لقاء الشبيبة السنويّ 2016، “مسيرتي إيمان ورجاء”

 مدرسة مار يوسف للآباء اللعازريّين – عينطورة- كسروان.

عظة القدّاس الإلهيّ: “أمام سرّ الموت نصمت”

الأب ميشال عبود الكرمليّ،

إنّ السنة الطقسيّة في الكنيسة تشبه دوران الأرض حول الشمس: فكما أنّ الأرض تدور حول الشمس، ويَنتُج عن ذلك فصول وأشهر وأسابيع وأيّام، كذلك الكنيسة تدور حول عريسها، الشمس الإلهيّ، يسوع المسيح، ويَنتُج عن ذلك سنة طقسيّة. إنّ السَّنة الطقسيّة مؤلّفة من عدّة أزمنة: أوّلها زمن المجيء أي زمن الميلاد، يَلِيه زمن الدنح أي زمن الظهور، ومن ثمّ زمن الصّوم، فالقيامة، والعنصرة وأخيرًا الصليب. 

وكما أنّ الشمس الّتي أشرقت علينا اليوم، هي نفسُها الّتي أشرقت على جميع الخليقة منذ بدء تكوين العالم، بِنُورِها الـمُتجَدِّد يوميًّا، كذلك الأمر بالنسبة إلى كلمة الله الّتي ما زالت، تُقرَأ في كلّ سنة طقسيّة، مع تَجَدُّدِها يوميًّا لتَتَمكّن من الوصول إلى أعماق الإنسان. إنَّ كلمة الله، متى اتّحد الإنسان بها وتفاعل معها، تُغَيِّرُه وتنشر عطر الله من خلاله في هذا الكون. إنّ عدم تَغَيُّر الإنسان عند سماعه كلمة الله لا يُشير أبدًا إلى عدم فعاليّة كلمة الله، بدليل قدرتها على إحداث تغيير جذريّ في حياة الّذين يقبلونها، بل يُشير إلى وجود مشكلة عند الإنسان الّذي يرفضها. يُروى عن أحد الأشخاص أنّه وَضَعَ اسفنجة في وعاءِ ماءٍ من أجل أن تَتَبلَّل لكنّه لم ينجح في ذلك، فأعاد الكَرَّة مرّاتٍ عديدة، ولكنّ النتيجة كانت الفشل دائمًا، فما كان منه إلّا أن سأل أحد رفاقه عن سبب عدم تَبلُّل اسفنجته. استغرب الرفيق الأمر، وطلب منه التأكّد من أنّه قد نزع عن الاسفنجة الكيس العازل للمياه الّذي تُوضَع فيه عند الشراء. 

وعندما نَظَرَ إلى الإسفنجة، رآها مغلّفة بكيسٍ كان يمنع وصول المياه إليها. إنّ حالة هذا الإنسان مع الاسفنجة، هي حال المؤمن مع كلمة الله في الكثير من الأحيان: ففي حياة الإنسان، حواجزُ كثيرةٌ تمنع كلمة الله من الوصول إلى أعماقه وتمنعه من التفاعل معها. لذا، علينا في كلّ قدّاس أو وقفة روحيّة، أن نُعلِن عن رغبتنا في ولوج كلمة الله إلينا، وأن نطلب من الله إرسال روحه القدّوس إلينا لنتمكّن من قبول كلمة الله والتفاعل معها في حياتنا اليوميّة، فتتمكّن من أن تُغيِّرَنا، بطريقةٍ لا نَعرِفُها وفي وقتٍ لا نتوقّعه.

هذا ما حدث مع زكريا وأليصابات إذ استجاب الله لطلبتهما فرزقهما ولدًا، عندما قطعا الأمل من إمكانيّة الحصول عليه بالطُرق البشريّة نظرًا إلى أنّهما كانا قد طَعنا في السِّن. إنّ عقدة لسان زكريا، لا تدّل أبدًا على تمييز الله بين أبنائه: إنّ زكريا قد شكّ في قدرة الله على تحقيق طِلبَتِه ولم يصدّق كلام الملاك، ولهذا كان يجب أن يصمت ليتمكّن من التأمّل في سرّ الله؛ أمّا مريم فلم تَشُّك في كلام الله وبِـمَ بشرّها به، بل أرادت فقط أن تستوضح منه كيفيّة تحقُّق ذلك. 

إنّ البشر يهتمّون بكلّ ما يَظهَر للعلن، أمّا الله فيهتمّ لداخل الإنسان. إنّ ابتسامة أحد الأشخاص لك، لا تُعبِّر بالضرورة عن محبّته، إنّما قد تحوي في طيّاتها انتقامًا وشرًّا يتمّ تحضيره لك، والبيت الشعري هذا:”إن رأيت نيوبَ اللّيثِ بارزةً فلا تَطُنَّن أنّ اللّيثَ يبتسمُ”، هو خير تعبير عن تلك الحالة. إنّ الظاهر لا يعكس حقيقة داخل الإنسان، كما أنّ الخارج لا يُعبِّر بالضرورة عن الدّاخل. إنّ الله وحده يستطيع أن يفهم القلوب، هذه هي خلاصة المقارنة بين نتيجة بشارة الملاك لزكريا ونتيجة بشارته لمريم.

إنّ النّعمة تُشبِه الموت والألم، إذ إنّهما كما النّعمة، يقرعان أبوابنا في وقتٍ وزمانٍ لا نَعرفهما، وبطريقة لا نتوقّعها. لذا، علينا أن نكون مستعدّين لهما، والاستعداد يكون عبر ترداد كلمة “لتكن مشيئتك”. إنّ مشيئة الله لا تتحقّق بعذاب الإنسان وتألُّمِه إنّما بقداسته، فالله هو إله أحياء لا إله أموات، وبالتّالي هو لا يريد موت الإنسان إنّما يريد وهب الحياة له. هذا ما يميّز جماعة “أذكرني في ملكوتك” عن سائر الجماعات الكنسيّة، ويشكِّل علامتها الفارقة: فهي تسعى إلى إعلان الرّجاء، وعَيْشِه، ونقله إلى الآخرين. إنّ أعضاء هذه الجماعة ليسوا بحجارة أو بملائكة، فَهُم يتأثرون، ويبكون كسائر البشر عندما يفقدون عزيزًا، أو تُصيبُهم الأوجاع، إلّا أنّهم يسعون إلى تَقَبُّل هذا الألم والفراق برجاء كبير، وهذا ما يؤدي إلى إعلان كلمة الله إلى الآخرين، من خلالهم.

إنّ عقدة لسان زكريا لم تكن عقابًا من الله، إنّما كانت فرصةً ليتأمّل في سرّ الله، فبدون الصمت لا نستطيع فَهْمَ سرّ الله. أمام سرّ الله، يقف الإنسان مدهوشًا ومُتَعَجِبًا، عاجزًا عن التعبير عن عظمة سرّ الله. إنّ الوقت وحده هو الكفيل بأن يساعد الإنسان على فَهْمِ سرّ الله. إنّ زكريا يعلّمنا أن نصمت، وإن لم يُفرَض علينا الصّمت من الخارج أي من خلال الطبيعة، أو بقوّة إلهيّة، فلنسعَ أن نصمت من الدّاخل، لنتمكّن من سماع كلمة الرّب في أعماقنا. إنّ آباء الكنيسة يُركِّزون على أهميّة الصمت، إذ إنّ الصمت لم يجعل صاحبه يندم يومًا عليه، بل إنّما الكلمات الجارجة الّتي قد يتفوّه بها الإنسان هي الّتي أدّت إلى خصومات ما بين البشر، وجعلتهم يندمون في أغلب الأحيان على التفوّه بها. أمّا كلمة الله فإنّها تحيي الإنسان، ولا تجعله يندم على حملها أبدًا.

إخوتي، لِنَصمُتْ وَلِيَكن صمتُنا هذا فعلَ إرادةٍ صادرٍ منّا، ولنطلب من الله أن يزرع كلمته في أحشائنا، وأن يساعدنا ويُعينَنا لنسير وِفْقَها في حياتنا اليوميّة. آمين.

ملاحظة: دوّنت العظة بأمانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp