محاضرة للأب دومينيك العلم المريميّ،
خادم رعيّة الصعود/ مار جرجس – الضبية، المتن.
“لأنّنا نسير في الإيمان، لا في العيان” (2 كور 5: 6-10)
النصّ الإنجيليّ:
“لِذلِكَ فلَمَّا كُنَّا واثِقينَ في كُلِّ حين، على عِلمِنا بِأَنَّنا، ما دُمنا في هٰذا الجَسَد، نَحنُ في هِجرَةٍ عنِ الرَّبّ، لِأَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان. فنَحنُ إِذًا واثِقون، ونَرى منَ الأَفضَلِ أَن نَهجُرَ هٰذا الجَسَدَ لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ. ولِذٰلِكَ أَيضًا نَطمَحُ إِلى نَيلِ رِضاه، أَأَقَمْنا في هٰذا الجَسَدِ أَم هَجَرْناه، لِأَنَّه لا بُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمَةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجَسَد، أَخَيرًا كانَ أَم شَرًّا” (2 كور 5: 6-10).
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
الله معكم، في هذا المساء الـمُبارَك. في بداية هذا اللِّقاء، أتوجَّهُ إليكم بالمعايدة لمناسبة الأعياد، وأتمنَّى لكم جميعًا سنةً مُباركةً مليئةً بالخير والبَركة والإيمان والرَّجاء والمحبَّة.
قَبل الدّخول في تحليل هذا النَّص، أوَدُّ إخوتي وأخواتي، أن أتذكَّر معكم صلاة يسوع الكهنوتيّة الّتي قال فيها لله الآب: “ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَمَا أَحبَبتَني. يا أَبَتِ، إِنَّ الَّذينَ وهَبتَهم لي، أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون، فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ الـمَجد، لِأَنَّكَ أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم” (يو17: 23-24). مِن خلال هذه الصّلاة، يُخبرُنا الربُّ يسوع أنّ الله الآب يُحبُّه، وهو أيضًا يُحِبُّنا جميعًا. كان الربُّ يسوع يعلَم أنّه سيَصعدُ إلى السَّماء بَعد الفِداء، لذا طَلَبَ مِن الله أبيه أن يكونَ كلُّ مَن يؤمِنُ به معه في السَّماء، فيُعاينوا مَجدَه الـمُعطى له من الله الآب. إخوتي، لا يمكننا الوصولُ إلى السَّماء ومعاينةُ مجدِ الابن إلّا من خلالِ الموت الجسديّ. إنّ رغبةَ يسوع العميقة هي أن نكونَ معه جميعًا في السَّماء. إنّ أحبّاءَنا الّذين ماتوا، هُم الآن في السَّماء مع الربّ، لأنّهم جُبِلوا بالمسيح في هذه الأرض، وتعمَّدوا بِاسمه ولَبِسوه في حياتهم الأرضيّة وتألَّموا معه، فماتوا معه ودُفِنوا معه وصَعدوا معه إلى السَّماء. هنا، نَتذكَّرُ كلمةَ بولسَ الرَّسول الّذي قال لنا: “ولا نُريدُ، أَيُّها الإِخوَة، أَن تَجهَلوا مَصيرَ الأَموات لِئَلَّا تَحزَنوا كَسائِرِ النَّاسِ الَّذينَ لا رَجاءَ لَهم” (1 تس 4: 13).
