تأمّل للأب ميشال عبود الكرمليّ،

رعيّة مار جرجس – الديشونية، المتن.

“نحن أبناء السّماء”

المجد للّه، دائمًا للّه. ها قد أتيناكم اليوم مع شبيبة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لنَنقُلَ إليكم روحانيّة هذه الجماعة الـمَبنِيّة على السّماء. في الإنجيل،كلّمنا الربُّ يسوع بأمثلةٍ كثيرةٍ عن ملكوت السّماوات، قائلاً: “يشبه ملكوت السّماوات”. إذًا، يقدِّم لنا الإنجيلُ خريطةً تقودنا إلى السّماء. حين نتكلَّم عن السّماء، لا بدَّ لنا أن نتكلَّم عن الموت.

إنّ الموت هو أمرٌ مزعجٌ للإنسان، إذ يَفصلُه جسديًّا عن أحبّاء له في هذه الحياة. كان الموت أيضًا أمرًا مزعجًا بالنسبة للربِّ يسوع، بدليلِ أنّه صلّى في بستان الزّيتون، في ليلة آلامه، إلى الله أبيه، طالبًا منه أن يُبعِد عنه هذه الكأس، كأس الموت. في “الدَّفتر الأصفر” الّذي تمّ فيه تدوين الكلمات الأخيرة للقدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، تُعبِّر القدِّيسة في مرحلة نزاعها، أي في الفترة الفاصلة ما بين الموت في هذه الأرض والحياة الثانية مع الربّ، عن اختبارها الرّوحيّ وإيمانها بالربِّ يسوع بالقَول:”أنا لا أموت بل أدخل الحياة”.

إنَّ نظرة المؤمِنِين إلى الموت قد تبدَّلت، إذ لم يَعُدِ الموتُ أمرًا مزعجًا، بل هو مجرَّد مرحلةِ عبورٍ ضروريّة من هذه الحياة إلى لحياة الثانية. قد يقول البعض إنّنا لا نعرِف ماذا ينتظِرنا في الحياة الأخرى، إذ لم يَعُد أحدٌ من الموتى ويُخبرنا بما عاين هناك.

إنَّ الربَّ يسوع قد نزل مِن السَّماء إلى أرضنا ليُخبرنا بكلّ ما سَمِعه من الله الآب، وبالمجد الّذي عاينه في الملكوت السماويّ. إنَّ الربّ يسوع، قد مات على الصَّليب وقام من بين الأموات، ثمّ ظهر لتلاميذه ليؤكِّد لهم أنّه غلب الموت بالحياة، وأنَّ تلك الحياة ستُوهَب لكلّ مَن يؤمِن به.

في كتابٍ عنوانه: “سرّ موت” دُوِّن اختبار الرئيس الفرنسيّ الأسبق، فرنسوا ميتران، قُبَيل استعداده للموت. كان فرنسوا ميتران رجلاً كاثوليكيًّا، ولكنَّه ألحَد فيما بعد، وحارب الكنيسة. قبل ثمانية أشهر من موته، أخبره الأطبّاء بأنّه لم يعد هناك من علاجٍ طبيّ لحالته الصحيّة وأنّ عليه الاستعداد للموت. فذهب الرئيس الفرنسيّ لزيارة أحد الفلاسفة الفرنسيّين، واسمه جان غيتون، طالبًا منه جوابًا على سؤالٍ يُحيِّره: ماذا يوجد بعد الموت؟ فأعطى الفيلسوفُ الرئيسَ إنجيلاً، طالبًا منه قراءته، إذ لا أحد يستطيع إخباره بحقيقة ما بعد الموت إلّا يسوع المسيح، الّذي مات وعاد إلى الحياة، فانكبّ الرئيسُ على قراءة الإنجيل والتأمُّل به. وقَبْل شهرَين مِن وفاته، جاء الرئيسُ لزيارة الفيلسوف مرَّةً أخرى، طارحًا عليه سؤالًا آخرَ، هو: “لماذا جهنّم؟”، أجابه الفيلسوف: “لأنّ الله محبّة”، فتَعجّب الرئيسُ من هذا الجواب.

عندئذٍ شرحَ الفيلسوفُ للرئيسِ الأمرَ، قائلاً: إنَّ المحبّة تفترض الحريّة؛ والله يحبّ الإنسان، لذا ترك له الحريّة في الاختيار ما بين العيش معه أو العيش بعيدًا عنه. فإذا قرّر الإنسانُ العيشَ بعيدًا عن الله، فإنَّ الله يحترم هذا القرار، ويسمح للإنسان بالعيش كما يريد، فيختبر الإنسانُ جهنمّ الّتي هي ثمرةُ اختيارِه الحُرِّ؛ أمّا إنْ قرّر الإنسان العيش بمعيّة الربّ، فيختبر الإنسان طعم السَّماء الّتي هي نتيجة اختياره الحُرّ أيضًا. لقد دوَّن الفيلسوف هذا الحوار الّذي جَمَعَه بالرئيس الفرنسيّ في الفصل الأخير من كتابٍ عنوانه: “وصيّتي الفلسفيّة الأخيرة”.

إنّ حياتنا على هذه الأرض هي تلك الأُمسيَة الّتي نمضيها مع الربّ. ويقول لنا الإنجيل إنَّ الربَّ يقف على أبواب قلوبنا يقرعها، فمتى سمِعنا صوته، علينا أن نفتح له الباب ليتمكّن الربُّ من الدُّخول إلى حياتنا ومشاركتنا العشاء، فالربُّ لا يدخل إلى حياتنا بالقوّة. إنّ اللِّص، أي الموت، يأتي في أثناء وجودنا مع الربِّ على العشاء: فإنْ جاء اللِّص في ساعات اللِّيل الأولى، أي عند بداية العشاء، نتكلَّم حينها عن موت الأطفال؛ وإنْ جاء اللِّص في منتصف اللَّيل، يكون موت الشباب؛ وأمّا إنْ جاء اللِّصُ عند نهاية العشاء،كان موت الشيوخ. لذا، يدعونا الإنجيل إلى الاستعداد للموت، لأنّ الموت يأتي كالسَّارق، إذ لا نعلم لا الوقت ولا السَّاعة الّتي يأتي فيها الموت إلينا.

إنّ مجتمعنا اليوم يعاني من أزمة حقيقيّة على صعيد الصّلاة، أي على مستوى علاقة الإنسان بالله والثِّقة بكلام الله. وهذا ما يبرِّر وجودَ شَكٍّ عند غالبيّة المؤمِنين، حين نسألهم عن مصيرهم بعد الموت، فَهُم غير متأكِّدون من أنّ السَّماء ستكون مِن نصيبِهم. لذلك يشعر المؤمِنون بالارتياب حين يتكلَّمون عن الموت، إذ إنّهم للأسف، غير واثقين بكلام الربِّ، الّذي وَعدهم بالحياة الأبديّة. وهنا، نطرح السؤال: إن كان الإنسان غير متأكِدٍّ من أنّه سينال السَّماء، بعد موته الجسديّ، ما نفع إيمانه بالربّ، وصلاته وتقشُّفاته وصومه؟ فإن لم يكن الإنسان متأكِّدًا من مصيره بعد الموت، فالحريّ به أن يستمتع بملذّات هذه الدُّنيا، لا محاربة شهواته الأرضيّة، إذ من غير المنطقيّ القبول بعذابات هذه الحياة، لينال العذاب الأبديّ أيضًا بعد الموت.

إنَّ بولس الرَّسول يشجِّعنا على احتمال مشقّات هذا الدَّهر وآلامه، لأنّ الفرح والمجد اللّذين سننالهما في الملكوت يفوقان ما تَحمَّلناه من صعوبات في هذه الحياة. إنّ السّماء متعلِّقة بالله لا بالإنسان، فالإنسان لا يستحقّ السّماء إذ إنَّه مجبولٌ بالخطايا؛ ولكنَّ الله برحمته للبشر أعطى النِّعمة لكلِّ إنسانٍ يريد العيش مع الربّ، أن ينال السَّماء. لذلك، نستطيع القول إنّنا شركاء المسيح في الملكوت السّماوي. بعد عودتهم من الرسالة التبشيريّة الّتي أرسلهم إليها الربّ، كان التّلاميذ فَرِحين فأخبروا المسيح بالأعاجيب الّتي قاموا بها باسمه. فقال لهم الربّ ألا يجعلوا فرَحهم الحقيقيّ مرتبطًا بالأعاجيب، بل بأسمائهم المكتوبة في السَّماء.

إذًا، إنّ الإنجيل يخبرنا عن السَّماء، الّتي يمنحها الله للإنسان الّذي يُبدي رغبة في الحصول عليها، من خلال ممارسته لتعاليم الربِّ في حياته. إنّ الربَّ يسوع يؤكِّد لنا وجود الحياة الثانية بقوله: “مَن آمَن بي وإن مات فسيحيا”(يو 11: 25).

إنّ إيماننا بكلام الربِّ هذا، يدفعنا إلى مواجهة الموت برجاءٍ لا بِيَأسٍ وخوفٍ. عندما نفقد إنسانًا عزيزًا، نحن لا نبكي على الشَّخص بحدِّ ذاته، إنّما نبكي على ذواتنا، إذ إنّنا نتوَّجع مِنَ الفُراق الّذي سبَّبه لنا انتقال هذا الإنسان العزيز على قلوبنا، إلى السَّماء. إنَّ فراق الأحبّة يسبِّب لنا وجعًا إذ لا يعود باستطاعتنا رؤيتهم ولَمْسهم وسماع صوتهم، لذا نسعى إلى العودة في ذاكرتِنا، إلى كلماتهم الأخيرة ونصائحهم لنا، وأعمالهم الحسنة معنا، حين كانوا لا يزالون في هذه الحياة. إنَّ سِفر الرؤيا يخبرنا عن الحياة الثانية قائلاً لنا إنّه في تلك الحياة لا وجود للدُموع ولا للأوجاع، لأنّ الربَّ سيمسح الدُّموع عن وجوه أحبّائه؛ ويضيف هذا السِّفر قائلاً إنّنا جميعًا سنكون من شعب الله، وهو أي الله، سيكون إلهَنا، ويضيف أيضًا قائلاً إنّه في الحياة الأبديّة، هناك أرضٌ جديدة وسماء جديدة، لا وجود فيها للموت، بل للحياة فقط.

إنّ الإنسان يُدرِك أنّ هذه الحياة قد أُعطِيَت له مرَّة واحدةً، لذا يسعى إلى عيشها بملئِها، فيسعى إلى تأسيس عائلةٍ له، وإقامة علاقاتٍ طيِّبةٍ مع الآخَرين، ولكنَّ حياته لن تخلو من الحزن الّذي يَنتُج عن فراق الأحبّة. هذا ما يختبره الإنسان في حياته على الأرض. عند موت طفلٍ أو شابٍ، أو عند حدوث موتٍ فجائي نتيجة أمراض أو حوادث، يطرح الإنسان السؤال: ما فائدة وجود الإنسان في هذه الحياة، إن كان لا بدَّ له من أن يغادِرها بالموت الجسديّ بعد مرورِ فترةٍ زمنيّة معيّنة؟ يعتقد الأقدَمون أنّ الموت هو إرادة الله للبشر، وما على الإنسان إلّا القبول بها والاستسلام لمشيئته القدُّوسة.

غير أنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا لأنّ الله يمنح الإنسان الحياة لا الموت، لأنّ إلَهَنا هو إله أحياء لا إله أموات، بدليلِ أنّ الله أرسل ابنه يسوع المسيح إلى العالم ليمنح البشر الحياة الأبديّة ويخلِّصهم من الموت، وانطلاقًا من تلك الحقيقة الإيمانيّة، نرفض نحن المؤمِنين إلقاء مسؤوليّة موت الإنسان على الله.

إنَّ العِلم أَثبَتَ أنّ الله غير مسؤولٍ عن موت الإنسان، بل الطبيعة هي المسؤولة عن ذلك. إنَّ تفاعُل عناصرِ الطبيعة مع بعضها البعض، يؤدِّي إلى حدوث كوارث طبيعيّة وأمراضٍ، ممّا يؤثِّر سلبًا على بعض البشر فيموتون. وهنا نطرح السؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يؤمِن بالنظريّات العِلميّة المدوَّنة في الكتُب العِلميّة، والّتي تعطي بعض الشروحات عن عوامل طبيعيّة يتعرَّض لها الإنسان، ولا يؤمِن بشروحات عن الحياة الأبديّة، الّتي يعطيها له الربُّ يسوع في الكتاب المقدَّس؟ هناك عدَّة وسائل تساعدنا للوصل إلى الملكوت السماويّ، أهمّها الكتاب المقدَّس، ثمّ اختبارات القدِّيسِين، فالقدِّيسون وصلوا إلى القداسة نتيجة عيشِهم كلام الإنجيل في حياهم اليوميّة.

إنَّ الإنجيل يدعونا إلى العيش وَفق تعاليم الربّ، من خلال التمرُّس في ثلاث فضائل إلهيّة، هي: الإيمان والرَّجاء والمحبّة، لنتمكَّن من الوصول إلى القداسة، إلى الملكوت. إنَّ الإيمان هو عطيّة مجانيّة من الله للإنسان، تقوم على وثوق هذا الأخير بكلام الله من دون علاماتٍ حسيّة ملموسة. إنَّ اعتراف بطرس بحقيقة المسيح بقولِه:”أنت المسيح ابن الله الحيّ” (متى 16: 16)، هو ثمرةُ نِعمةٍ إلهيّة وَهبَه إيّاها الله الآب، لا ثمرةُ تعليم بشريّ ناله مِن معلِّمي الشريعة. أمّا الرَّجاء فهي فضيلة إلهيّة، ترتبط بالسَّماويّات لا بالأرضيّات، ممّا يدفعنا إلى التمييز بين الأمل والرَّجاء. إنّ الأمل هو حين يتمنّى الإنسان أمورًا أرضيّة، قد تتحقَّق كما أنّها قد لا تتحقَّق؛ فمثلاً قد يأمل الإنسان أن يتوقَّف المطر، ولكنَّ المطر قد يتوقَّف أو قد يستمرّ في هذا اليوم المحدَّد.

أمّا الرَّجاء، فهو أمرٌ إيمانيّ مؤكَّدٌ، لكنَّ الإنسان لا يستطيع لَمسَه في هذه الحياة إنّما في الحياة الثانية؛ فمثلاً، نحن نرجو الحياة الأبديّة، لذا إن كانت حياتنا في هذه الأرض، مطابقة لتعاليم الربَّ، فمِنَ المؤكَّد أنَّ السَّماء ستكون من نصيبِنا، لأنّنا نؤمِن أنّ الربَّ أمينٌ في وعوده للبشر، وهو قد قال لنا: “مَن آمن بي، له الحياة الأبديّة” (يو 6: 47). إذًا، نحن من أبناء السّماء لا من أبناء الأرض، أي أنّنا لن نكون مجرَّد حفنةٍ من التُّراب في القبور يوم انتقالنا من هذا العالم، بل سنكون من سكّان السّماء، لأنّه موطن أبناء الله. لذا، علينا أن نقوم بكلِّ عملٍ في حياتنا كأنّه عَمَلُنا الأخير فيها،

 إذ لن تُفيدنا في الحياة الأبديّة إلّا أعمال المحبّة الّتي قمنا بها تجاه الآخَرين؛ كما علينا أن نقوم بكلِّ عملٍ في حياتنا كأنّنا سنعيش أبدًا، فنعيش في حالةِ اندهاش لاكتشافنا عظائم الله في حياتنا، وفي حالةِ اندفاع نحو الأمام في مسيرة حياتنا الأرضيّة.

إنّ الإنجيل هو خريطة الطريق للوصول إلى الملكوت، غير أنّه لا يُحدِّد لنا لائحةً بالممارسات التقويّة الّتي يجب الالتزام بها للوصول إلى السَّماء، فالإنجيل يطلب منّا فقط أن نحبّ بعضنا بعضًا كما الله أحبّنا، وبالتّالي أعمالنا هي انعكاسٌ لمحبّتنا لله. إنّ الأديان هي صناعة بشريّة لا إلهيّة، إذ إنّ جميع الأديان السماويّة متناقضة في الجوهر أي في إيمانها بالله، ولكنَّها متوافقة في السلوكيّات، فجميع الأديان تشجِّع على المعاملة الحسنة مع الآخَرين. ليست المسيحيّة دِينًا بل إنَّها حياةٌ، مبنيّة على علاقةٍ شخصيّة بين الإنسان والربّ يسوع المسيح. 

إنَّ المؤمِن هو الإنسان الّذي سَمِع صوت الله، فأعلن استعداده لسماع كلمة الله وتنفيذها في حياته. إنّ الله يكلِّم البشر بكلمته المقدَّسة في الإنجيل، ولذا على المسيحيّ قراءة الإنجيل والتأمّل بكلمة الله، لمعرفة مشيئة الله عليه. إنّ الإنسان الّذي يتعرَّف حقًّا إلى المسيح مِن خلال كلمة الإنجيل، لا يستطيع إلّا أن يحبّ المسيح لأنّه سيكتشف عظمة حبّ الله له.

أمام حادثةَ موتِ أحد الأحبّاء، يطرح المؤمِن السؤال على ذاته: أين هو الله؟ إنّ الله يسكن في داخلنا، وبالتّالي هو ليسَ بِبَعيدٍ عنّا. إنّ الله لا يتركنا في لحظات الألم والوجع، بل يحضر في وَسَطنا لمساعدتنا على تخطِّي تلك الصُّعوبة. وكذلك العذراء مريم حاضرةٌ معنا لتُساعِدنا على مواجهة سرّ الموت، كما كانت حاضرة عند أقدام الصّليب عندما مات ابنها على الصَّليب. في علاقاتنا مع الآخر، ولا سيّما في علاقتنا مع الله، علينا طَرِح سؤالَين والإجابة عنهما: مع مَن نتكلَّم؟ وأين يسكن ذاك الّذي نتكلَّم معه؟ يخبرنا سِفر التَّكوين أنّ الله رافق الإنسان في الفردوس، ولكنَّ الشيطان قد تسلّل إلى قلب الإنسان، وأوهَمَهُ أنّ الله كاذبٌ. فصدَّق الإنسان للأسف كلام الشِّرير، فخالف أوامر الله له، وأَكَلَ مِن ثمار شجرة معرفة الخير والشَّر، ممّا أدّى إلى وقوع الإنسان في الخطيئة.

إنّ آدم الخاطئ لم يتمكّن من الإجابة على أسئلة الله: آدم أين أنت؟ وكذلك قايين، لم يتمكّن من الإجابة عن سؤال الربِّ: أين أخوكَ؟ بعد وقوع البشريّة في الخطيئة، أرسل لها الله أنبياء ورسلاً لتبشيرها بكلمته، وحثِّها على التّوبة. ولـمّا باءت كلّ جهود هؤلاء الـمُرسلين بالفشل، أرسل الله ابنه في ملء الزّمن، ليخلِّص البشريّة من ضلالها، وليَمنحها الحياة الأبديّة. عندما أتى نيقوديموس ليلاً إلى يسوع لسؤاله عن كيفيّة الحصول على الملكوت السماويّ، أجابه الربّ، إنّ لا أحد يستطيع الدّخول إلى السّماء، إلّا ذلك الّذي سَبَق ونزل منها، وهو ابن الإنسان. بموته وقيامته، نزل المسيح إلى مثوى الأموات، ليُخلِّص النُّفوس الّـتي كانت تنتظره، ويمنَحها الحياة الأبديّة، ولهذا السّبب، نحن نؤمِن بوجود مثوىً للأموات.

