“البُعد الرّعائيّ”

الخوري المرشد جوزف سلوم،

أتذكر، في أثناء زيارة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني لبنان، أنّه فاجأ الشبيبة في لقائه بهم في 10 أيّار 1997 في حريصا، عندما خرج إلى شرفة البازيليك وقت العظة وقال: “ما أجمل هذا الأفق”. في ذلك الحين، اعتقد الكثيرون أنّه يتكلّم عن خليج جونية، بينما كان قداسته يقصد بكلامه الشباب. وأنا اليوم، على غرار قداسة البابا أقول “ما أجمل هذا الأفق”. يصادف اليوم، عيد الخوري آرس، شفيع كلّ الكهنة، لذا أطلب منكم أن تُصلّوا لنا نحن الكهنة، ونحن نصلّي معكم من أجل كلّ المرشدين.

إنّ حديثي اليوم، يتناول مقدّمة وثلاث أفكار، الفكرة الأولى: تحديد مفهوم الجماعة، الفكرة الثانية: تكوين جماعة “أذكرني في ملكوتك”، وأمّا الفكرة الأخيرة فهي بعنوان: “من أجل رعويّة جديدة للموت”.

نحن نعيش في عالم يشهد الكثير من المتغيّرات، إنّه عالم فوضويّ، عالمٌ مليء بالتحدّيات والأزمات الّتي تطال حياتنا كلّها، لا سيّما الرعيّة، الكنيسة، والجماعات. إنّ الكنيسة الّتي هي علامة الأزمنة تحاول باستمرار أن تشقّ طريقها وسط هذه التحديّات الكثيرة، والتي سوف أقوم بذكر أربعة منها. إنّ الأزمة الأولى الّتي يعاني منها عالمنا هي أزمة الهويّة، إذ إنّه مليء بالاستنساخات ويفتقر إلى الإبداعات، فإنسان هذا العصر غالبًا ما يقوم بأمور لا يعرف أسباب قيامه بها. أمّا الأزمة الثانية فهي أزمة الصورة إذ إنّ عالمنا غالبًا ما يفتقر إلى شهادات حيّة، إلى أمثلة ونماذج حياتيّة، إلى شراكة المحبّة. أمّا الأزمة الثالثة فهي أزمة الانتماء والالتزام. إنّ عالمنا اليوم، غالبًا ما يبحث عن ثقافة المؤقت، إذ لا يبحث عمّا يدوم ويتطلّب صبرًا وجهدًا، بل يبحث عمّا هو سريع وفوريّ. هذه الأزمة نستطيع قراءتها من خلال إلتزامات الشبيبة في جماعات لا تعدّ ولا تُحصى، وإنّنا لا ننسى أنّ أزمة الانتماء الموجودة في مجتمعنا تتجلّى من خلال العمل الفرديّ، وعيش الفردانيّة. وأما الأزمة الأخيرة فهي أزمة المفاهيم والذهنيّات المختلفة: إنّ شبيبتنا تعاني من أزمة اقتصاديّة كبيرة فهي تسعى وراء المأكل والملبس، أضف إلى ذلك التّحدي الأمنيّ الّذي يعاني منه اليوم، العالم بأسره، وفي وسط كلّ هذه الثورة المعلوماتيّة الّتي نعيشها، تتغيّر ذهنيّات النّاس ومفاهيمها الكثيرة. وهنا تكمن المشكلة الأكبر إذ ما عاد النّاس اليوم، يفكّرون بمعنى الوجود، وبمعنى الحياة وبمعنى الموت، وبقيمة الحياة.

أوّلا: تحديد الجماعة: لكي تتشّكل جماعة رعويّة، لا نادٍ أوحزبٍ أو تجمّع، يجب أوّلاً الإستناد إلى الكتاب المقدّس في سفر أعمال الرّسلّ الّذي نقرأ فيه، أنّ الرّسل كانوا يواظبون على أمور أربعة أساسيّة واجب توفرّها من أجل تكوين جماعة مسيحيّة. 

– الصلاة: كان الرّسل يواظبون على الصّلاة فعلينا أن نصلّي سوّيًا.

– المواظبة على تعليم الرّسل.

– كسر الخبز معًا، 

–  شراكة المحبة: فكلّ جماعة هي قبل كلّ شيء، جماعة كنسيّة أي مرتبطة بالسلطة الكنسيّة بشخص الأسقف، وبالرعايا بشخص الكاهن. من هذا المنطلق، نرى كم أنّ جماعتنا هي حريصة في كلّ مسيرتها على هذه الهويّة.

ثانيًا: تكوين جماعة “أذكرني في ملكوتك”: إنّ جماعتنا هي نعمة من الله بدأت تنمو وتكبر. لذا فكّرنا بضرورة الالتقاء، إنّ هذا الانتشار الكبير في اثنتي وستين رعيّة وجماعة، يتطلّب عملاً مشتركًا وهذه هي مسؤوليتنا الكبيرة. فمن المهمّ جدًّا في قلب الجماعة أن تكون الأهداف واضحة، وألّا يُحاد عنها حتّى مع مرور الوقت. ومن المهمّ جدًّا أن تبقى الأهداف واضحة وذلك للمحافظة على الخصوصيّة والفرادة، إذ أصبحت هناك جماعات كثيرة، تنشأ من مجرّد لقاء في جولة سياحيّة، أو من خلال لقاء في عيد معيّن، وقد أصبح هناك جماعات كثيرة لديها الأهداف ذاتها. من يسهر على ذلك؟ إنّ جماعتنا لديها خصوصيّة، رسالتها الرّجاء في قلب عالم الموت والحزن. إنّ مثل تلك الجماعة غير موجود في الكنيسة. علينا احترام مواهبيّة كلّ جماعة، خصوصيّتها، تاريخها. فلكلّ جماعة قوانينها ونظامها إذ لا يتطلّب الأمر أكثر من محامٍ بارع فيكتب لنا النِّظام. لكن البطولة، تكمن في إعادة خلق تناغم بين القوانين والرّوحانيّة، وهذا ما نحن بحاجة إليه. إنّ نشأة كلّ جماعة يجب أن ترتكز على ثلاث فئات: أوّلاً، دور الكاهن في قلب الجماعة إذ له دور مهمّ، فكلّ مسؤول عن جماعة فيما بيننا يجب أن يكون عمله الرئيسي والأساسيّ مع كاهن الرّعيّة. ثانيًا، فريق المسؤولين، الّذي يهتمّ ويسهر، وهذا أمر ناجح جدًّا في جماعتنا. وأخيرًا كلّ جماعة تتألف من أعضاء. لكن أودّ أن أتطرّق بكلّ بساطة ووضوح وصراحة إلى أنّ بعض الجماعات في الكنيسة لديها رؤساء من أجل الاهتمام بالذبيحة الإلهيّة فقط، ولكنّها تخلو من الأعضاء، وهنا يجب العمل على خلق جماعة بكلّ ما للكلمة من معنى، وهذا أمر مهمّ جدًّا يجب العمل عليه.

ثالثًا: المجالات الّتي نعيشها في رعايانا.

أوّلاً القدّاس. إنّ القدّاس هو محور في رسالة “أذكرني في ملكوتك”، إنّه الأهمّ في رسالة “أذكرني في ملكوتك”، وهو يقام بطريقة شهريّة في العديد من الرعايا غير أنّه يقام أكثر من مرّة في الشهر في بعض الرعايا. وإن إتقان القداس يكون في دعوة النّاس المحزونين إليه. وهنا أودّ أن أعطي خبرة صغيرة في رعيتنا، إنّ المسؤولة في جماعتنا عندما تعلم بأنّ أحدًا قد توفي في الرعيّة، تقوم بزيارة أهله والاتصال بهم من أجل أن تدعوهم للمشاركة في قدّاس “أذكرني” الشهريّ، فيأتون ويشاركوننا في القدّاس ويتعرّفون إلى الجماعة.

ثانيًا، في ما يخصّ الاجتماعات، يجب أن يكون هناك اجتماعات بين المسؤولين كي لا يكون العمل فرديًّا،كذلك لقاء الجماعات الرعويّ مهمّ، إذ يجب أن يكون هناك اجتماع شهريّ على الأقلّ، إضافةً للقدّاس. إنّ الاجتماعات الشهريّة الرعويّة مهمّة جدًّا، ويجب أن نعطيها بُعدها المهمّ للتنشئة وللحوار في الأمور الإداريّة وغيرها. إنّ تواتر الاجتماعات في البعد الإجتماعي والنفسي والروحيّ، يخلق الجماعة. إنّ الجماعة الّتي لا تجتمع تموت بالتأكيد بعد مرور فترة من الزمن، إذ إنّه من المهمّ جدًّا خلق هذا النمط من الحياة الجماعيّة، ومن هنا نرى ضرورة الدعوة وإطلاق الصوت في الرعية من أجل الانضمام إلى الجماعة في قلب رعايانا.

ثالثًا: الحياة المشتركة: في العمل الجماعيّ، من الضروريّ أن نعيش حياة مشتركة، وألّا يكون هناك من عمل فرديّ في الموضوع.
رابعًا، الانفتاح والمشاركة مع الجماعة، مع المركز الرئيسي مهمّ جدًّا، إذ لا يمكن لكلّ جماعة أن تعمل بمفردها، من هنا ضرورة الانضمام إلى لقاءاتنا الرّعويّة العامّة كالرياضات الروحيّة العامّة، وبذكرى تأسيس الجماعة في مكان معيّن، أن نكون جميعنا حاضرين في هذه الاحتفالات.

الفكرة الأخيرة: من أجل رعويّة جديدة للموت. وفي هذا القسم سوف أتطرق إلى ثلاث نقاط مهمّة. أوّلاً التنشئة، ثانيًا حياة الجماعة، وأخيرًا البعد الرسوليّ أي الرسالة الّتي يجب نشرها. أوّلا التنشئة: يجب أن يكون هناك مواضيع روحيّة واجتماعيّة دائمة، تواكب التقنيّات الحديثة، وتمكننّا من أن يكون لنا موقعنا الفريد في الجماعة.كما أنّه يمكننا قراءة مواضيع روحيّة كثيرة عبر الانترنيت الّـتي من شأنها أن تعزّز تنشئتنا الروحيّة،كما يمكننا الاستفادة من المواضيع الّتي تُعطى في الرعيّة أيضًا، وفي أماكن أخرى أيضًا.غير أنّ هذه المواضيع الروحيّة يجب أن تُعطى بطريقة شهريّة داخل الرعايا، فهي تساعدنا للتفكير في تنشئتنا الخاصّة. أمّا البعد الثاني، فهو بُعد الحياة الجماعيّة. 

إنّ الحياة الجماعيّة المشتركة لها أبعادها إذ تعكس شهادة معيّنة، ويصبح لدينا فكر معيّن، وتصبح لنا حياة عمل فريقي من شأنها أن تساعدنا للعمل في الرعيّة، ومساندة الكاهن في رسالته ضمن الرعيّة. والبعد الثالث الّذي أريد التّكلم عنه في قلب عملنا الرعائي، في قلب وجودنا، فليس علينا انتظار قراءة ورقة نعوة كي نزور أهل الفقيد، أي يجب أن نتصرّف على أنّنا من أهل البيت، أي يجب ألاّ ننتظر أن يموت شخص معيّن واعتباره أنّه من ضمن الجماعة لنزور عائلته ولنبدأ عملنا الرّسولي، فإن أردنا تفعيل دورنا الرسوليّ في رعايانا، علينا زيارة عائلات كلّ فقيد في الرّعيّة عندما يفقدون أحد الأعزّاء، علينا أن نكون حاضرين فنأتي قبل وقت الدّفن من أجل الصلاة ونجالس أهل الفقيد، ونقوم بالمرافقة. وهنا تبدأ رسالتنا بخلق حالة الرّجاء من خلال تصرّفاتنا الّتي تدّل على رجائنا، وخاصّة أنّ الأباتي قد سبق وذكر أنّ هناك بعض التصرفات الوثنيّة الّتي نقوم بها في حالات الوفاة وبخاصّة إن كان الفقيد هو شاب، عبر إطلاق الرصاص. علينا أن نتوصل من خلال الكلام مع أهل الفقيد إلى إقناعهم بتغيير تلك التّصرفات من خلال خلق رعويّة جديدة. 

وأيضًا، لا أستطيع أن أنكر أهميّة رسالتنا مع المرضى المشرفين على الموت. كم هو مهمّ عندما تتكون الجماعة، أن نزور المرضى، ونرافقهم داخل الرّعيّة وهؤلاء يمكن معرفة أماكنهم من خلال الكاهن الّذي يزور المرضى في الرعيّة ويناولهم، من أجل أن نكون معه. علينا أن نفكِّر في رسالتنا تجاه ذواتنا، إذ إنّه من السهل أن نفكّر في خلاص كلّ النّاس ونخلق رعويّة جيّدة من أجل أن نساعد الجميع لكي يكونوا قريبين من يسوع، وأنا المعنيّ أوّلاً، أعمل للآخرين من دون أن أفكِّر في ذاتي. عليّ أوّلاً أن أُنمّي ذاتي، جهوزيّتي، أن أحضِّر جهازي. أريد أن أخبركم عن امرأة في الرعيّة لم تتزّوج وهي الآن مسنّة.كان الأقرباء يأتون إليها ويطلبون منها أغراضًا من أجل جهازهم، كي يبقى لهم تذكار، لم تكن تقبل إذ كانت تقول لهم إنّه جهازها. وعند وفاتها في أثناء الوعظة، استعملت هذا التعبير أنّ على كلّ واحدٍ منّا أن يأخذ معه جهازه، أي ما أكون قد حَضّرته معي.

إخوتي، عليّ أن أُحضِّر ذاتي قبل أن أحضّر الآخرين وذلك قبل انطلاقي للرسالة مع الآخرين. إن رسالتنا اليوم، على قدر ما تكون فيها طرق جديدة من أجل أن نرافق مرضانا وأمواتنا وذواتنا، على قدر ما نخلق حالة جديدة في الكنيسة، تنتظرها هذه الأخيرة وتشجِّعها وتباركها.

ملاحظة: دوِّنت الكبمة بأمانةٍ من قبلنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp