تأمّل للأب ميشال عبود الكرمليّ،
رعيّة مار الياس – انطلياس، المتن.
“الطريق إلى السّماء”
يُخبرنا الكتاب المقدَّس عن السّماء ويرسم لنا الطريق المؤدِّية إليها، أي أنّه إن كان الإنسان يريد السّماء، يتوجَّب عليه قراءة الكتاب المقدَّس ومعاشرته. في إنجيله، يَعِدنا الربّ بالسّماء ولكنّه لا يَعِدنا بالحياة السَّعيدة والخالية من المشاكل في هذه الأرض، وبالتّالي لا يحقّ لنا لوم الربّ على المشاكل الّتي تعترِضنا في حياتنا: في فقدانِنا لعزيزٍ مِن خلال سرّ الموت، أو في تعرُّضنا أو أحد المقرَّبين منّا لأوجاعٍ نتيجةَ أمراضٍ مستعصِية. لا يمكننا الطلب منه تحقيق رغباتنا، مِن خلال إضاءة الشُّموع، وتلاوة بعض الصّلوات.
عندما يخضع التّلاميذ للامتحانات، فإنّهم يتوقّعون النّجاح كمكافأةٍ لهم على أتعابهم وجهودهم الّتي بذلوها. هذا ما كان ينتظره التّلاميذ مِن يسوع، يوم عادوا مِن رسالتهم وأخبروه أنَّ الشياطين تُطيعهم، وأنّهم قد تمكّنوا مِنَ القيام بالمعجزات باسمه، غير أنّ الربّ قال لهم حين سماعه منهم هذا الكلام، لا تفرحوا بكلّ تلك الإنجازات الّتي حقّقتموها، بل افرحوا لأنّ أسماءكم مكتوبةٌ في السَّماء. لا يُشبه نجاح التّلاميذ في الامتحانات المدرسيّة، دخولَ الإنسان إلى السّماء: فالتّلميذ لا يستطيع الارتقاء مِن مرحلةٍ دراسيّة إلى أُخرى مِن دون تأكيد نجاحه في المرحلة السابقة، أمّا في ما يخصّ دخوله إلى السّماء، فإنّه يستطيع ذلك حتّى وإن أخفق في حياته الماضيّة إذ يكفيه أن يتخِّذ قراره في اتِّباع المسيح لينال السّماء، أي السَّعادة الّتـي لا تزول.
إذًا، إنَّ دخول الإنسان إلى السّماء مرتبطٌ بقرار الإنسان لا بإخفاقاته ونجاحاته في هذه الحياة: فعلى الإنسان أن يختار ما بين السَّير مع الربّ في هذه الحياة وبالتّالي في الحياة الثانية أيضًا، وإمّا أن يسير بعيدًا عن الربّ في هذه الحياة وفي الأُخرى أيضًا. إنّ السَّير مع الربّ، لا يعني أبدًا أن حياتنا على الأرض ستكون خاليةً من المشقَّات، وأنّنا سنُصبح قدِّيسين على الفَور.
إنّ الرّسل والتّلاميذ الّذين اختارهم الربّ يسوع أصبحوا قدِّيسين وهم موجودون في السّماء، ولكن حين كانوا لا يزالون على قيد الحياة، عاشوا الكثير مِنَ الإخفاقات وخاصّة حين كان يسوع معهم. فمثلاً، في مناقشتهم لمسألة مَن هو الأكبر في ملكوت السّماوات، تشاجر التّلاميذ مع بعضهم البعض، ولم يتجرّأوا على الاعتراف بذلك أمام الربّ حين سألهم عن سبب شِجارهم في الطريق، ولكنّ الربّ حاول توضيح الأمور لهم مِن دون معاقبتهم على اختلافهم مع بعضهم البعض في الرأي.
وكذلك الأمر مع القدِّيسَيْن بولس وبربانا، فقد اختلفا في وُجهات النَّظر في ما يختَصّ بخدمة الرِّسالة، فانفصلا في مسيرتهما التبشيريّة، ولكنّهما أصبحا في ختام حياتهما الأرضيّة من عِداد القدِّيسين.
إذًا، على الإنسان أن يختار ما بين العيش مع الربّ في هذه الحياة، فينال الملكوت بعد الموت، أو العيش بعيدًا عنه في هذه الحياة، فينال النّار الأبديّة بعد الموت. إنّ نصّ الابن الضّال يُوضح تمامًا هذا الأمر: فالابن الأصغر قرّر ترك المنزل والعيش بعيدًا عن أبيه، وعندما اختبر الجوع، فكّر بالعودة إلى بيت أبيه. إنّ هذا الابن لم يفكّر بالعودة محبّةً بأبيه، بل فكّر بالعودة انطلاقًا من ذاته: “كم أجيرٍ لأبي يَفضُل عنه الخُبز وأنا أهلِك هنا جُوعًا! أقوم وأمضي إلى أبي فأقول له: با أبتِ إنّي خطِئتُ إلى السّماء وإليكَ. ولستُ أهلاً بعد ذلك لأنْ أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحدِ أُجرائك” (لو 15: 17- 19).
عندما عاد الابن إلى بيت أبيه، لم يهتمّ أبوه لحالة القذارة الّتي كان فيها، بل أسرع إليه وقبّله على عُنُقِه. لقد عبّر الأب عن فرحِه بعودة ابنه من دون أن يخشى الاتِّساخ جرّاء معانقته له. إخوتي، إنّ الآباء الأرضيّين لا يُعاقبون أبناءهم على اتِّساخ ملابسهم عند عودتهم إلى المنزل، فكم بالحريّ أبونا السّماويّ، فالكتاب يقول: “فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تُعطوا العطايا الصَّالحة لأبنائكم، فما أَولى أباكم السّماويّ الّذي في السّماوات بأن يُعطي ما هو صالحٌ للَّذين يسألونه!” (متّى 7: 11).
إنّ الفرصة مؤاتيةٌ لنا في كلّ حين، كي ندخل إلى السّماء، لأنّ الربّ يسوع قد أعطانا خريطة الطريق الكفيلة بإيصالنا إلى هدفنا ألا وهو السّماء. لذا فلنُحسِن الاختيار، ولنختر العيش مع الربّ، ولنثق به، ونؤمِن بكلّ ما قاله لنا: “مَن آمن بي وإن مات فسيحيا” ( يو 11: 25)، “مَن أكلَ جسدي وَشَرِب دمي، فله الحياة الأبديّة، وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو 6: 54)، لأنّه الوحيد القادر على أن يمنحَنا السّعادة الأبديّة أي السّماء.
إنْ آمنّا بالربّ وبكلامه، تَكُفُّ السّماء عن أن تكون “جائزة يانصيب” لا يحصل عليها إلا قلائل، وتُصبح في متناول جميع الّذين يقرِّرون السَّير في خطى المسيح، لأنّ السّماء مرتبطة بعلاقة المؤمِن بالمسيح. آمين.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.