إذًا، الموت هو وسيلةٌ لعبور الإنسان من هذا العالم إلى العالم الثاني. إنّ العقل البشريّ لا يستطيع أن يُدرِك حقيقة سرّ الموت، ولكنّ الله قد منَح الإنسان من خلال الإيمان، نِعمة فَهمِ هذا السرّ، فأدرك هذا الأخير أنّ رُوحه مدعوّة للخلود لا للموت.
لكلِّ جماعةٍ في الكنيسة رسالةٌ منبثقةٌ من حياة يسوع المسيح الأرضيّة. لذلك، تقوم بعض الجماعات مثلاً بالاهتمام بالفقراء، تشبُّهًا بالمسيح الّذي أطعم الفقراء، في حين أنَّ جماعاتٍ أخرى تُكرِّس حياتها للصّلاة تشبُّهًا بيسوع المسيح الّذي كان يصلّي في القَفر وحيدًا إلى الله الآب قبل قيامه بأيِّ عملٍ رسوليّ وخلاصيّ. كذلك جماعة “أذكرني في ملكوتك”، قد كرَّست ذاتها للتعمّق في المفهوم المسيحيّ للموت والقيامة، انطلاقًا من إيمانها بالربّ يسوع القائم من الموت.

لقد اختبرت جماعة “أذكرني في ملكوتك”، من خلال مسيرتها الإيمانيّة مع الربّ أنّها مدعوّة للعيش في السّماء مع الربّ، لا إلى الموت في هذه الأرض. لقد أدركت هذه الجماعة أنَّ كنيسة الأرض، المؤلَّفة من المؤمِنِين الأحياء في هذه الأرض، مدعوّة إلى الاتِّحاد بكنيسة السّماء المؤلَّفة من المؤمِنِين الّذين انتقلوا إلى جوار الله، من خلال الصّلاة. على طريق دِمشق، ظهر الربُّ يسوع لِبُولس الّذي كان يضطهد المسيحيّين، قائلاً له:

“شاوول، شاوول، لماذا تضطهدني؟” عند سماعه هذا الصّوت، سأل بولس صاحب الصّوت عن هويّته، فأتاه الجواب:”أنا يسوع النّاصريّ الّذي أنت تضطهده”. لم يلتقِ بولس الرّسول يومًا بالمسيح في حياته الأرضيّة، أي أنّه لم يتعرَّض للربّ يسوع بأيّ نوعٍ من الاضطهاد، فبولس الرّسول قد اضطهد المسيحيّين لا المسيح. وبالتّالي حين عرّف الربّ عن نفسه لبولس، على طريق دِمشق، بالقول:”أنا يسوع الّذي أنت تضطهده”، ماهى يسوع نفسَه بالمؤمِنِين الّذين يتعرَّضون للعذاب نتيجة قبولهم المسيح إلهًا في حياتهم. بعد ظهور الربّ لبولس على طريق دِمشق، أدرَك بولس الرَّسول، أنَّ مَن يضطهد الكنيسة، أي جماعة المؤمِنِين، إنّما يضطهد الربَّ نفسه. لذا، في رسائله الّتي وجَّهها للمؤمِنِين، بعد ارتداده إلى المسيحيّة، أطلق بولس على الكنيسة عبارة:”جسد المسيح السريّ”.

تتألّف الكنيسة من الكنيسة المجاهدة في هذه الأرض، ومن الكنيسة الممجَّدة في السّماء، وترتبط الواحدة بالأخرى من خلال الصّلاة. إنَّ كنيسة الأرض، محدودة في الزّمان والمكان، أمّا كنيسة السّماء فلا يستطيع الزّمان أو المكان أن يحدَّاها لأنّها في حضرة الله اللّامحدود، والمالئ الكلّ. يقول لنا مار بولس في إحدى رسائله، إنّنا نعرف الربَّ على هذه الأرض، معرفةً ناقصةً، ولكن حين نلتقي به وجهًا لوجهٍ في السّماء، فعندئذٍ سنعرِفه معرفةً كاملة، إذ سنُعاين وجهه القدُّوس. في مفهوم الكنيسة، السَّماء هي العيش بصحبة العذراء مريم والقدِّيسِين، أمام وجه الربّ. لذا، كي يصِل المؤمِن إلى الملكوت، عليه أن يعيش حياته على هذه الأرض، وَفق تعاليم الربِّ يسوع في الإنجيل، متَّخِذًا من القدِّيسِين مثالاً له في القداسة.

 إنّ مسيرة الإنسان على هذه الأرض، صوب الملكوت، لن تخلو مِنَ العَثرات، ولكن على المؤمِن عدم الاستسلام لها بل مواجهتها، فيتابع مسيرته بنجاح صوب الملكوت، حيث ينتظرنا الربّ لمشاركته في المائدة السماويّة.

في الختام، جوابًا عن السؤال الّذي طُرِح في بداية اللِّقاء: ماذا بعد الموت؟ بعد الموت، ينتقل المؤمِن من هذا العالم، إمّا إلى السَّماء وإمّا إلى جهنَّم؛ أمّا “المطهر” فهو حالة تمهيديّة للسّماء، فيها يتطهّر المنتقلُ مِن بيننا من جميع خطاياه الأرضيّة ليُصبح أهلاً لمعاينة وَجه الله القدُّوس في السَّماء. هناك انقسام في الكنائس حول مسألة “المطهر”، فالكنيسة الكاثوليكية تعترِف بوجود “المطهر”، أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة فلا تعترف بوجوده. لقد استندت الكنيسة الكاثوليكية في إيمانها بــــ”المطهر” على كلام يسوع حول تجديف على الرُّوح القدس، إذ يقول إنَّ مَن يُجدِّف على ابن الإنسان، يُغفر له، أمّا مَن يُجدِّف على الرُّوح القدس، فلا يُغفر له لا في هذا الدَّهر ولا في الدَّهر الآتي. لقد أدرَكت الكنيسة الكاثوليكيّة من خلال كلام يسوع هذا، وجود غفرانٍ للخطايا في الدَّهر الآتي، أي في الملكوت، فأطلقت على تلك الحالة الّتي يعيشها المنتقل من هذه الأرض، متطهِّرًا من خطاياه، اسم “المطهر”.

ولكنْ في الآونة الأخيرة، تَعرَّض مفهوم “المطهر” عند المؤمِنِين إلى سوء فَهمٍ، إذ قاموا بتحديد عدد السَّنوات الّتي تحتاجها بعض النفوس المطهريّة للوصول إلى السّماء، غير أنَّ الحقيقة هي أنّ تلك النُّفوس أصبحت عند الربّ، أي خارج الزّمن، لذا لا يمكن تحديد فترة مَطهرها استنادًا إلى عددٍ معيَّنٍ مِن السِّنين.

إنَّ الربُّ هو خارج الزَّمن، لا وجود للماضي أو للمستقبل عنده، بدليل أنَّ جميع وعود الربّ في الكتاب المقدَّس هي في الحاضر. فعلى سبيل الـمِثال، قال الربُّ يسوع للصّ اليمين:”اليوم تكون معي في الفردوس”. إنّ جهنَّم هي حالةٌ يعيشها المنتقلون من هذا العالم، الّذين اختاروا بإرادتهم، العيش بعيدًا عن الله. وقد تكلَّم عنها القدِّيس متّى في إنجيله (متّى 25)، في مَثل الدينونة، الّذي أعطاه يسوع قائلاً:”ابتعدوا عنّي أيّها الملاعين، إلى النّار المعدَّة لإبليس وجنوده”.

إنّ إبليس وَقفَ ضدّ الله في مشروعه الخلاصيّ، وبالتّالي كلُّ إنسانٍ يقف مع إبليس ضدّ الله، يُصبح من جنود إبليس. إذًا، إنَّ جهنَّم مُعَدَّةٌ لكلِّ مَن يرفض الله رفضًا قاطعًا في حياته على الرُّغم من كلِّ العلامات الملموسة الّتي يُظهرها الله له، للدلالة على أنّه إلهٌ حيّ؛ بعبارةٍ أخرى، جهنّم هي لكلِّ إنسانٍ يُجدِّف على الرُّوح القدس. لقد جدَّف اليهود، حين اعتبروا أنَّ يسوع المسيح يطرد الشياطين ببَعل زبول، رئيس الشياطين، على الرُّغم من توضيح الربِّ لهم المسألة قائلاً لهم إنّه يطرد الشياطين بقوّة الله. إنّ جهنَّم إذًا، هي حالة البُعد عن الله، أمّا السَّماء فهي العيش بمعيّة الله، وأمّا النُّفوس الّتي انتقلت إلى الحياة الثانية وهي في حالة الخطيئة، فتنتقل إلى المطهر لتتخلَّص من خطاياها، فتتمكّن من معاينة وجه الله.

تصلِّي جماعة “أذكرني في ملكوتك”، من أجل راحة نفوس المنتقلين من بيننا. وتستند الجماعة في صلاتها لأجل تلك النُّفوس على إقامة الربّ لصديقه لعازر، إذ يقول الربُّ لتلاميذه إنّه ذاهبٌ ليوقِظ صديقه لعازره من النَّوم. ومن هنا، تعترف جماعة “أذكرني في ملكوتك”، أنَّ الموت هو مرحلةُ رقادٍ يعيشها المؤمِن ينتقل فيها من هذا العالم إلى العالم الآخر، فالمؤمِن يُغمِض عينيه عن مُغريات هذا العالم، ليفتحَهما في الحياة الثانية، على نور وجه الله. لقد انتشرت قصةٌ عن ابراهيم الخليل، الّذي كان يرفض الموت، باعتبار أنّ الله لا يرضى بموت أحبّائه، ولكنّ الله أوضح له من خلال ملاكٍ أنّ الموت هو مرحلةُ انتقال من هذا العالم، للقاء الحبيب، وعندما أدرَك ابراهيم، خليلُ الله هذا الأمر، قَبِلَ الموت،

لأنّه لقاءٌ مع الحبيب وجهًا لوجهٍ. كذلك القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع تُدرِك تمامًا أنّها يوم تنتقل من هذا العالم، ستشاهد المحبوب، لذا قالت:”أنا لا أموت أبدًا بل أدخل الحياة”، وبالتّالي لم تتكلَّم في مرحلةِ احتضارها عن “المطهر” ومدَّته، بل تكلَّمت فقط عن السَّماء.

في احتفالنا بالذبيحة الإلهيّة، تُقدَّم القرابين ذاكِرين المنتقلين من بيننا، للدَّلالة على أنّنا في اتِّحادٍ مع موتانا. لذا، نذكرهم في صلاتنا، طالبين من الربّ أن يفيض مراحمه عليهم، فيتمكّنوا من مشاهدة وجه القدُّوس. إنّ أمواتنا، قد انتقلوا من هذه الأرض، ليُشاهِدوا وجه الربِّ القدُّوس، أمّا نحن فلا نزال مجاهِدين في مسيرتنا الأرضيّة لنتمكّن من الوصول يَوم انتقالنا من هذا العالم، إلى السَّماء، فننال الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول، ويتحقّق رجاؤنا بالقيامة من بين الأموات.

إنّ الإنجيل هو “البشرى السّارة” للمسكونة كلِّها، لذا حين نسعى إلى عيش كلمة الله في حياتنا، نختبر الفرح الحقيقيّ مع الربّ، الّذي لا يزول، فكلمة الله تُفرِّح قلب الإنسان. عندما يُطرَح علينا السؤال حول مصيرنا بعد الموت، فليكن جوابنا أكيدًا بأنَّ السَّماء ستكون من نَصيبِنا لا بفضل أعمالنا الصَّالحة وتقويّاتنا، بل بفضل ثِقتنا بكلام الربِّ الّذي أثبت عبر التّاريخ أنّه أمينٌ في كلِّ وعوده.

في مسيرتنا على الأرض، علينا التخلّي عن كلِّ عملٍ لا يساعدنا على التقدُّم في مسيرتنا صوب الملكوت، والقيام بكلِّ ما مِن شأنه أن يساعدنا على الاقتراب أكثر من الربّ، أي علينا السَّهر على علاقتنا بالله أوّلاً في سبيل تحقيق مشيئته في حياتنا، وثمّ السَّهر على علاقتنا بإخوتنا البشر، فنتمكّن من الوصول إلى هَدِفنا، ألا وهو العيش مع الربّ، أي في السّماء.

ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا. 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp