إخوتي وأخواتي الأعزّاء،

في زمن القيامة، نحتفل معًا في هذه الذبيحة الإلهيّة لنتذكّر أحبّاءنا الّذين غادروا هذه الحياة وانتقلوا إلى الحياة الثانية، فنصلّي معًا إلى الربّ مِن أجل راحة نفوسهم. إنّ فراق الأحبّاء يسبّب لنا ألـمًا، ولكن على هذا الألم أن يتحوّل إلى فرحٍ إذ إنّهم ذاهبون للّقاء الربّ وجهًا لوجه. وهنا أودّ أن أخبركم حادثةً قد اختبرتها شخصيًّا: حين كنتُ لا أزال طالبًا جامعيًّا، تمّ إبلاغي بأنّ أحد الرّفاق، وهو أخ يسوعيّ، مُشرفٌ على الموت. فذهبْتُ لزيارته مع بعض الزّملاء في الدّراسة، لرؤيته قبل انتقاله من هذه الحياة.

ولكنّ المفاجأة كانت كبيرة، بالنسبة لنا، إذ حين دخلنا غرفته، كان يبتسم، طالبًا منّا الاقتداء به لأنّه عمّا قليل سيُغادرنا إلى السّماء ليلتقي بالربّ وجهًا لوجه، إضافة إلى العذراء مريم وجميع القدِّيسين، وهذه مدعاةٌ للفرح لا للعبوس والحزن. طلب منّا هذا الأخ الابتسام والفرح لأنّه عمّا قريب سيكون لنا في السّماء مَن يصلّي لنا برفقة العذراء والقدِّيس يوسف وجميع القدِّيسين لكي نُصبح كهنة قدِّيسين. إذًا، عِوَض أن نبكي لفراق أحبّائنا، علينا أن نشعر بالفرح لأنّهم ذاهبون إلى مكانٍ أفضل، إنّهم ذاهبون للقاء الربّ وجهًا لوجه. إنّ حالة الفرح الّتي كان يشعر بها هذا الأخ المنازع، غيّرت نظرتي ومفهومي لسرّ الموت. لقد علّمني هذا الأخ من خلال مواجهته لاقتراب ساعة انتقاله: أنّ الإنسان المؤمِن لا يموت، بل يُولَد للحياة الجديدة بالموت.
 

في هذه الحياة، يُولَد الإنسان ثلاث مرّات: الولادة الأُولى هي ولادةٌ بحسب الجَسَد، مِن أبوَين أرضيَّين. وهنا نجد أنَّ الإنسان يهتمّ بجسده فيعطيه ما يحتاج من الطّعام والمشرب، ويكسوه باللّباس الضروريّ كي يبقى بصحّةٍ جيِّدة. أمّا الولادة الثانية فتتمّ يوم المعموديّة، إذ يترك الإنسانُ إنسانَه القديم، ليلبس إنسانه الجديد، ففي المعموديّة يُصبح الإنسان ابنًا لله. إنّ الربّ يدعونا إلى تغذية هذه الحياة الجديدة فينا مِن خلال تناولِنا للقربان الأقدس، قائلاً لنا في إنجيله: “مَن يأكل جسدي ويشرب دَمي له الحياة الأبديّة، وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو6: 54-58).

 إنّ حياتنا على هذه الأرض هي بمثابة دورةٍ تدريبيّة على الحياة الّتي سنختبرها في السّماء بعد انتقالنا مِن هذه الأرض. في هذه الحياة الأرضيّة، نتدرّب على عيش المحبّة والفرح، المسامحة والغفران، والأُخوّة والخدمة تجاه بعضنا البعض، ممّا يخلق فينا سلامًا داخليًّا. إنّ الحياة الأبديّة هي حياةٌ يسود الفرح والسّلام، والمحبّة بين جميع سكّانها. في هذه الحياة، يختبرُ الإنسانُ الحياةَ السماويّة عبر عيشه الفرح والخدمة والسّلام: فإنْ نجح في هذا الامتحان، نال الحياة الأبديّة؛ وإن رسب فيه، نال الموت الثاني. أمّا الولادة الثالثة، فهي حين يموت الإنسان في هذه الحياة ليُولَد في حياة جديدة أزليّة، فيُغادر هذه الفانية لينال ما هو أفضل منها. تُسمّى الحياة ما بعد الموت “الحياة الأبديّة”، لأنّها حياةٌ لا تزول، وفيها الفرح الكامل والسّلام الحقيقيّ، إنّها على حسب تعبير بولس الرّسول: “ما لم تَرَهُ عَينٌ ولا سمِعَتْ بِهِ أُذُنٌ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ، ذلك ما أَعَدَّه الله للّذين يُحبُّونه” (1كور 2: 9).

هذا ما نتمنّاه لموتانا الّذين نقدِّم لأجلهم هذه الذبيحة الإلهيّة أن يكونوا قد أتمّوا اختبارهم في هذه الحياة بنجاح، فيكونوا الآن في حضرة الله يُعاينون وجهه القدّوس، مع العذراء مريم وسائر القدِّيسين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف