍ أن ننظر إلى ذواتنا في المرآة، فنُدرِك أنّنا حُبّ الله في هذا العالم. إنَّ أمواتنا، الّذين سبقونا إلى الملكوت، قَد نَضُجَ فيهم حُبُّ الله، لذلك استحقُّوا أن يكونوا القمح الموضوع على المائدة السَّماويّة. على المؤمِن أن يكون دائمًا في حالة الجهوزيّة في هذه الحياة للقاء الربِّ، فيقوم بكلِّ أعماله كأنّها عَمَلَهُ الأخير في هذه الأرض، فتكون هذه اللَّحظة لحظةً يتمجَّد فيها الله وتُظهر كماله، وتكون لِما فيه خيرُ البشر. في الختام، في هذا المساء، أرفع صلاتي مجدَّدًا إلى الله من أجلِ نواياكم إخوتي الحاضِرين ههنا، كما أطلب شفاعة جميع الموتى، هم الجالسون في حضن الله، نبع الحقيقة والحبّ، فنتمكَّن من خلالهم الحصول على نعمة التمييز في أعمالنا البشريّة فنستحقَّ في يومٍ من الأيّام، مجد السّماء مع أمواتنا أمام الربِّ يسوع، له المجد إلى الأبد، آمين. 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp