الرياضة السنويّة 2018 بعنوان: “لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” (مر 2: 1-12)    

دير سيّدة البشارة للروم الكاثوليك، واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل، كسروان.

الموضوع الثاني: “لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” (مر 2: 1-12) 

الأب ابراهيم سعد،

يُخبرنا هذا النّص الإنجيليّ أنّ البيت كان غاصًّا بالنّاس الّذين أتوا لسماع كلمة الله الّتي يُعلنها الربّ يسوع. وهنا يُطرح السؤال: أَجميعُ الحاضرين كانوا مُهتمِّين حقًّا لسماع كلمة الله، خاصّةً أنّ هذا العدد نفسه كان حاضرًا يوم محاكمة يسوع للمطالبة بصَلبِه؟ يتابع النصّ فيُخبرنا قصّة رَجُلٍ مخلَّعٍ أراد الوصول إلى يسوع، لكنّه عجِزَ عن ذلك وحدَه، لأسبابٍ ثلاثة: أوّلاً حالته الصِحيّة إذ لم يكن باستطاعة هذا الرَّجل المشي للوصول إلى الربّ، ثانيًا إزدحام النّاس في هذا البيت، وأخيرًا الظروف المعاكسة للمخلّع إذ لم يكن أمامه مَمَرٌّ للوصول إلى يسوع، حتّى أنَّ السقفَ كان مقفلاً أمامه. أمام هذه الحواجز، قد يتراجع المؤمِن عن مسيرته صوب الربّ، ولكنّ هذا المخلَّع لم يفقد الأمل بالوصول إلى الربّ لعِلمه أنّ يسوع هو الوحيد القادر على شفائه، وبالتّالي فإنَّ اقترابه مِن يسوع يشكِّل فِرصَتَه الذهبيّة للحصول على الشِّفاء. في ظلّ هذه العوائق الثلاثة في مسيرة المخلَّع صوب الربّ، يتكلّم النَّص الإنجيليّ عن أربعة رجالٍ، حَمَلوا المخلَّع وأوصلوه إلى الربّ. في معادلةٍ حسابيّة، نجد أنّ الرّقم أربعة يساوي الرّقم ثلاثة زائدًا واحدٍ. 

وبالتّالي، يمكننا الاستنتاج أنّه مهما كانت العوائق كثيرة وكبيرة، فإنّ الربّ لن يترك المؤمِنين به وحدَهم يُصارعون صعوبات هذه الحياة، بل سيُرسِل لهم دعمًا أكبر، ليتمكّنوا مِن تَخَطّيها والوصول إلى الربّ. لقد قام هؤلاء الرّجال الأربعة بحَمْلِ هذا المخلّع وبِتَحدّي كلّ الحواجز، فنَبَشوا السَقف ودلّوه منه ووضعوه أمام الربّ، فأثمر عملهم هذا شفاءً للمخلّع. لقد شفى الربّ المخلَّع قائلاً له: “قُمْ، اِحمِلْ فِراشَكَ، واذْهَبْ إلى بَيتِكَ!”، أي أنّ الربّ دعاه إلى متابعة حياته بشكلٍ طبيعيّ بعد أن أَعاد له عافيته. يُخبرنا النّص الإنجيليّ أنَّ الدّهشة أصابت الجموع، عندما شاهدوا المخلَّع ماشيًا حاملاً سريره، فمجدّوا الله. إنّ الجموع لم تمجِّد الله حين كان المخلَّع محمولاً على السَّرير مِن قِبَل الرِّجال الأربعة، بل مَجَدَّته حين حمل المخلَّعُ سريرَه. 

وبالتّالي في يوم شفائه، تحوَّلَ المخلَّعُ إلى مبشِّرٍ بكلمة الله، والسَّرير المحمول إلى إنجيلٍ متحرِّك.كانت رغبة المخلَّع العميقة أن يلتقي بالربّ لينال منه الشِّفاء، ولكنّ حالته الصحيّة والظروف الّتي تواجد فيها، إضافةً إلى الجموع الغفيرة الموجودة في ذلك البيت، شكَّلت عائقًا أمام وصوله إلى الربّ؛ غير أنّ وجود هؤلاء الرِّجال الأربعة حول المخلَّع ساهم في لقاءِ هذا الأخير بالربّ، وبالتّالي في تحقيق حُلمِه بالشِّفاء. إنّ المخّلعَ وصلَ مريضًا أمام يسوع، ولكنّه خرجَ مِن أمامِه مُعافًا. إذًا، إنّ الإنسان الّذي يرغبُ حقيقةً في لقاء الربّ ويسعى إلى ذلك، سيلتقي به وسينال منه حياةً جديدة.كان عدد الرِّجال الّذين حملوا المخلَّع أربعة، وهذا الرقم في الكتاب المقدّس يرمز إلى جهات العالم. إنَّ هؤلاء الرّجال كانوا سندًا للمخلَّع في وصوله إلى الربّ.

إنَّ الربّ لا يستطيع إلّا أن يتجاوب مع رغبة الإنسان العميقة في لقائه، وَما رِوايةُ مخلَّعِ بيتَ حِسدا إلّا دليلٌ على ذلك. ففي بيت حِسدا بِركَةٌ، تمنح الشِّفاء لأوّلِ مَن يغطس فيها عند تحريكِ ملاكِ الربّ لمياهها؛ لذا كان يجلس حولها كلّ المرضى، منتظرين تلك اللَّحظة، لأنّهم يرغبون بالحصول على الشِّفاء. وعند تلك البِركة، كان يجلس بين المرضى، مخلَّعٌ منذ ثمانٍ وثلاثينَ سنةً، ينتظر تحريك المياه ليرمي نفسه فيها، غير أنّ حالته الصِّحية كانت تمنعه مِن ذلك. فحين مَرّ يسوع في ذلك المكان، رآه وسأله عن رغبته العميقة، فكان جوابه أنّه يريد الشِّفاء، فأعطاه الربُّ سُؤلَ قلبِه. إنَّ صعوبات هذه الحياة لا تستطيع أن تقف حاجزًا أمام رغبة الإنسان في رؤية الله؛ لأنّه إمّا أن يُرسِل له الربّ عونًا وَسَنَدًا بشريًّا، وإمّا أن يأتي إليه الربُّ شخصيًّا ليُحقِّق له أمنيته العميقة. 

إنّ المؤمِن لن يتمكّن مِنَ السَّير نحو الربّ إنْ بَقيَ متمسِّكًا بحياته القديمة بما فيها مِن عاداتٍ وتقاليد بالية، لذا عليه أن يَثورَ عليها، ليتمكّن مِنَ الوصول إلى الربّ الّذي يمنحه حياة جديدة. إذًا، هناك ثلاثة حواجز تمنع الإنسان مِنَ الوصول إلى الربّ: أوّلاً المؤمِن نفسه، ثمّ الآخرين الـمُحيطين به، وأخيرًا الظروف المحيطة بالمؤمِن والّتي لا يمكنه تغييرها. عندما تُواجِهُهُ هذه الحواجز، يجد المؤمِن نفسه أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أن يستخدم تلك الحواجز حُجَّةً للبقاء في مكانه، وإمّا أنْ يحوِّلها إلى حافزٍ له، فيسعى إلى تخطِّيها والوصول إلى هدفه ألا وهو اللِّقاء بالربّ.

إنّ المال لا يستطيع أن يشتري كنزًا حقيقيًّا للإنسان، لأنّ ذلك الكنز ينبع مِن رغبة الإنسان العميقة: فَما نفعُ المال والجمال وغيرها من الأمور، لإنسانٍ مُصابٍ بداءٍ مستعصٍ لا أملَ في شفائه؟ إنّ الإنسان هو الّذي يُحدِّد كنزه، فيُوَجِّه إليه كُلَّ همِّه، فيخلق فيه هذا الكنزُ الـهِمَّةَ ليُغيِّر مسيرته القديمة ويحوِّلها إلى مسيرة مُهِمَّةٍ مع الربّ. على الإنسان أن يُحدِّدَ كنزه ليتمكّن مِن تحديدِ الطريق الّتي عليه أن يسلكها في رحلةِ البحثِ عن كنزِه. إنّ الإنسان الّذي يعتقد أنَّ كنزَه موجودٌ خارجًا عنه، هو إنسانٌ ضائعٌ في هذه الحياة، وسيتعرَّض للإحباط واليأس والفشل، عندما يكتشف أنَّ كنزَه مزيَّف، وسيرمي الإنسانُ مسؤوليّةَ فشلِه هذا على الآخرين الّذين، بالنسبة إليه، تركوه وحيدًا في مسيرتِه، ولم يُساندوه في بحثِه عن هذا الكنز. في هذا الصَّدد، يَعرِضُ لنا العهد القديم، قصّة إيلِّيا النبيّ الّذي اعتقد أنّه الوحيد بين شعب اسرائيل الّذي لا يزال يعبد الله. في أيّام إيلّيا، قامت مل

كةٌ وثنيّة تُدعى إيزابيل، نجحت في إقناع شعب الله بالمزج ما بين العبادة اليهوديّة والعبادة الوثنيّة، فابتعد الشَّعب عن الإيمان القويم بالربّ. فأرسل الله إيلّيا النبيّ إلى شعبه ليُعلِن له كلمة الحقّ، فيتوب عن ضلاله. انزعجت الملكةُ إيزابيل مِن إعلان النبيّ كلمةَ الحقّ للشَّعب المؤمِن، فاتَّهمت النبيَّ بأنّه مُقلقُ إسرائيلَ، فاضطهدته. في ظلّ هذه الأزمة الّـتي عانى منها النبيّ، توجّه إلى الله وطلب منه المساعدة، إذ حَسْبَ اعتقاد النبيّ، لم يبقَ غيره في اسرائيل ليُدافع عن الله، فاستجاب له الله وكان له الدّعم. ولكن عندما اشتّد الاضطهاد على النبيّ إيلّيا، وجدَ نفسه مِن جديد وحيدًا، فصلّى إلى الله طالبًا منه المعونة لأنّه هو الوحيد الّذي لا يزال يعبد الله في شعب اسرائيل، فقال له الربّ إنَّ ذلكَ غيرُ صحيحٍ إذ لا يزال سبعةُ آلافِ رُكبةٍ لم تسجد للبعل بعد، فظهر الربّ لإيلّيا بشكلِ نسيمٍ عليلٍ، على عكس ظهوراته للشَّعب قديمًا على شكل لهيب نار أو صوت رعد. لقد ظهر الربّ لإيليّا بنسيم عليل ليُعلِّمه أنّه يتكلّم مع الإنسان في الصَّمت لا بالقوّة، وبالتّالي أراد الربّ أن يقول لإيليّا إنَّ تصرُّفَه العنيف مع كهنة بعل، هو تصرُّف خاطئ.

إنّ أشقى النّاس في هذه الحياة هم الّذين يبحثون عن كنزِهم خارجًا عنهم، لأنّهم لن يجدوا في نهاية مسيرتهم سوى سَرابٍ ووَهْمٍ، فما يبحثون عنه هو كنزٌ مزيّف، إذ إنَّ الكنزَ الحقيقيّ موجودٌ في داخل الإنسان. عندما يكتشف الإنسانُ أنَّ كنزَه هو كنزٌ مزيَّف، لن يتردّد في التَّخلي عنه للبحث عن كنزٍ آخر يعتبره كنزًا حقيقيًّا بالنسبة إليه. إنّ عالمنا اليوم يُعاني مِن فقدان القناعة إذ نجد أنّ النّاس يبحثون عن كنوزٍ يعتقدون أنّها ستؤمِّن لهم السَّعادة، ولكن ما إنْ يحصلون عليها حتّى يكتشفوا أنّها مزّيفة وغير قادرة على مَنْحِهِم السَّعادة الّـتي لا تزول. إنّ بعض الأشخاص يجتهدون ويُحاربون مِن أجل الحصول على هاتفٍ ذكيّ مثلاً، وعندما يحصلون عليه، يكتشفون أنّه أصبح قديمًا إذ إنّ نسخةً جديدةً منه قد صَدَرت في الأسواق، فتتحوّل سعادتهم بامتلاكهم هذا الهاتف إلى تعاسةٍ لا تجد نهاية لها إلّا بشرائهم النُّسخة الجديدة مِن هذا الهاتف الذكيّ. إنّ شعبَنا اليوم لم يعد يكتفي بما لديه، بل يبحث على الدّوام عن كلّ ما هو جديد، حتّى وإن لم يكن ضروريًّا لحياته. ليس المقصود بهذا الكلام أن يتجرّدَ الإنسانُ مِن طموحه بالحصول على ما هو أفضل، إنّما المقصود أن يتحلّى الإنسان بالقناعة بما يملك، مِن دون أن يتحوّل حُبُّ امتلاكه لكلّ جديد إلى هاجسٍ له.

إنّ الكنز الحقيقيّ موجودٌ في داخل الإنسان، وبالتّالي فالإنسان الّذي يبحثُ عن كنزِه خارجًا عن ذاته، إنّما هو يبحث عن كنزٍ مزيَّفٍ غير قادرٍ على مَنْحِه السَّعادة. وَلَو لم يكنِ الكنزُ الحقيقيّ موجودًا في داخل الإنسان لما قال لنا الربّ يسوع في إنجيله:”حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم”. إنّ القلب هو قطعةُ لحمٍ لا يستطيع الإنسانُ العيشَ مِن دُونِها، إذ حين يُصبح القلبُ خارجَ الجسد، يموت الإنسان. إنّ القلب هو مكانُ سُكنى الله في الإنسان، فملكوت الله على الأرض هو في قلب الإنسان، أي أنّ الإنسان يستطيع أن يتذوّق الملكوت في هذه الحياة، ويستعدّ بالتّالي للدّخول إلى الملكوت الأبديّ وللقاء الربّ وجهًا لوجه، مع كلّ الّذين سبقونا وانتقلوا من بيننا إلى الملكوت. يخبرنا الربّ في إنجيله أيضًا بأنّه يهتمّ بزنابق الحقل وطيور السّماء وهو بالتّالي قادرٌ على الاهتمام بنا نحن البشر. لذا على الإنسان أن يثق بعناية الله له، فلا يجعل مِنَ الأمور الأرضيّة كنوزًا يلهث وراءها، بل يسعى لإيجاد كنزِه الحقيقيّ في داخله. إذًا، في إنجيل المخلَّع، تَعرَّفنا إلى الحواجز الثلاثة الّتي تعترض الإنسان في حياته، وهي، أوّلاً: الإنسان ذاته، ثانيًا: الآخرين، وأخيرًا الظروف الّتي تحيط بالإنسان. وقد وجدنا الحلّ المناسب للحاجز الأوّل الّذي يكمن في بحث الإنسانِ عن كنزِهِ في داخله لا خارجًا عنه.

إنّ الإنسان ينتابه اليأس والإحباط نتيجة خِبرتِه السيّئة مع إخوته البشر. غير أنّ بعض الّذين عانوا من اختباراتٍ جارحة ومؤذية مع الآخرين، يُعمِّمون تلك الخُبرات السلبيّة على جميع البشر، فيقولون على سبيل الـمِثال إنّ الحبّ قد مات، والوفاء قد فُقِد مِن أرض البشر. لا يجوز للإنسان أن يُعمِّم على جميع البشر ما اختبره مع البعض منهم، لأنّه كما اختبر أمورًا سلبيّة مع بعض النّاس، فقد يختبر الآخرون معه أمورًا سلبيّةً. 

إنّ الربّ قد يُرسِل إلينا بعض النَّاس ليكونوا لنا سَنَدًا في وقت الضِّيق لذا لا يجب تصنيفهم مُسبقًا انطلاقًا مِن خِبرتِنا مع بعض البشر. إنّ تعميم الـخُبرات السلبيّة على كلّ البشر، يشكِّل حاجزًا يَضَعه الإنسان أمام ذاته، يمنعه مِنَ الوصول إلى كنزِهِ الحقيقيّ أي الربّ. غريبٌ هو الإنسان الّذي يبحث عن كنزِهِ خارجًا عنه، على الرّغم مِن عِلمِه أنّ َالكنز موجودٌ في داخله! هذا ما اختبره آدم: فقد كان يعيش في الفردَوس، ولكنّه قررّ أن يبحث عن كنزِهِ الموجود بين يديه بمجهوده الخاصّ، رافضًا أن يقبل به كعطيّة مِنَ الله. كان كنزُ آدمَ موجودًا في داخله، لكنّ قلبه كان مشدودًا صوب الحيّة الّتي غشَّته إذ أقنعته أنّ الكنزَ موجودٌ في الخارج، فاجتهد للبحث عنه في الخارج لكنّه لم يجد سوى التعاسة والإحباط والفشل. إنّ سماعَ آدم لنصائح الحيّة والعمل بها، أدّى إلى توتير علاقته بالربّ. هكذا تتوتّر العلاقات بين البشر بدخول ثالث على العلاقة، وهذا الثالث قد يكون الإنسان نفسه، أو شخصٌ آخر، أو ظروف الحياة

لا يمكننا أن نفهم قول الربّ لنا:”حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم”، بِشكْلِه الصَّحيح إلّا إن أدرَكنا فعلاً مفهوم الكنز وكذلك مفهوم القلب حَسَبَ الكتاب المقدَّس. إنّ الكنزَ بالنسبة إلى الإنسان، هو كلّ ما يستطيعُ أن يوفِّر له الأمان والاستقرار، القوّة والاستمراريّة. قد يعتقد البعض أنّ أموالهم كفيلة بمَنحهم الاستقرار والأمان، غير أنّ ذلك غيرُ صحيح إذ إنّ امتلاكَهُم للأموال الوافرة تجعلهم هدفًا للاعتداء والسرقة. وعلى الرّغم مِن تَطوُّر الطبّ والعِلم، لم يتمكّن الإنسان مِن إطالة عمره وتحقيق خلوده في هذه الأرض، وبالتّالي لا شيء يستطيع أن يؤمِّن للإنسان الاستمراريّة، والخلود في هذه الحياة. إنّ البعض يشعرون بالقوّة حين يتواجدون ضمن مجموعاتٍ إذ يعتبرون ذلك فرصةً لإظهار ذواتهم، وبالتّالي دافعًا للهروب مِنَ العزلة. ليس إظهار الذّات للآخرين هو ما يمنح الإنسان قوّةً، إنّما ما يمنحه القوّة هو شعوره بأنّه إنسانٌ محبوبٌ مِنهم. إذًا، ما مِن كنزٍ أرضيّ خارج الإنسان يستطيع أن يمنحه السَّعادة الدائمة والاستقرار والأمان، القوّة والاستمراريّة، فكنوز هذه الأرض ليست سوى أوهام. 

إنّ الإنسان يشعر بالقوّة حين يشعر بأنّه محبوبٌ مِن آخر حُبًّا صادقًا لا يستطيع شراءه بالمال. إنّ الحبَّ أساسيٌّ في حياة الإنسان، لذا يَعمَدُ البعض إلى شراء الآخرين بأموالهم، مِن أجلِ حصولهم على الحبّ مِنهُم، ولكنّ هذا الحبّ يزول سريعًا لأنّه ناتجٌ عن عبوديّةٍ لا عن حريّة. إنّ الحبّ الحقيقيّ يشترط أن يكون الإنسان الّذي يُعلِن حُبَّه للآخر في حالةٍ مِنَ الحريّة لا في حالةٍ مِنَ العبوديّة. لا يستطيع الإنسان أن ينال حُبَّ الآخر إنْ تصدَّق عليه بالأموال، إنّما يستطيع الحصول على حُبِّه من خلال التّعامل معه بلطفٍ ومحبّة. إنّ الإنسان لا يستطيع الشُّعور بوجوده وبقيمته الإنسانيّة إن لم يشعر بحُبِّ الآخرَ له، حتّى وَلو كانَ أعظمَ عظماء العالم، وهذا ما بَرهَنه تاريخ البشريّة عبر العصور. إذًا، إنّ الكنز الّذي يبحث عنه الإنسان خارجًا عن ذاته هو كنزٌ مزّيف، يُوهِم الإنسان أنّه سيُمنحه القوّة والاستقرار والأمان والاستمراريّة، غير أنّه لن يستطيع أن يُحقِّق له شيئًا ممّا وَعَده به.

إنّ القلب في الكتاب المقدَّس هو كلمةٌ عِبريّة تعني اللُّبّ أي الكيان، وبالتّالي فالقلب لا يعني أبدًا مركزَ المشاعر، إنّما مركزَ الحياة في الإنسان. إنّ القلب الّذي ينبض يؤكِّدُ استمرارَ الحياة في الإنسان، إذ ليس الإنسانُ مَن يُقرِّر خفقان قلبه أو تَوَقُّفَه عن ذلك. بالموت، يخسر الإنسان كلّ كنزٍ خارجٍ عنه، ويحتفظ بكلّ كنزٍ وَجَدَه في داخلِه. بمعنى آخر، إنّ حصول الإنسان على الحياة الأبديّة بعد انتقاله مِن هذه الفانية، مرتبطٌ بقلبه لا بالأمور الماديّة الّتي سعى وراءها. إنّ القلب هو كيانُ الإنسان أي أنّه مركزُ العقل والعاطفة معًا، وبالتّالي على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق الانسجام ما بين عقله وقلبه، فيكونُ قلبُه فعلاً هو كلُّ كيانِه. لم يقصد الربّ يسوع في قوله: “حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم”، أنّه على الإنسان أن يجد كنزَه أوّلاً، ثمّ يُوجّه قلبَه صوبَ هذا الكنز، بل كان يصِف بهذا القول حالةَ الإنسان الّذي يكتشف كنزَه الحقيقيّ مِن خلال اكتشافه لاهتمامات قلبِه الأساسيّة. يُشكّل زمن الصّوم فرصةً لنا، كي نبحث عن الكنزِ الحقيقيّ الموجودِ في داخلِنا: فإنْ كان الربُّ القائم مِنَ الموت هو كنزُنا، فهذا يؤكِّد أنّ قلبنا مشدودٌ صوب القيامة، أي صوب الملكوت، صوب الحياة الّتي لا تزول. إنّ الإنسانَ الّذي يجدُ في الربِّ القائمِ كنزَه، سينجح في تَخَطّي كلّ صعوبات هذه الحياة لأنّه يُدرِك تمامًا أنّه لن يكون وحيدًا في مواجهته لها، إذ سيشعر على الدّوام بوجود الربّ معه. وبالتّالي فإنّ زمن الصّوم لن يكون بعد اليوم عبئًا ثقيلاً على هذا الإنسان، إنّما سيكون فرصةً لاختبار القيامة مِن خلال الصّوم والصَّدقة والصّلاة.

إنّ اعتقاد الإنسان بأنَّ القيامة هي كنَزٌ خارجٌ عنه هو اعتقادٌ خاطئٌ تمامًا. إنّ القيامة لا تنتمي إلى عالم البشر بل إلى عالم الله، وهي تَنقُل كلّ مَن يؤمِن بها مِن عالمه البشريّ إلى عالمها السماويّ. إذًا، لا يستطيع الإنسان المؤمِن أن يُدخِل القيامة إلى عالمه، بل إنّها هي الّتي تُدخِله إلى عالمها. إنّ قيامةَ الربِّ هي كنزٌ موجودٌ خارج عالَـمِك، وبالتّالي كي تنال القيامة، عليكَ أنْ تَسلُكَ بما يتوافق مع إيمانك بها. فإنْ أصبَحَتِ القيامة كنزَك المنشودَ، فهذا يعني أنّ كلّ موتٍ في حياتك، سيتحوّل إلى فرصةٍ للعبور إلى القيامة. إنّ الإنسان الّذي لا يَتَقبّل موتَ أحبّائه، هو في الحقيقة إنسانٌ يرفض فكرةَ الانفصالِ عنهم بالجسد، وبالتّالي لو تمكّن العِلم من إيجاد طريقةٍ للإنسان تساعده على التواصل مع أحبائه المنتقلين ورؤيتهم، لما كان موتهم سيشكّل أزمةً له. إنَّ كلَّ الأحزانِ والشَّدائد والإحباط الّتي يُعاني منها البشر في يوم فراقهم لأحد الأحبّاء، تتحوّل عند الإنسان المؤمِن بالقيامة إلى فرصةٍ للعبور مِن خلالها إلى القيامة. إذًا، مِن خلال الموت، يَكتَشِفُ الإنسانُ أنَّ الكنزَ الّذي يبحثُ عنه في داخله، هو حالةٌ داخليّة، لا أمرٌ حسيٌّ يحصل عليه.

إنّ الإنسان توَّاقٌ بطبيعته إلى تطوير ذاته، لذا فإنّ كلّ اهتمامٍ دنيويّ عند الإنسان يَهدِفُ إلى تَقَدُّمِه هو أمرٌ مشروع. إنّ الإنسان قد تمكَّن مِن تحسين نمطِ حياته، مِن خلال الاكتشافات الطِبيّة الحديثة الّتي ساهمت في القضاء على بعض الأوبئة الفتّاكة بحياة الإنسان. والاكتشافات العلميّة ساهمت في اقتراب الإنسان أكثر من كنزِه الحقيقيّ ألا وهو الربّ. إنّ كلّ طموحٍ يسعى إليه الإنسان ويكون خارجًا عن ذاته، يتحوَّل إلى “مَقبَرَةٍ” لسعادته. إنّ الإنجيلَ يؤكِّدُ لنا أنَّ كلّ سعادةٍ يبحث عنها الإنسان خارجًا عنه، هي “حماقةٌ وجَهلٌ”، ويُوضِّح لنا الإنجيل هذا الأمر مِن خلال مَثَل الغنيّ الغبيّ، الّذي قرّر أَنْ يَهدِم أهراءَه ليبنيَ أكبر منها وأوسَع، ولكنَّ الربَّ فاجأه بالقول: “يا غبيّ، في هذه اللّيلة تُسْتَرَدُّ نَفسُكَ منك، فَلِمَن يكونُ ما أعدَدْتَهُ؟”(لو 12: 13-21). إنّ هذا الغنيّ لم يكن مُستَعدًّا لساعة انتقاله، لأنّه وَجَد في تخزينِ الطّعام في هذه الأرض مَصدَر سعادةٍ له. على الإنسان أن يتمتّع بروح الحكمة والتمييز فيُدرِك مَصدَر سعادته الحقيقيّة. يعتقد البعض أنّ كنزَهم يكمن في القيام بالأمور الصّالحة لاسترضاء الله، غير أنَّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، لأنّ تجسُّدَ الربِّ في أرضنا كانت نتيجة أعمال الإنسان السيئة لا نتيجة أعماله الحسنة، وبالتّالي لو لم يكن الربُّ راضيًا عن الإنسان لما تجسَّد مِن أجله. إذًا، إنّ رِضى الله على الإنسان غيرُ مرتبطٍ لا بأعمال هذا الأخير ولا ببَرارته، فالشَّعب نال حُظوةً في عينيّ الربّ على الرّغم من حالة الخطيئة الّـتي يعيش فيها.

غريبٌ هو الإنسان لأنّه يهتمّ لنظرَتِه الخاصّة إلى ذاته لا إلى نظرة الله إليه. إنّ قيمة الإنسان في نظر الله عظيمةٌ جدًّا، وهو، أي الله، الوحيدُ القادر على إعطاءِ الإنسانَ قيمتَه الحقيقيّة. إنّ الربّ كان سيتجسَّد من أجل خلاص الإنسان، حتّى وإن لم يكن هناك مخلوقٌ آخر سواه في هذه الأرض. إنّ كنزَ الربِّ هو قلبُ الإنسان، وبالتّالي إلى هناك يتَّجه قلب الله، بدليل تركيز الله كلَّ اهتمامِه على خلاص النّفوس البشريّة. إنّ الله هو الوحيد الّذي يَعرِف قيمة الإنسان الحقيقيّة، وبالتّالي على الإنسان أن ينظر إلى ذاته انطلاقًا مِن نظرة الربّ له، فلا يسمح أن تكونَ نظرتُه إلى ذاته أقلَّ شأنًا مِن نظرة الله له. إذًا، مِن هذا المنطلق، على الإنسان ألّا يستهين بقيمة وجوده، أو بالطاقات الّتي منَحَهُ إيّاها الله، وبالتّالي لا يحقّ للإنسان تحت أيّ ظرفٍ مِنَ الظروف المعيشية أنْ يستقيل مِن دَورِه الفريد في هذه الحياة. على كلّ إنسانٍ أن يبحث عن معنى وجوده في هذه الحياة، فيُدرِك ما هو دَورُه فيها. إنّ الإنسان الّذي يَدّعي عدم إدراكه للوسائل الّتي تساعده على معرفة دَورِه في الحياة، هو إنسانٌ قد توقَّف عند عوائق هذه الحياة، لأنّه يرغب في لَعبِ دَور المخلَّع الّذي يحتاج إلى أربعة رجالٍ لمساندته للوصول إلى هدفه المنشود، ألا وهو اللِّقاء بالربّ.

“مَن كان أبوه أو أمُّه أَحَبُّ إليه مِنّي، فليسَ أهلاً لي. ومَن كان ابنُه أو ابنتُه أَحَبُّ إليه مِنّي، فليسَ أهلاً لي” (متّى 10: 37): في هذا الكلام، لا يطلب الربّ منّا أن نُحبّه دون سواه مِنَ البشر، بل يطلب منّا أن نُحبّه أكثر من جميع البشر، كي يكون لنا نصيبٌ معه. إنّ المحبّة تجعل من المحبوب في حالة تبعيّة لِمَن يُحبّ. وبالتّالي إنّ الربّ يُحذّرنا من محبّة النّاس أكثر مِن محبّتنا له، لأنّه في تلك الحالة نكون قد وَضَعنا الآخرين مكان الله. لا يمكن للمؤمِن أن يتبع الله والآخرين في وقتٍ واحد، لأنّه إمّا أن يُرضي الله على حساب الآخرين، وإمّا أن يُرضي الآخرين على حِساب الله. على المؤمِن أن يسعى إلى السَّير في هذه الحياة وِفقَ تعاليم الربّ إن كان يريد الحصول على الحياة الأبديّة، فإنّه لا يجوز للمؤمِن اتِّهام الله بالظُّلم في حال عدم دخوله إلى الملكوت السماويّ، لأنّه مَن لم يكن طائعًا لله وعاملاً بكلامه في هذه الحياة، لا يمكنه طاعة الله في الحياة الأخرى. إنّ الله دعا جميع البشر إلى اتّباعه والدّخول إلى الملكوت، ولكن إنْ رفَضَ بعض البشر تلك النِّعمة، فلا تقع المسؤوليّة في ذلك على الله إنّما على الإنسان وحده. فكما أنّه لا يمكن للإنسان أن يُشارك في حضور عرضٍ موسيقيّ أو مسرحيّ مِن دون شرائه بطاقة دخول، كذلك لا يمكنه أن يحضر أمام الله في ملكوته ما لم يكن مستعدًّا للدّخول إليه من خلال تحقيقه لكلمة الله في حياته الأرضيّة. إنّ الله يُحبّ جميع البشر دون استثناء ولكنّه لا يستطيع أن يُجبر أيّ إنسان على أن يُحبُّه رُغمًا عنه. إنّ الله، مِن شدّة حبّه لنا، يستطيع الاستمرار في محبّته لنا، حتّى وإن لم نُبادله نحن البشر تلك المحبّة. إنّ رَفضَنا لمحبّة الله، يُسبّب لله ألـمًا وحُزنًا إذ إنّنا لن نتمكّن مِن مشاركته الوليمة السماويّة في الملكوت، مع ابنه يسوع المسيح. إنّ لكلّ بيت أرضيّ قوانينه الخاصّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى البيت السماويّ أي الملكوت، فالله قد وَضَع له قوانينَ تُوجِب كلّ الرّاغبين في الدّخول إليه الالتزام بها.

إنّ علاقة الإنسان بالله هي على ثلاثة مستويات: علاقة عبدٍ بسيِّده، علاقة أجير بربّ عمله، وعلاقة ابنٍ بأبيه. إنّ الإنسان يملك ملء الحريّة ليختار نوع علاقته بالربّ: فإن اختار أن تكون علاقته بالربّ، علاقةَ عبدٍ بسيِّده، أو علاقةَ أجيرٍ بربّ عمله، فإنّ الربّ سيكون هو الرابح على الدّوام؛ أمّا إن اختار الإنسان أن يبني مع الله علاقة ابنٍ بأبيه، فإنَّ الله سيكون الخاسر الأكبر، والإنسان هو الرّابح الأكبر، لأنّ الله سيتحوّل إلى عبدٍ لأبنائه بفعل محبّته العظيمة لهم. لو عاد التّاريخ بالله إلى الوراء، فإنّنا سنراه مستعدًّا من جديد لتكرار عمله الخلاصيّ للبشر تعبيرًا عن محبّته العظيمة لهم، وهو لن يندم على ما قام به مِن أجلهم حتّى وإن رَفَضَ البعض منهم خلاصه. إنّ الله قد اتَّخذ بشريّتنا لأنّه على قناعة تامّة أنّه ما لم يُتَّخذ لا يُخلَّص، ولهذا السَّبب شابهنا في كلّ شيء ما عدا في الخطيئة، فالخطيئة ليست مِن طبيعتنا البشريّة بل هي طارئةٌ عليها. إنّ الله اتّخذ إنسانيّتنا الحقيقيّة كما خلقها الله، أي بلا خطيئة، وخلَّصها. على الإنسان ألّا يُضيِّع وقته في إثبات مدى محبّته لله، ومدى إيمانه به؛ بل عليه أن يسعى إلى اكتشاف مدى محبّة الله له، ومدى إيمان الله به، فيكتشف الإنسان قيمته الحقيقيّة ومعنى وجوده.

في إنجيل المخلّع، نقرأ “ورأى يسوعُ إِيمانَهم”. إنّ هذه العبارة تحتمل بعض التأويل، إذ إنّها لا تُوضِح لنا ما إذا كان المقصود بهذا الكلام هو إيمان الرِّجال الأربعة وحسب، أم أنّها تُشير أيضًا إلى إيمان المخلَّع مع إيمان هؤلاء الأربعة. إذًا، يضَع هذا الإنجيل أمامنا صورة هؤلاء الرّجال الأربعة الّذين كانوا سندًا للمخلَّع في وصوله إلى يسوع وشفائه، وبالتّالي يدعونا هذا النّص إلى التواضع فنتمكّن مِن رؤية الدّعم الّذي يُرسله الله لنا مِن خلال وجود الآخرين بالقُرب منّا في ظلّ الصّعوبات الّتي نواجهها في هذه الحياة.
إنّ بعض المؤمنين يعتقدون أنّ الحدث الأهمّ في نصِّ المخلَّع هو إيمان المخلّع والرِّجال الأربعة، غير أنّه في الحقيقة الحدث الأهمّ هو وجود يسوع: فلولا وجود يسوع لما كان حدث هذا الشِّفاء. إنَّ الإنجيل ينقل إلينا العديد مِن الشفاءات الّتي قام بها يسوع مع أشخاصٍ التقى بهم على الطريق، دون أن يتفحَّص إيمانهم. إنّ الله رحومٌ على البشر، وهو يفيض رحمته عليهم دون أن يشترِط إيمانهم به، بدليلِ أنّه تجسَّد في أرضنا ومنَحنا الخلاص، قبل أن نَتعرَّف إليه ونؤمن به. إنّ الإنسان لا يحصل على الإيمان نتيجة مجهوده الشخصيّ، بل هو نعمة من الله تُساعده على التمتُّع بالخلاص منذ اللّحظة الحاضرة. أمّا الّذي لم يؤمِن فإنّه سينال الخلاص في اليوم الأخير إن كانت حياته مُطابقة لتعاليم المسيح.
هناك مقولة تقول: “آمِن بالحجر تَبرَأ”، ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أنّ الأشياء الّتي يُؤمِن بها الإنسان هي الّتي تمنحه الشِّفاء، بل المقصود بهذه المقوله، أنّه إن آمَن الإنسان بحجر الزّاوية أي يسوع، نال الشِّفاء. ولكن يجدر بنا التوضيح أنّ شفاء الإنسان مِن مرضِه لا يكون نتيجة إيمانه بيسوع، إذ ليس إيمان الإنسان هو الّذي يشفيه مِن مَرَضِه إنّما تَدَخُّل يسوع وتحنُّنه على الإنسان هو الّذي يؤدّي إلى الشِّفاء. وبالتّالي عندما يقول يسوع للمريض: “إيمانُكَ شفاك (خلَّصك)”، فهذا يعني أنّ قبول الإنسان لعمل المسيح في حياته هو الّذي أثمر شفاءً له، وبالتّالي إنّ عَمَلَ يسوع في الإنسان هو الّذي أدّى إلى الشِّفاء لا إيمان الإنسان بيسوع. في رسائله، يستخدم مار بولس ثلاث عبارات تدلُّ على الأمر نفسه، وهي: أوّلاً الإيمان مِن دون أيّ إضافاتٍ على هذه العبارة، ثمّ الإيمان بالإنجيل وأخيرًا الإيمان بيسوع المسيح. إذًا، إنّ المقصود بعبارة “رأى يسوع إيمانهم”، هو أنّ يسوع قد رأى إيمان الرِّجال الأربعة والمخلَّع، معًا، بدليل أنّه قال للمخلَّع: “مغفورة لك خطاياك”، ولم يوجِّه هذا الشِّفاء مِن الخطايا إلى الرِّجال الأربعة، إذ لم يستخدم الإنجيليّ في هذه العبارة صيغة الجمع. إذًا، لا يمكننا أن نُنكِر إيمان المخلَّع، فلو لم يكن هذا الرَّجل المريض ذا إيمان قويّ بالربّ لما سمح لهؤلاء الرِّجال بأن يحملوه ويُحضروه أمام الربّ.

إنّ الشَّعب اليهوديّ لم يتحوّل إلى أمَّةٍ مقدَّسة ولم يحصل على الكهنوت الملوكيّ، نتيجة مجهوده الخاصّ، بل كان ذلك نعمةً مِن الله له. إنّ المؤمِن لا يصوم لأنّه يريد الحصول على مُكافأة مِنَ الربّ نتيجةً لصَومه، بل يصوم لأنّه اكتشف أنّ الله قد سَبَق وأعطاه كلّ شيء. إنّ المؤمِن لا يعترف بخطاياه كي ينال المغفرة مِنَ الربّ، بل يعترف بها لأنّه اكتشف أنّ الله قد غَفَرَ له كلّ آثامه قَبل أن يُعلِن ندامته عنها. إنَّ المؤمِن الّذي لا يعتمد هذه الذهنيّة، هو إنسانٌ يتعامل مع الله على أنّه ربّ عمله، أو سيِّدٌ له، وبالتّالي هو يحضر أمامه مُطالبًا رئيسه بالحصول على مكافأة لِما أنجزَ وحقَّق في حياته. أمّا المؤمِن الّذي يعتمد هذه الذهنيّة فهو إنسانٌ يشعر بأبوّة الله له، وبالتّالي فإنّ علاقته بالربّ مبنيّة على مبدأ الحبّ لا على مبدأ الشريعة. إنّ قانون الحبّ مختلفٌ تمامًا عن قانون الشريعة، إذ إنّه أصعب في التطبيق، ولكنّه يُحرِّر المؤمِن ويمنحه الحريّة. إنّ قانون الحبّ هو إذًا قانون الحريّة. إنّ الحرّية تفترض وجود مسؤوليّة عند المؤمِن. عندما نتكلّم عن أمَّةٍ مقدَّسةٍ، وكهنوتٍ ملوكيٍّ، فهذا يشير إلى ارتباط هذه الأمّة بالقدّوس، وهذا الكهنوت بالـمَلِك، أي الله. إنّ المؤمِنين بالله جميعًا، يتحوَّلون إلى خَدّامٍ للعرش الإلهيّ، لا بمعنى العبيد، بل بمعنى خدمتهم لهذا العرش مِن أجل استمراره والمحافظة على فعاليّته في وَسَطِهم. إنّ شعب الله هو شعبٌ كهنوتيّ، وهذا يعني أنّ أفرادَه هم كهنة، أي أنّ عليهم الاشتراك في تقديم تلك الذبيحة الدائمة، وهي ذبيحة يسوع المسيح الّتي تمّت مرّة واحدة في التّاريخ، ولا يزال الشَّعب كلّه يعيش ثمارها ومفاعيلها، إلى يومنا هذا؛ فالشَّعب يعيش مِن تلك الذبيحة الوحيدة، وبها ولها. إنّ الكاهن، لا يُقدِّم ذبيحةً جديدة في كلّ احتفالٍ افخارستيّ، بل إنَّ احتفاله يُشكِّل امتدادًا للذبيحة الوحيدة، ذبيحة المسيح، وما كهنوته إلّا امتدادٌ لكهنوت الكاهن الأوحد يسوع المسيح. لقد اندثرت كلّ سلالةٍ كهنوتيّة بتجسُّد المسيح بين البشر. فالكهنوت الملوكيّ إذًا والأمّة المقدَّسة، هما عطيّتان مِنَ الله للبشر. وهنا يُطرح السؤال: كيف يعيش المؤمِن كلّ تلك العطايا بفرح، وكيف يحافظ عليها في عالمه؟

في زمن الصّوم، علينا أن نصوم لا مِن أجل الحصول على مكافأةٍ مِنَ الربّ، إنّما علينا الصّوم مِن أجل كلّ إنسان لم يتمكّن مِن الحصول على الأمور الأساسيّة في الحياة، فنساهم في صَومِنا لا في ادِّخار المال، بل في مساعدة المحتاجين إلى الأمور الماديّة والمعنويّة. فحين تُشارك الفقير صَومَك، فإنّك تعبِّر في الوقت نفسه عن إدراكِكَ لمعنى قيامة المسيح مِن أجلك، فالمسيح قد مات بسبب فَقر البشر الروحيّ، ليُغنيهم بقيامته. ولذا على المؤمِن أن يعيش صَومه هذه السنّة بذهنيّة جديدة، مبنيّة على إماتة النَّفس من أجل إغناء الآخر المحتاج.
لقد قال الربّ يسوع في إنجيله: “ولكن ستاتي أيّامٌ فيها يُرفَع العريسُ مِن بينِهم، فعندئذٍ يصومون في تلك الأيّام” (لو 5: 35) على صَومنا أن يُعاش بذهنيّة جديدة غير مبنيّة على الشَّكليات كما هي الحال في الصَّوم اليهوديّ والصَّوم الوثنيّ. إنّ الإنجيليّ لوقا يقصد بعبارة “حين يُرفع العريس من بينهم”، موت المسيح على الصّليب، وإتمامه لعمله الخلاصيّ. وبالتّالي فإنّه حين يُحقِّق الربّ عمله الخلاصيّ مِن أجلك، عندها يتوجَّب عليك أن تصوم، أي أنّه عليك أَن تُساهم في خلاص نفوس إخوتك البشر فتُطعم الفقير وتزور المسجون، وتقوم بأعمال الرّحمة مِن أجلهم. إذًا، إنّ الصَّوم المسيحيّ لا يقوم على انقطاع المؤمِن عن الطّعام في فترة قَبل الظهر وحسب، بل على المؤمِن أن يحوِّل المال الّذي يدّخره مِن خلال هذا الانقطاع عن الطّعام، إلى الّذي لا يملك طعامًا، فيُفرِّح قلوب المحتاجين بعطائه لهم، ويَشعر بفرح القيامة. على صَومِنا ألّا يكون فارغًا مِنَ القيامة. إنّنا لا نصوم مِن أجل الوصول إلى القيامة، ولكنَّنا نصوم لأنّنا وَصَلنا إلى القيامة. إنّ مجتمعنا المسيحيّ يحتاج إلى معموديّة جديدة تبدأ في هذا الزّمن بتغيير ذهنيّته القديمة واستبدالها بذهنيّة الإنجيل.

ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp