لقاء الشبيبة السنويّ 2015، “نحن أبناء الرّجاء”
مدرسة سيّدة جبل الكرمل (Carmélite) – الفنار،
تأمّل روحيّ: “نحن أبناء الرّجاء”
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
كُلّ الوقت الذي نُقضيه مع الربّ هو وقتٌ مُثمرٌ، فلا أحدٌ منّا كان مُرغمًا على المشاركة معنا اليوم، وإنمّا جئنا بإرادتنا وهذا ما يُقدّره الله فينا. فالله يعمل ويُعطي ثماره. يقول أحدُّ الأشخاص وهو يتحدّث عن السماء أنّ الناس نوعان: النوع الأول يقف أمام الله ويقول له: لتكن مشيئتُك، والنوع الثاني يقف أمام الله ويقول الله لهم لتكن مشيئتكم، إذًا، فالناس الموجودون في جهنّم، هُم الذين أرادُوا ذلك. وهنا السؤال: ماذا يريد منّا الله عندما نقول لِتكن مشيئتُك!؟ الله يريد منَّا الحياة، الفرح، النموّ، ويريد أن نكون محبوبين وأن نُحِبّ، فهذا هو الله.
يقول بولس: “مَشيئة الله أن تكونوا قدّيسين”. والقدّيس لا يكون هذا الشخص المتقوقع على نفسه، يجلد ذاته ويتألّم، وإنمّا القدّيس هو الشخص الذي يتطلّع ويرى يسوع الناصريّ، مُعطي الحياة. فعندما يتطلّع لشخص يجذبه، يدخل إلى حياته يملأُها بالفرح، وعندما يتعرّف به يصبح قائداً، فيحبّ الحياة وينجح فيها رغم كلّ الصعوبات التي تعترضه… وهناك مُفكرٌ يقول: الله يُتَمتِم في أوقاتٍ عابرةٍ، يتكلّم في ضمائرنا، ويتكلّم بقوةٍ أكبر في وقت آلامنا، وتُصبح هذه الكلمات عبارة عن مكبّر صوتٍ لتوعّيَ العالم… ومن هنا نشأة جماعة “اذكرني في ملكوتك”، تكلّمت في أوقات الألم كي توعّيَ الضمائر، فالأموات ليسوا بقشَّة كبريتٍ تحترق، ليسوا بكائنٍ حيّ يختفي من الوجود، بل ما زالوا أحياء…فأمواتنا لم نعد نراهم، لأنّ الموت يفصل عنّا الإنسان، ولكنّ الإنسان لم يَبطَل وجوده، فالإنسان الأبديّ يُعطي دائماً للأبد، والإنسان غير الأبديّ ليس عنده قيمة للأبد.
في سِفر التكوين، أوّل ما خلق الله الإنسان، جَبَله من التراب ونفخ فيه من روحه فصارت روح الله موجودة فيه، ولم يعد الموت قادراً على فصلها، بل تبقى روح الإنسان أبديّة فيه لأنّ روح الله أبديّة، فعلى كلّ إنسانٍ موجودٍ في هذه الحياة أن يعرف ذلك، وإلاّ فلن يعرف سبب الوجود.
حياتنا بعد الموت قبل أن يُخبِرها الإنجيل، أخبرَ عنها رجال العلم والفلسفة، لأنّهم تَطَلّعُوا إلى التطور الإنسانّي، فمَن صنعه؟ الإنسانُ هو الذي صنع الحضارة التي تطوّرت إلى مراحل كبيرة، بينما الحيوان فلم يتطوّر، لذلك وجد العلماء الإختلاف في المستوى بين الكائنات. عندها أدركوا أنّ الحياة الأرضيّة للإنسان مُختلفة عن غيره من الكائنات، وأنّ حياة الإنسان بعد الموت لا تنتهي كحياة الكائنات الأخرى، إنمّا تبدأ مع الله، وتُسمّى الحياة الأبديّة لأنّها لا تنتهي أبداً.
عندما لا نُعطي أهميّة للإنجيل، عندما لا نُصدّقه، نكون دُسناه… يُكلِّمنا الإنجيل في كثير من أوقات الموت والألم، ولكننا ندوسه عندما لا نُعطيه أهميّة ولا نُصدّقه. فالإنجيل كُتِب ليكون الحياة، فإمّا أن نقبله ونُصدقه أو أن نرفُضه… فهو يكلّمنا عن شخص يسوع المسيح الذي هو ابن الله، هذا الشخص الذي يدخل إلى الحياة فيُغيّرها. ويقول يوحنا : ” كُتِبَت لكم كلّ هذه الأمور حتى تُؤمنوا بأنَّ يسوع المسيح هو ابن الله، وإذا آمنتم، كانت لكم الحياة”.(يو31:20). ولكن ماذا قُصِدَ بجملة “إذا آمنتم”، وكما قال يعقوب الرسول: “فليس كلّ مَن قال يسوع ابن الله يكون قد آمن، فالشياطين تُؤمن وترتعب” (يع 19:2)، فكلمة تؤمن تعني “أن تَعرف”، والأهمّ أن تسخّر هذه المعرفة للإستفادة منها وعيشها في حياتك. فعلى الإنسان أن يضع يده بيد الله. يقول يسوع: “مَن آمن بي وإن مَاتَ فَيسيحيَا”،(يو25:11). قبل أن نصل إلى الحياة الثانية يجب أن نصل إليها هنا في هذه الحياة، فمَن يرفض الله هنا يرفضه هناك. فقد قال يسوع في إنجيل متّى: “إليكُم عنّي أيها الملاعين إلى النار الأبديّة المعَدَّة لإبليس ولجنوده” (متى 41:25)، أي أنّ الملكوت مُعَّدٌ لكم منذ القِدَم، والمسيح أعطى نعمة وهدية للإنسان اسمها السماء، والسماء هي أن نكون معه، وعندما يأتي الموت وينفصل الجسد عن النفس، يتحوّل الجَسَد إلى تراب، وإنمّا النفس تبقى.
وقد ورَدَ في الإنجيل، عندما ترك الرسُل كلّ شيء وتبعوا المسيح، فقال بطرس ليسوع بعد أن كلّم الشابَ الغنيَّ، فكم مِن الصعب للغنيّ أن يَترُك كلّ شيءٍ ويتبع المسيح، فالغنيُّ كان فَرحًا لأنَّه يَملك الكثير من الأموال وأصبح الآن حزيناً، ولكنّ المسيح لم يتكلّم عن الغنى الماديّ وإنمّا قال: “طُوبى لفقراءِ الروح فإنَّ لهُم ملكوت السماوات”. وأدرك المسيح صعوبة دخول الغنيّ ملكوت السماوات، فليس من الضروريّ أن يدخُل كلّ فقيرٍ إلى الملكوت وأيضاً ليسَ مِنَ الضروريّ لكلّ غنيٍّ ألّا يدخل، وهُنا يقصُد الله بالغنيّ الشخص المستغني عن ملكوت الله، أي سعادته تأتي من الأرض، فالذي يترك كلّ شيء ويتبع المسيح سوف يحصل على مئات أضعاف ما كان يملك ويرث الحياة الأبديّة مع الاضطهاد، ويقصد بالاضطهاد: أنّ الذي يضطهدني هو الشخص الذي لا يمشي في الطريق التي أنا أريدُها، فبولس الرسول كان إنسانًا مضطهِداً فأصبح مضطَهَداً ، وكان يُحارب الرسل فأصبح رسولاً كبيراً.
فالألم سوف يدقُّ باب كُلّ منّا يومًا ما، وفي زمنٍ ما، مِن أشخاص غير متوقعين، ويُلقى الصّليب على عاتقنا. سيَحصل لنا ما حصل لسمعان القيرواني، حيثُ أنّه كان عائداً مِن الحقل إلى بيته ليرتاح، ورأى موكب يسوع وكان بيد يسوع الصّليب، وسُخِّرَ ليحمُل الصّليب خلف يسوع كما يقول الإنجيل. وحَمَلَ سمعان القيرواني الصّليب مع المخلّص فحمله الربّ يسوع المسيح إلى السماء.
اليوم، نُعاني نحن المؤمنون من مرض العصر الذي هو “التَذَمُّر”، والنّاس غير راضية عن شيء، وعندما نقول لتكن مشيئتُك، يقول لنا الربّ: مشيئتي أن تنموا وتنضجوا روحياً. فمشيئة الربّ تكمن في القوة التي وضعها فينا، في الفرح الذي وضعه فينا، وإذا لم نَعِش الفرحَ هُنا فسوف نَعيشُه في الحياة الثانية في السماء. ويقول المسيح كخلاصة: “قُلتُ لكم كُلَّ هذه الأشياء ليكونَ بكُم فَرَحِي، ويكونَ فرحُكُم تاماً عظيماً…أتيتُ لتكون لهم الحياة، وتكون الحياة وافرة” (يو10:10).
نعيش عصرنا اليوم بالعلم والتطوّر، فالعِلمُ يَعيشُ مع أشخاص خُلقوا ومَاتوا، يزيد أياماً على عُمرهم، ولكنّه لا يزيدُ على عُمرنا حياةً. لكنَّ الإيمانَ يضيفُ حياةً إلى عُمرنا، فكيف إذا اندمجا معاً.
قال التلاميذُ ليسوع وهو في طريقه إلى أورشليم إنّه سوف يُصلب ويُعذب، فهو الذي يُنحنى أمامه سُيذل، هو الذي يعطي الحياة سيُجلد، هو الذي يمشي على البحر ويحيي الموتى سيُقتل. فقال له بطرس: “حاشى لك يا ربّ، أنتَ الزعيمُ الذي تركنا كلّ شيء وتبعناك، سوف يحصل هذا لك…” فأجابه يسوع: “اذهب خلفي يا شيطان” (متى 16:23)، لأنَّ أفكارهُ ليست أفكار الله، بل أفكار البشر، لأنه يَرفُض الموت والقيامة، أي يرفض الحياة، فبطرس قال للربّ إنّه سيذهب معه إلى الموت، ولكن هناك ثلاثة أشخاص وصلوا فقط عند أقدام الصليب، وهم يوحنا الحبيب ومريم العذراء ومريم المجدلية. لأنّ مريم أقدَسُ النساءِ فهي حَمَلَت يسوع في أحشائها وقدّمته للعالم، ومع ذلك، لم يعتقد سمعان الشيخ أنَّها ستعيش حياة سعيدة، مرتاحة، بلا آلام أو أوجاع، لأنّها أمُّ الله، بل قال لها: “سينفُذُ سيفٌ في قلبكِ”(لو 35:2)، أمّا مريم المجدليّة فوصلت إلى الصّليب لأنّها كانت خاطئة كبيرة، فقد شفاها يسوع من خطاياها، فغَسَلَت رجلَيْ يسوع ومسحتهما بشعرها، وسمعان الفرّيسي انتقدها، وانتقد يسوع بقوله “لو كان هذا رجلٌ نبيٌ لَعَرِف مَن هي، إنّها خاطئة”. فأجابه يسوع: “غُفِرَ لها الكثير لأنّها أحبَّت كثيراً”(لو 47:7)، وأيضًا يوحنا الحبيب وصل إلى أقدامِ الصليبِ لأنّه اختبر حُبَّ الربِّ إلى العمقِ، ويُقال إنّه مالَ الى صدره وسَمِعَ دقات قلبه.
فالذي يختبر حبّ الله للعمق يستطيع أن يصل إليه، لذلك علينا ألّا ننتظر لنصبح مُحسنين لنُحِبَّ الله، ولا َلِنَفعَلَ الخيَر ليُحبَّنَا الله، ولا لنُصلّي كثيراً ليرضى الله علينا، فالله يحبنا بغضِّ النظرِ عن أعمالنا، وهو راضي علينا بدون أيّ شيء، الله خلقنا ولم يتركنا. عليّ فقط أن أعرف مقدار حبّ الله لي، فالله يدعوني دائماً للملكوت ولأكون معه في الأرض وفي السماء، فهو مات من أجل الخاطئين وأوّلهم أنا، فالله يحبّنا رغم كلّ شيء، وبولس هو الوحيد الذي اكتشف حبّ الله العظيم وضحّى من أجل الربّ، ومن هُنا نكتشف رجاء المسيح، أنّ الربّ أمينٌ لوعده، فهو وعدنا بالسماء، وأعطانا الحياة والفرح لنكون معه، فالرجاء أن نُصدِّقَ كلمة الله.
فجماعة “اذكرني في ملكوتك” تبشّر بوجود الله فينا، بوجوده بيننا، وسَنُكمِل حياتنا معه. وذِكرُ الموت لا يعني عيشَ الحزنِ والابتعاد عن عيش الحياة، فنحن نعيش الحياة مرّة واحدة لِذا يجب أن نعيشها ونستفيد من كلّ الوزنات التي وهبنا إيّاها الربّ. هذه الجماعة عبارة عن عود كبريت يُشعِلُ الجمر، بعضٌ منهم يكون قليل الاشتعال فإمّا نطفئها، ونُنهي النارَ التي فيها، أو ننفخها فتعطي حياة. فالرّب نَفَخَ فينا الروحَ القُدس الذي يعطي الحياة، لأنَّنا أولاد الحياة، وإذا أردنا عيشَ الرجاء فعلينا أن نُؤمن بالمخلّص فهو الحياة وهو صانع الحياة وله المجد. آمين.
ملاحظة: دُوّن التأمّل بأمانةٍ من قبلنا.