لماذ إخوتي، علينا ألّا نَحزنَ كسائر النَّاس؟ بكلِّ بساطة، لأنّ الّذي يَنتقِلُ من هذه الحياة الأرضيّة بالموت، يَدخلُ في العرس السَّماويّ. فكما نَفرحُ ونُهلِّلُ لإنسانٍ يتزوَّج، فنُشارِكُه فرحتَهُ مِن خلالِ الصَّلاة لأجْلهِ في الكنيسة؛ كذلك الّذي يَنتقلُ من هذه الأرض، يَدخُلُ في عرسِ السَّماء، فيتَّحدُ بالعريس السَّماوي الّذي هو يسوع المسيح. عندما نذهبُ لتقديم العزاءِ لأهلِ أحدِ الأحبّاء المنتَقِلين، علينا أن نقولَ لهم كلمةَ تعزيةٍ، -وكلمةُ تعزيةٍ هي عبارةٌ إيجابيّةٌ لا سلبيّةٌ -، مِن شأنها أن تَمنحَهم فرحًا وتَكونَ لهم سندًا، لأنّ فقيدَهم الغالي قد دَخل في العرس السَّماويّ مع الربّ. إذًا، علينا أن نفرحَ مع الشَّخص الّذي انتقَل مِن هذه الأرض، لأنّه دَخَل في عرسٍ سماويّ، لا أن نَنوحَ ونَبكيَ عليه ونَندبَهُ كمَن لا رَجاءَ لهم.
إنطلاقًا من هذه الفِكرة، سنَبدأُ تأمُّلَنا اليوم في هذا النَّص من الرِّسالةِ الثانية الموجَّهة من بولسَ الرَّسول إلى أهلِ كورنتوس. في هذا النَّص، يُخبرُنا بولسُ الرَّسول عن الحاجزِ الّذي يَفصِلُنا عن الحياةِ الأبديّة، ألا وهو الجَسَد. إخوتي، إنّ الجسدَ ليس أمرًا سلبيًّا، بل هو أمرٌ إيجابيّ، والدَّليلُ هو أنّ الربَّ يسوع قد تجسَّدَ في أرضِنا فَلَبِسَ هذا الجسدَ وقدَّسَهُ. في سرِّ المعموديّة، يَحلُّ الرُّوحُ القدس على الـمُعمَّد، فيُحوِّلُ جسدَه إلى إناءٍ نقيٍّ صافٍ، على مِثالِ العذراء مريمَ الّتي حلَّ فيها الرّوحُ القدس، فحَبلِتْ بِيَسوعَ المسيح. في المعموديّة، تُصبح أجسادُنا هياكِلَ نَقيّةً لِسُكنى الثَّالوثِ الأقدس، لذا نَعبُدُ اللهَ في هذا الجسَدِ بالرُّوحِ والحَقّ. وإليكم مِثالٌ عن تقديسِ الجسَدْ: إنّ القدِّيسَ شربلَ الّذي عَبَدَ اللهَ في هذا الجسد، قد تَمكَّنَ من الوصولِ إلى القداسةِ بعد أن نجَحَ في ترويضِ جسَدِه. إنّ القدِّيسَ شربلَ لم يتَّجِهْ نحوَ عبادةِ الجسد، أي أنَّه لم يَهتَمَّ بِتَقديم الرَّاحةِ لِجسده، بل سعى إلى التَمثُّلِ بيَسوعَ المسيحِ الّذي تمكَّنَ بجسدِه الأرضيِّ مِن تحقيقِ سرِّ الفداء، فتَحمَّلَ الضَّرباتِ والإهاناتِ والجراحَ والعذاباتِ، وعاش آلامَهُ ومات على الصَّليبِ من خلالِ هذا الجسد، فكان هذا الجسدُ العلامةَ الحسِّيَّةَ لِمَحبّةِ الله وسرِّ الفِداء.
إذًا، إنّ هذا الجسدَ يساعدُنا على الوصولِ إلى القداسة، إذا أدرَكْنا كَيفِيَّةَ المحافظةِ على نِعمة الله فينا وتَمكَّنَّا من السَّيرِ في هذه الحياة وِفقَ إلهاماتِ الرُّوح، كما فَعل القدِّيسون قَبلَنا. وبالتّالي، لا يجوزُ لنا أن نتَّجِهَ نحو نُكرانِ الجسد، لأنّ هذا الجسدَ قد قدَّسَه الله، ودعانا إلى تَخطِّيهِ والتَّوقِ إلى ما هو أبعدُ من الجسد، أي إلى عالَمِ التَّواصلِ الرُّوحيّ أي عالَمِ السَّماء. إنّ الجسدَ هو وسيلةٌ للقداسة، وسيلةٌ كي نُشارِكَ يسوعَ آلامَه مِن خلالها. مِن خلالِ الجسد، نَستطيعُ أن نَعبُدَ اللهَ من خلالِ حَركاتِ اليَدَين الّتي نقوم بها، وكذلك من خلالِ اللِّسانِ، أي مِن خلالِ الكلامِ الّذي نتفوَّهُ به، وأيضًا مِن خلالِ عيونِنا أي من خلالِ نَظرتِنا إلى ما يَدور حولَنا، وأيضًا من خلالِ اللَّمس، وأخيرًا مِن خلالِ الفِكر. إنّ الجسَدَ يُعبِّر عن كينونَتِنا في هذا العالَم. وبالتّالي، علينا أن نُفكِّرَ بالجسدِ بطريقةٍ إيجابيّةٍ لا سلبيَّةٍ، لأنّ اللهَ خلَق كلَّ شيءٍ و”رأى أنّ ذلك حَسنٌ” (تك 1: 25)، كما يقولُ لنا سِفرُ التَّكوين في الكتاب المقدَّس. فطالما أنّ اللهَ خلَقَنا في هذا الجسدِ، فنَحن في حالةِ حُسنٍ، أي في حالةِ جمالٍ، وقد شارَكَنا الربُّ يسوعُ فيه، إذ لَبِسَ جسدَنا الأرضيَّ المائتَ بِتَجسُّدِه في ما بينَنا.
“لِذٰلِكَ فلَمَّا كُنَّا واثِقينَ في كُلِّ حين، على عِلمِنا بِأَنَّنا، ما دُمنا في هٰذا الجَسَد، نَحنُ في هِجرَةٍ عنِ الرَّبّ، لِأَنَّنا نَسيرُ في الإِيمانِ لا في العِيان”. ما هو المقصودُ بِعبارة “في الإيمان لا في العِيان”؟ إخوتي، إنّ الّذينَ عاشوا مع المسيحِ عندما تجسَّدَ في أرضِنا، كانوا الوَحيدين الّذين تَمكَّنوا مِن رؤيتِهِ بِعيونِ الجسدِ ولَمسِه، وأهمُّهم مريمُ العذراءُ ويوسفُ البّار، إضافةً إلى الرُّعاة؛ ثُمّ الّذين إلتَقاهُم في حياتهِ العَلنيّة، أي أثناءَ قيامِه بِرِسالتِه التَّبشيريّةِ والخلاصيّة، وأهمُّهم الكنيسةُ الأولى وعلى رأسِها الرُّسل. وهنا، نتذكَّرُ ما قامَ به الرَّسولُ توما، حين قال: “إنْ كُنْتُ لَا أَرَى أَثَرَ الْمَسَامِيرِ فِي يَدَيْهِ، وَأَضَعُ إِصْبِعِي فِي مَكَانِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعُ يَدِي فِي جَنْبِهِ، فَلا أُومِنُ!”(يو 20: 25)، فَظَهر له الربَّ، وقال له: “أَلأَنَّكَ رَأَيْتَنِي آمَنْتَ؟ طُوبَى لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ دُونَ أَنْ يَرَوا!” (يو 20: 29). هذا ما أرادَ الرَّسولُ بولسُ قَولَه لنا في هذا النَّص، مِن خلالِ عبارة “في الإيمان لا في العِيان”. هل رأى أحدٌ منَّا يسوعَ المسيح؟ بالطَّبعِ، لا! لم يرَ أحدٌ منَّا المسيح! هل سَمع أحدٌ منَّا عن يسوعَ المسيح؟ بالطَّبعِ، جميعنُا سَمِعْنا عن يسوعَ المسيح، وقد آمَّنا به عندما أخبرونا عنه، فأصبَحْنا مِن أبناءِ الكنيسة، تلك الكنيسةِ الّتي أوصَلَتْ إلينا سرَّ الخلاصِ، القائمِ على التَّجسُّدِ وعلى سرِّ الفِداءِ الّذي تحقَّقَ بِمَوتِ المسيحِ وقيامتِه وصعودِه إلى السَّماء.
أحبّائي، هذا الإيمانُ لن يبقى معَنا إلى أبدِ الأبِدين. في رسائلِه، يُخبرُنا بولسُ الرَّسولُ عن الفضائلِ الإلهيّةِ الثّلاثِ، وهي: الإيمانُ والرّجاءُ والمحبَّة.
الإيمان: نحنُ نؤمِنُ بِيَسوعَ المسيحِ الّذي لَم نَرَهُ أبدًا، ولكنْ قد سَمِعْنا عنه، فوَثِقْنا به وأحبَبْناه وصَدَّقنْاه، فقرَّرْنا أن نَسيرَ معه. لا يكفي أن نؤمِنَ بوجودِ يسوعَ المسيح، فالشَّياطينُ أيضًا تؤمِنُ به، وهنا نَطرحُ السُّؤال: ما الفَرقُ بينَنَا وبَينَها؟ الفَرقُ هو أنّنا نسيرُ معه في خُطى الإيمان.
الرَّجاء: ما هو الرَّجاءُ؟ نحنُ نرجو ما لا نراه. إنّنا نرجو الحياةَ الأبديّة، وهذا ما نُعلِنُه في قانونِ الإيمان، إذ نقولُ: “ونَترَّجى قيامةَ الموتى والحياةَ الأبديّة”. إذًا، نحنُ نرجو أَمرَين: الأوَّلَ: قيامةَ الموتى، ونَعيشُ حياتَنا الأرضيّةَ انطلاقًا من هذا الإيمان؛ الثّاني: الحياةَ الأبديّة. عندما نموتُ، فإنَّ الإيمانَ والرَّجاءَ سوف يَبطُلان، لأنَّ مَن نؤمِنُ به، سَنَراهُ بِعيوننِا وسَنلمُسُه؛
أمَّا المحبَّةُ فهي ستَبقى، وستنمو معنا، في السَّماءِ. لماذ؟ لأنّ جوهرَ اللهِ هو المحبّةُ، وجَوهرُهُ لا متناهٍ. عندما نَدخُل في جوهر اللهِ اللَّامتناهي، سنَكتَشِفُ هذه المحبَّةَ ونَعيشُ معه سرَّ جوهرِه الّذي هو المحبَّة. إنّ كمالَ الإيمانِ يَتحقَّقُ بالموتِ، فَبعدَ الموتِ سنَرى مَن كُنّا نؤمِنُ به.
“فنَحنُ إِذًا واثِقون، ونَرى منَ الأَفضَلِ أَن نَهجُرَ هٰذا الجَسَدَ لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ”: طالما أنّنا موجودون في الجسد، فإنّنا لا نزالُ بَعيدين عن وجودِنا في السَّماء، أو في جوارِ الربّ، حَيثُ الاتِّحادُ الـمُطلَقُ والكاملُ بالربِّ يسوع.
“ولِذٰلِكَ أَيضًا نَطمَحُ إِلى نَيلِ رِضاه، أَأَقَمْنا في هٰذا الجَسَدِ أَم هَجَرْناه”: يُخبرُنا مار بولس أنّه إنّ كُنا في هذا الجسدِ أو لم نَكُن فيه، الـمُهِمُّ هو أن نُرضيَ الله. إنّ الحصولَ على رِضى الله يَكونُ مِن خلالِ الصَّلاةِ وعَيشِ المحبَّةِ وممارسةِ الأسرار، والابتعادِ عن الشَّرِّ وعن كُلِّ ما لا يُرضيه. في هذا الجسدِ، علينا أن نَعيشَ بِكُلِّ ما يُشبِهُ الله، أي حَسْبَ رِضاه، فنَعيشَ سرَّ التَّجسُّدِ وسرَّ الفداءِ بِكُلِّ أبعادِهما، مِن خلالِ عَيشِ الصّلاةِ والمحبَّةِ بِكُلِّ أبعادِهما. إنّ سرَّ التَّجسُّدِ في حياتِنا المسيحيّةِ مرتبطٌ بِسِرّ الفِداء. إنّ سرَّ التَّجسّدِ هو أن تتنازَل عن كِبريائِك، وتَعمَلَ من أجلِ تلبيةِ حاجة ِالآخَرِ ومساندتِهِ، وهذا نراهُ بِوضوحٍ في الحياةِ الزَّوجيّةِ، في الحياةِ الأبويّةِ وفي الحياةِ الأموميّةِ، كما نراها أيضًا في العلاقاتِ الإنسانيّةِ على سبيل المِثال بين الطَّبيبِ والمريضِ، فالطَّبيبُ يَبذلُ ذاتَه مِن أجل شفاءِ أخيه الضَّعيفِ بسبب مَرَضِه.
إخوتي، لقد اختَبر القدِّيسون هَجرَ الجسد، فعلى سبيلِ المِثالِ القدِّيسُ أنطونيوسُ عندما مات، هَجَرَ هذا الجسد، وكانتِ الابتسامةُ تَعلو وَجهَه كَمَن يَستقبلُ أحبّاءَهُ. وأيضًا القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع الّتي كانَتْ مُغرَمةً بالربِّ، فَهِيَ كانتْ تَشعُرُ بأنّ جسدَها يُشكِّلُ حاجزًا يَمنعُها من اللِّقاء بِحَبيبِها ألا وهو الربّ، وهذا ما عبَّرَتْ عنه في كلماتِها الأخيرةِ قَبْلَ موتِها: “أنا لا أموتُ، بل أدخلُ الحياة”، وبالتَّالي كانتِ القدِّيسةُ تريزيا تَستعدُّ بموتِها الأرضيِّ للدَّخولِ إلى الحياةِ الأبديّةِ ولقاءِ الحبيب.
“لِأَنَّه لا بُدَّ لَنا جَميعًا مِن أَن يُكشَفَ أَمرُنا أَمامَ مَحْكَمَةِ المسيح لِيَنالَ كُلُّ واحِدٍ جَزاءَ ما عَمِلَ وهو في الجَسَد، أَخَيرًا كانَ أَم شَرًّا”: إنّ هذه الآيةَ الأخيرةَ من هذا النَّصِ الّذي نتأمَّلُ فيه، تُوقِظُ ضمائرَنا، إذ يُخبرُنا بولسُ الرَّسولُ أنّ العدالةَ موجودةٌ في السَّماء. إنَّ العدالةَ في السَّماء تَستَنِدُ إلى أعمالِنا على هذه الأرض. وهنا نَطرحُ السّؤالَ على ذواتِنا: كيف نَستعملُ جسدَنا في هذه الأرض؟ هل نستخدمُه من أجلِ القيامِ بأعمالِ بِرٍّ أم من أجلِ القيامِ بأعمالِ خطيئةٍ؟ إذا كُنَّا قد استَخدمْنا هذا الجسدَ مِن أجلِ الخطيئة، فإنّنا بِكُلِّ تأكيدٍ لن نكونَ مع اللهِ في السَّماءِ ولن نلتقيَ به؛ ولكن إذا كُنَّا قد تشبَّهْنا بالمسيحِ على هذه الأرضِ، واستخدَمْنا جسدَنا للقيامِ بأعمالِ بِرٍّ وأعمالٍ خلاصيّةٍ، فإنَّ أسماءَنا ستكونُ، بكلِّ تأكيدٍ، مكتوبةً في السَّماء. في رسالتِهِ إلى أهلِ رومة، يُخبرُنا القدِّيسُ بولسُ أنَّهُ علينا الانطلاقُ بقلبٍ قويٍّ وبِثِقةٍ كبيرةٍ، نحو العالَمِ الثَّاني، مُتأكِّدينَ مِن حصولِنا على الخلاص.
إنّ عَدلَ الله هو يسوعُ المسيحِ ذاتُه: فإنَّ يسوعَ المسيحَ هو المحبَّةُ الكاملةُ والفِداءُ الكامِلُ، فَقَدْ اشترانا الربُّ يسوعُ بِدَمِه على الصَّليب، ومنَحَ الجميعَ الخلاصَ بِدِمِه، وبِفضلِه أصبحَتْ أسماؤنا جميعًا مكتوبةً في السَّماءِ بأحرُفٍ من ذَهب. إنّ اللهَ يعرفُ أنّ جبلَتَنا ضعيفةٌ وأنَّها معرَّضةٌ للسُّقوطِ والهوانِ في كلِّ حين، ولهذا السَّببِ أخبرَنا بولسُ الرَّسولُ أنّنا نُخطئ إن اعتَقَدْنا أنّ أعمالَ البِرِّ الّتي نقومُ بها في هذه الأرضِ هي الَّتي تُخلِّصُنا، لأنَّ الخلاصَ قد مُنِحَ لنا بِفضلِ رحمةِ الله. إخوتي، إنَّ رَحمةَ اللهِ هي أكبرُ مِن عدالةِ اللهِ ومِن أيّةِ عدالةٍ دنيويّةٍ. العدالةُ هيَ أن تأخُذَ ما لكَ وتُعطي الآخرَ ما له. أمّا الرَّحمةُ فهِيَ أن تُعطيَ الآخَرَ ما هو لَهُ، وأن تُعطيَه ذاتَكَ، وما هو لكَ. فرحمةُ اللهِ، أقوى من كُلِّ عدالةٍ، لأنَّ اللهَ أعطانا كُلَّ ما هو لنا، ووَهَبَنا ذاتَه ليُقدِّسَنا بِغَسلِ الماء، وبالكلمة.
عافاكم الله، وأنا بانتظارِ تعليقاتِكم وأسئلتِكم. أترُكُكم بين يَدَي الربّ ويَدَي العذراءِ مريم. إخوتي، إنّ مريمَ العذراءَ هي شَفيعَتُنا في السَّماءِ، ومَهما كانت خطاياكُم عظيمةً، تمسَّكوا بِثَوبِ العذراء: هذا ما علَّمَتْنا إيّاهُ القدِّيسةُ تريزيا الطِّفلُ يسوع، وهذا ما علَّمَنا إيّاهُ أهالينا. لقد علَّمَتْنا أمهَّاتُنا الالتجاءَ إلى العذراءِ مريمَ على مِثالِهنَّ، فَهنَّ يَقُمنَ بإضاءةِ الشُّموعِ والتضرُّعِ إلى العذراءِ مريمَ مِن أجلِنا. إنَّ الأُمَّ تُسامِحُ ابنَها على كلِّ زلَّاتِه، لأنَّ ابنَها يبقى بريئًا في نَظَرِها، مهما فَعَل؛ كذلك العذراءُ مريمُ تُسامِحُنا ونبقى أبرياءَ في نَظَرِها مهما فَعلنا، لذا علينا أن نتمسَّكَ بِثَوبِها للوصولِ إلى السَّماء. لِنَتقبَّلْ إرادةَ اللهِ في حياتِنا ولنُدرِكْ رحمَتَهُ مِن خلالِ قراءتنِا أقوالَ القدِّيسةِ فوستين. إنّ رحمةَ اللهِ هي أكبرُ من خطايانا بِكَثيرٍ، ومحبّةَ اللهِ هي أكبرُ من ضُعفِنا بِكَثيرٍ. إنَّ فِداءَ الله لنا هو أكبرُ مِن كُلِّ شرٍّ وخطيئة. إخوتي، تعالَوا إلى اللهِ ولِنَتقبَّلْ عمَلَه الخلاصيَّ في حياتِنا. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.