محاضرة للخوري سيمون جبرايل،
مِن أبرشيّة طرابلس المارونيّة، نائِب رئيس اكليريكيّة مار أنطونيوس البادواني – كرمسَدة،
“كيفَ يَقومُ الأموات؟ في أيِّ جَسَدٍ يَعودون؟” (1 قور 15: 35-58).
بِاسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
أمسِ، احتَفَلَتِ الكنيسةُ المارونيّةُ بأحدِ بِشارةِ العذراء مريم. وفي النَّصِّ الإنجيليّ، قال الملاكُ جبرائيلُ للعذراءِ مريم: “الرُّوحُ القُدس يُظلِّلُكِ” (لو1: 35). واليومَ أيضًا، نَطلبُ مِنَ الله أن يُرسِلَ إلينا رُوحَه القُدُّوسَ ليُظلِّلَنا ويُعطيَنا روحَ الحِكمةِ والفَهم، كي نَتمكَّنَ مِن فَهْمِ كَلمتِه المقدَّسةِ ومِن عَيشِها بِكُلِّ إيمانٍ في حياتِنا اليَوميّة.
إنّ موضوعَنا اليَومَ هو بِعنوان:”كيفَ يَقومُ الأموات؟ في أيِّ جَسدٍ يعودون؟”. إنّ هذا العُنوانَ مأخوذٌ مِن رسالةِ القدِّيسِ بولسَ الرَّسولِ الأُولى إلى أهلِ قورنتس، مِنَ الآية 35 إلى الآية 58. ونَظرًا إلى أنَّ النَّصَّ الإنجيليّ الّذي نُريدُ التأمُّلَ به كبيرٌ جدًّا، فسَوف نتوَّقفُ فَقَط عند الآياتِ – الـمِفتاح، الّتي سأقرأُها الآن، وذلكَ لِضِيقِ الوقت.
النصّ الإنجيليّ:
“لَكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: “كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟” يَا غَبِيُّ! الَّذِي تَزْرَعُهُ لا يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ. وَالَّذِي تَزْرَعُهُ لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَحَدِ الْبَوَاقِي……هَكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ…..هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لا نَرْقُدُ كُلُّنَا وَلَكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ. في لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ. لأَنَّ هَذَا الْفَاسِدَ لا بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ وَهَذا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ …”
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
إنَّ هذا النَّصَّ الإنجيليَّ يَطرحُ مَوضوعًا إيمانيًّا وجُوديًّا يَتعلَّقُ بِمَصيرِ الإنسانِ ما بَعد مَوتِه الجسديّ. يُشكِّلُ هذا الموضوعُ صُلبَ قانونِ الإيمانِ أي credo، الّتي تَتلُوه الكَنيسةُ في القُدَّاسِ الإلهيِّ قائلةً: “نُؤمِنُ بإلهٍ واحدٍ”. في هذهِ السَّنة، تَستعدُّ الكَنِيسةُ للاحتفالِ بِمرورِ ألفٍ وسَبعمائةِ سَنةٍ على انعقادِ مَجمعِ نِيقِيةَ الأوَّل سَنة 325 م.، والّذي تمكَّنَ مَع مَجمَعِ القِسطَنطنيّةِ مِن إعطائنا خُلاصةَ إيمانِنا المسيحيّ، في قانونِ الإيمان. إنّ ذُروةَ قانونِ الإيمانِ تَكمنُ في الجُملةِ الأخيرةِ مِنه الّتي تَقول: “ونَترَّجى قِيامةَ الموتى والحَياةَ الجديدةَ في الدَّهرِ الآتي، آمين”، فَهي تؤُكِّدُ على إيمانِنا بِقيامةِ الأموات. لم تَكُن مَهمَّةُ هذَينِ الـمَجمَعَينَ الكَنَسيَّين شَرحَ كَيفيّةِ حُدوثِ قيامةِ الأموات، لأنَّ الكِتابَ المقدَّسَ والتَّعليمَ اللّاهوتيَّ في الكَنِيسةِ قد تَكلَّما على ذلك.
إنَّ إيمانَنا بِقِيامةِ الأمواتِ يَرتكزُ بِشَكلٍ أساسيٍّ على قِيامةِ الربِّ يسوعَ مِن بَين الأموات. إنّ قيامَتَنا مِن بَين الأمواتِ تُشبهُ قِيامةَ الربِّ يسوع، الّتي هي عَملُ الثَّالوثِ الأقدس. في رِسَالتِه إلى أهلِ رومة (8: 11)، يَقولُ لنا بولسُ الرَّسول: “وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُم”، وهذا يَعني أنَّ قِيامَتَنا مِن بَين الأمواتِ ستَتَحقَّقُ مِن خلالِ الرُّوحِ القُدسِ السَّاكِن فينا، والّذي بِقُوَّتِه أقامَ اللهُ الربَّ يسوعَ مِن بين الأموات.
إخوتي، لا يُمكِنُنا أن نَفهمَ الآيةَ الأُولى مِن هذا النَّصّ: “كيفَ يَقومُ الأموات؟ وبِأيِّ جسدٍ يَقومون؟”، إلّا على ضَوءِ قِيامةِ الربِّ يسوعَ المسيح. لِذَلكَ، سأبدأُ بِشَرحِ هذهِ الآيةِ مِن البُعدِ البِيبْليّ ومِن البُعدِ اللّاهوتيّ، وسَأتوَّقفُ عِند نِقاطٍ ثلاثٍ هي:
- قِيامةُ المسيحُ نقطةُ الانطِلاق.
- قيامةُ الأجسادِ أو غَلَبَةُ الموت: هُنا، سنَقومُ بِتَحليلٍ لهذا النَّصِّ الّذي نَتأمَّلُ فيه.
- قائمونَ مع المسيح: هُنا، لن نَتكلَّمَ على قِيامةِ الجَسدِ، إنّما على قيامةٍ نَستطيعُ أنْ نَعيشَها في حَياتِنا اليَوميّة.
أوّلاً: قِيامةُ المسيحِ نُقطةُ الانطِلاق:
إنَّ كُلَّ العهدِ الجديدِ، مِن أناجيلَ ورسائلَ، يُؤكِّدُ على قناعةٍ أساسيّةٍ وجَوهريّةٍ هِيَ: أنَّ المسيحَ قامَ حقًّا وحَقيقةً مِن بَينِ الأموات. في قِيامةِ يسوعَ مِن بَينِ الأموات، لا يَتكلَّمُ الإنجيلُ على إحياءِ جُثَّةٍ مَائتةٍ عادتْ إلى الحياةِ الأرضيّةِ القَابلةِ للمَوت، كَما حَدَثَ مَع لِعازرَ وابنِ أرملةِ نائين، بَل يَتكلَّمُ على عبورٍ إلى الحياةِ النِّهائيّةِ أي إلى العَيشِ بِالقُربِ مِنَ الله. إنَّ هذه الحياةَ النِّهائيّةَ لا تَزالُ غَيرَ مَعروفةٍ بالنِّسبةِ إلينا، وَلَكِنَّنا سنَكتَشِفُها بَعدَ مَوتِنا الجَسديّ. بِقِيامَتِه مِن بَينِ الأموات، بدأ الربُّ يسوعُ حياةً جديدةً غَير قابلةٍ للفَساد، لا يَستطيعُ الإنسانُ اختبارَها أو لَمْسَها بِالعَينِ المجرَّدة. وكَما أنَّ الإنسانَ لا يَستطيعُ اختبارَ قِيامةِ الربِّ مِن بَينِ الأموات وفَهمِ مَعناها مِن دونِ إيمانٍ، كذلِكَ أيضًا لا يَستطيعُ اختبارَ قِيامةِ الأجسادِ وفَهمِ مَعناها مِن دونِ إيمانٍ. إذًا، إخوتي، إنّ العَهدَ الجديدَ مبنيٌّ على حَدَثِ قِيامةِ الربِّ يسوع، أي على إقامةِ الله الآبِ للربِّ يسوعَ مِن بَينِ الأموات بِقوَّةِ رُوحِه القُدُّوس، وجَعْلِه ربًّا. إنَّ عبارةَ “كِيريُوس” اليونانيّة تَعني “الربّ”، وهي تُستَعملُ للدَّلالةِ على المسيحِ القائمِ مِن بَينِ الأموات: فَقَبْلَ الصَّلبِ والموتِ، كان يسوعُ المسيحُ بالنِّسبةِ إلى التَّلاميذِ والمؤمِنِين به “المسيحَ”، و”الـمُعلِّمَ”، و”ابنَ الله”؛ أمّا بَعدَ القِيامةِ، فَقَدْ أصبحَ يسوعُ المسيحُ بالنِّسبة إليهم “الربَّ”، فَهذه الكَلِمةُ استُعمِلَتْ في مَرحَلةِ ما بَعدَ القِيامَةِ post pascal، للدَّلالةِ على قِيامتِه مِن بَينِ الأموات. إنَّ عِبارةَ “القائمَ مِن بَين الأموات” تُشيرُ إلى الحَدثِ الّذي تَمَّ ما بَين مَساءِ يَومِ الجُمعةِ وصِباحِ يَومِ الأحد، والّذي على أثَرِهِ تَغيَّرتْ حَياةُ يسوعَ المسيحِ أوَّلاً، ثُمَّ حياةُ التَّلاميذِ ثانيًا، إذ تَغيَّرتْ طريقةُ حضورِ يسوعَ المسيحِ وطريقةُ وجودِه مع تلاميذِه. إنَّ يسوعَ المسيحِ القائمِ مِن بَينِ الأمواتِ لَيس شَخصًا آخرَ مختَلفًا عن ذاكَ الّذي عَرفَه التَّلاميذُ un autre، بل هو الشَّخصُ نَفسُه ولكنْ بِطَريقةِ حضورٍ مختَلفةٍ autre، وهذا يعني أنَّ ملامِحَ الربِّ بَعدَ القِيامةِ قَد تغيَّرَتْ ولكنَّ الشَّخصَ بَقيَ هو نَفسُه. وما قِصَّةُ تِلميذَي عمَّاوسَ إلّا مِثالٌ على ذلكَ: على الرّغمِ مِن أنَّه سارَ مَعهُم مسافةَ اثنَي عَشرَ كيلومترًا، لم يَتمكَّنْ تِلميذَا عمَّاوسَ مِن مَعرفةِ الربِّ إلّا عِندَ كَسرِهِ الخُبز. إنَّ القيامةَ لم تَتمكَّنْ مِن أنْ تُفقِدَ الربَّ يسوعَ إنسانيّتَه وشَخصيّتَه، بِدَليلِ أنّه بَعدَ القِيامةِ لا زالَ الربُّ محافِظًا على آثارِ المساميرِ وآثارِ الجروحاتِ في جَسدِه، وبالتَّالي تَتحقَّقُ فيه الكَلِمَةُ الّتي نَقرأُها في الرِّسالةِ إلى العِبرانييِن القائلةُ: “يسوعُ هوَ هوَ أَمس واليَومَ وإلى الأبد” (عب 13: 8).
إنَّ حضورَ المسيحِ الجَسديَّ بَعدَ القِيامةِ، يُسمَّى في المفهومِ اللّاهوتي: “الجسَدُ الممجَّد”، فالربُّ قد احتفَظ بِجسدِهِ بَعدَ قِيامتِه مِن بَينِ الأموات، ولكنَّ هذا الجسدَ قد أصبَحَ ممجَّدا، تمامًا كما سيُصبِحُ جسدُنا نحن أيضًا بَعدَ قيامتِنا مِن بَينِ الأموات. إنَّ عِبارةَ “الجَسدَ الممجَّدَ” تَعني أنَّ جسَدَنا بَعدَ القيامةِ لن يَعودَ خاضًعًا لا للزَّمانِ ولا للمَكانِ ولا للعَناصِرِ الطبيعيّةِ، وَلَكِنَّه سيَبقى قادرًا على الدُّخولِ في علاقاتٍ مع البَشريّةِ الّتي لا تزالُ خاضِعةً للزَّمانِ والـمَكان. هذه هي حالةُ القِدِّيسين، الّذينَ أصبَحَتْ أجسادُهم مُمَجَّدةً أي غَيرَ خاضعةٍ للزَّمانِ والمكانِ، ولَكِنَّها قادرةٌ على أن تَحويَ الزَّمانَ والمكانَ، لذلكَ يَستطيعُ القدِّيسُ الظُّهورَ لأكثرِ مِن شَخصٍ في أماكنَ مختلفةٍ وفي الوَقتِ نَفسِه. بَعدَ مَوتِ الربِّ، كان التّلاميذُ خائفِين ويائسِين، ولكنَّهم بَعد القيامةِ، انطلقوا إلى البشارةِ بالمسيحِ القائمِ مِن الموت. عِندَما التقى التَّلاميذُ بالمسيحِ القائمِ مِن بَينِ الأموات، تَبدَّلَتْ حَياتُهم لأنَّ لقاءَهم به أدَّى إلى تَغييرٍ جَذريٍّ في مَفهومِهم للإيمانِ إذ نَقلَهم مِن إعلانِهم الإيمانَ الضِمنيَّ بِهِ إلى الإعلانِ الصَّريحِ لإيمانِهم مِن خلالِ الانطلاقِ للبشارةِ به. إنَّ قِيامةَ يسوعَ الجسدِيَّةَ هي الّتي غَيّرَتْ حياةَ التّلاميذِ ومفهومَهم للإيمانِ بالربّ، وأسَّسَتْ لمفهومِ حَقيقةِ قِيامَةِ الموتى في نِهايةِ الأزمنةِ، الّتي يُخبرُنا عنها بولسُ الرَّسول في النَّصِّ الّذي نَتأمَّلُ فيه اليَوم. بَعدَ القيامَةِ، احتفظَ الربُّ يسوعُ بِجسَدِه الخاصّ، والدَّليلُ هو ما قالَه لِتَلاميذِه في إنجيلِ لوقا: “أُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَانْظُرُوا فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي” (لو 24: 39). مِن خلالِ عِبارةِ “إنِّي أَنَا هُوَ”، يُؤكِّدُ الربُّ لِتَلاميذِه أنّه هو نَفسُه الّذي عاشَ مَعهُم واختَبَرُوه في حياتِه الأرضيّة. بَعدَ القِيامةِ، لَم يَعُدِ الربُّ إلى حياتِه الأرضيّة، بل قَامَ بِجسدٍ مُمَجَّدٍ يَستطيعُ مِن خلالِه التَّواصلَ مَع البَشر. وهذهِ أيضًا سَتَكُونُ حالتُنا، نحنُ المؤمِنينَ بالربِّ، إذ سَيَقومُ كُلُّ واحدٍ مِنّا بِجَسدِهِ الخاصِّ الممجَّدِ، الجَسدِ الرُّوحانيّ الّذي هو صورةٌ عن جَسدِ المسيح.