عِظة للخوري توفيق أبو خليل،
خادم رعيّة مار تقلا – سد البوشرية.
لماذا نخاف من الموت؟ “تذكار الموتى”
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين
الموتُ كلمةٌ مرعبةٌ، فعلى الرُّغم من أنّنا أُناسٌ مؤمِنون ونأتي إلى الكنيسة كثيرًا، نرتعِب ما إنْ نسمع بكلمة “الموت”. هذه الكلمة تُخيفُنا على الرُّغم من أنّ إيمانَنا المسيحيّ يَنظر إلى الموت على أنّه عبورٌ إلى الحياة الأبديّة: “أنا لا أموتُ أبدًا بل أدخل الحياة”. أريد اليوم أن أفكِّر وإيّاكم حول ثلاث نقاط، هي: لماذا نخاف من الموت؟ كيف نموت؟ لماذا نموت؟ وفي الخِتام، خلاصةٌ لحديثنا.
لماذا نخاف من الموت؟ سَنُعالج هذا السّؤال مُستَندِين إلى ثلاث نَظراتٍ مختلفةٍ للموت.
النَّظرة الأولى هي نَظرةُ الأحبّاء للموت. هذه النَّظرةُ مبنيّةٌ على الحُبّ الّذي يجمع بَيني وبين الإنسان الّذي أَمضَيتُ مَعه العمر كلَّه، وقد مات. نحن نخاف من الموت، لأنّنا نخاف من أن نخسَر هذه الصُّورة، صورة الحُبّ الّتي تجسَّدَتْ بِصَوت هذا الإنسان الّذي مات، وَصورَته ووَجهه: إذ بالموت، غاب عنّا الصَّوت فِعليًّا كما غابت الصُّورة والوجه.
نخاف من الموت، لأنّنا نخاف من أن تتوقَّف هذه الصُّورة مِن أن تكون حاضرةً أمامِنا. نخاف من مناداة أحبائنا الموتى، الّذين ذَكرنا أسماءهم في بداية هذه الذبيحة الإلهيّة، مِن دون أن نلقى ردًّا على مناداتِنا. نخاف من أن ننظر إلى المكان الّذي كان يَجلس فيه أحد أحبّائنا الموتى ولا نَراه. نخاف مِن وَضع الصَّحن الخاصّ به على المائدة، ورؤيته فارغًا.
هذه نَظرةُ الأحبّاء إلى الموت، إذ يخافون من أن يخسروا مَن يُحبّونَهم، وهذه النَّظرة هي نَظرةٌ مُحِقَّة. نخاف أن نخسر أحبّاءنا، إذ إنّ صورَتَهم قد طُبِعت فينا، مِن شِدَّة حبِّنا لهم. لذلك، نحن نَذكُر أحبّاءنا في كُلِّ قُدَّاسٍ، وفي كلّ مُناسبةٍ، ونتساءل: كيف نستطيع أن نستمرَّ في هذه الحياة من دونِهم، من دون هذا الصَّوت، وهذه الصّورة، وهذا الوجه؟
النَّظرة الثانية هي نظرةُ الإنسان بِحَدِّ ذاته إلى الموت، فَكُلُّ واحدٍ مِنّا هو مَعْنِيّ مباشرةً بالموت. في حياتنا اليوميّة، عندما نفكِّر في الموت نعتقد أنّه بَعيدٌ عنّا، لأنَّنا نعتقد أنّه من غير المعقول أن يَدُقَّ بابنا. نحن ننظر دائمًا إلى الموت على أنّه قد يُصيب الآخَرين فقط ونستصعب أن يدقّ الموتُ بابنا، إذ إنّنا نذهب إلى تقديم التعازي بِرَحيلِ الآخَرين عن هذه الأرض.
نحن نتَنَكَّر للموت، ونحاول أنْ نتناسى هذه الحقيقة الّتي هي الموت. نحن نسعى كي ننسى أو نتناسى بأنّ هناك نهايةٌ، من خلال التلهّي بأمورٍ دنيويّةٍ في هذه الحياة وحثِّ الآخَرين على حذو حذونا في عدم التفكير في حقيقة الموت، علّنا ننسى تلك النِّهاية الّتي تُرعِبنا لمجرَّد التَّفكير فيها. إنّ هذه النِّهاية، أي الموت، ما زالت تُرعبنا وتُخيفنا لأنّنا لم نكتَشِف بَعد أنَّ هذه النّهاية هي بِحَدِّ ذاتها البداية، لذلك نُفضِّل أن ننسى، ونتناسى أنَّ هناك موت.
إنّ آباءنا القدِّيسِين وخصوصًا الحُبَساء مِنهم، كانوا يَضعون في محابِسهم جماجمَ بشريّة، كي لا يَغيب عن ذهنِهم في يومٍ من الأيّام أنّ كلَّ واحدٍ مِنهم هو “مِن التُّراب وإلى التّراب سَيَعود”. كانوا يضعون الجماجم في محابسهم كي لا يَغيب عن ذهنهم ولو حتّى لحظة، أنّهم قد وُجِدوا في هذه الحياة كي يَستثمروا نِعَم الربِّ ومواهبه الّتي أعطاهم إيّاها، حتى يَعبُروا من هذه الحياة إلى الحياة الأبديّة.
نُسمِّيه موتٌ ولكنّه في الحقيقة عبورٌ، بابٌ إلى الحياة الأبديّة. وأنا أقول لكم: إذا تذكَّر كلُّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، بشكلٍ دائمٍ غير منقَطِع، أنّه ستأتي لحظةٌ في حياته كي تَسرقَه من هذه الدُّنيا إلى الحياة الأبديّة، عندها من دون شكّ سيسعى الجميع إلى عَيش القداسة، الّتي لن يرى فيها إلّا الحياة الأبديّة. ولكنْ، حين نَضعُ الحياة الأبديّة جانبًا ونتناسى كلّ ما يتعلَّق بها، فنَقوم بما يحلو لنا، فإنّه لا محالة عندما يَضعفُ جسدنا ويتَعَب، سنأتي إلى الكنيسة مُسرِعين قائلين لله: “ارحَمنا يا ربّ”.
ولكن السُّؤال هو أين نكون حين يكون جسدنا قويًّا وفي عزِّ عطائه، أي حين تكون صورَتُنا نقيّةً، بهيّةً، ومُشِّعّة، ويكون وجهنا مُنَوَّرًا؟! عندما يكون جسدنا في عزِّ شبابه، علينا أن نضع كلّ مواهبنا وطاقاتنا في خِدمة العالَم وتَمجيد الله.
النَّظرة الثالثة هي نظرة الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني. في هذا الإطار، يقول لنا الـمَجمَع الفاتيكاني: إنّ الإنسان بِطبيعته يرفض الفناء، بِطَبيعته يسعى دائمًا إلى الكمال، لأنّ في داخل كلِّ إنسان، رغبةٌ وتوقٌ إلى اللّامحدود. فهذا الإنسان النّاقص يتوق دائمًا إلى الكمال.
لذلك، نجد عند الإنسان ثورةً على الموت، لأنّه يرغب في أنْ يعيش هذه الحياة؛ ولكن حين يكتشف هذا الأخير مع مرور الوقت، أنّ الحياة الحقيقيّة هي مَعرِفةُ الله، يُصبح عاشقًا للحياة الجديدة، عاشقًا للحياة الأبديّة، تلك الحياة الّتي لا تنتهي، والّتي لا يوجد فيها لا ضُغفٌ، ولا ألمٌ، ولا وَجعٌ ولا موتٌ، تلك الحياة نعيشها وَجهًا لِوَجهٍ مع يسوع المسيح. كي نتمكَّن مِن عَيش تلك الحياة الأبديّة، علينا أن نكتَشِف أنَّ ملء الحياة هي أن نَعرف الله الآب.
أمّا النقطة الثانية الّتي أريد أن أتأمَّل فيها هي: كيف نموت؟ وهنا إخوتي، فلنَدَعْ العِلمَ يُجيب عن هذا السُّؤال. قد نموت بسكتةٍ قلبيّة أو نتيجة إصابة بسرطان، أو بمرَضٍ مُعيَّن، أو نتيجة حادثِ سيّارة.
أمّا النقطة الأخيرة الّتي أريد أن أتأمَّل فيها وإيّاكم، فَهي: لماذا نموت؟ بل السُّؤال الأصحّ: لماذا نعيش، إنْ كان لا بُدَّ من الموت؟ أو بعبارةٍ أُخرى: ما نفع الحياة، إنْ كُنّا سنَموت؟ أو لماذا خُلِقنا، إنْ كُنّا سنَموت؟ عندما يكون الموتُ أمامَنا في كلِّ حينٍ، فإنَّ هذا الأمر يُساعدنا كي نكتَشِف معنى الحياة أكثر فأكثر. فإنّه إنْ لم يكن هناك من نهايةٍ للأمور، فهي من دون أدنى شكّ، سَتَفقِدُ معناها،
إذ إنّ المعنى يتجلَّى في النِّهايات. تخيّلوا معي النَّهار، فإنّه مهما كان جميلاً ورائعًا بالنِّسبة إلينا، لا بُدَّ له من أن ينتهي. وتخيّلوا معي: ماذا لو كان دوام عملكم لا نهاية له؟! وأيضًا تخيّلوا معي لو أنّ طفولتكم لم يكن لها نهاية؟ تخيّلوا معي لو أنَّ فرحكم كان بلا نهاية؟ في هذه الحالة، يفقد الفرح معناه. كيف نكتشف معنى الفرح؟ نكتشفه عندما نختبر الألم والحزن. كيف نكتشف معنى حياتنا؟ عندما نعيش اختبار الموت. إذًا، المعنى كلّ المعنى يكمن في النِّهايات. ولا تخافوا من النِّهايات لأنّه في المسيحيّة، كلُّ نهايةٍ هي في حدِّ ذاتها بدايةٌ جديدة.
في النِّهاية سنَموت جميعنا، ولائحة أَسماء الأحبّاء الّتي سمعتموها اليوم في بداية الذبيحة الإلهيّة، ستضمُّ أسماءنا جميعًا في يومٍ ما، وأنا أوَّلُهم. فإذا كُنّا كُلُّنا كلّنا سنَموت، فلنَسعَ كي نموت كما يجب. إنّ القدِّيس إغناطيوس الإنطاكي يقول: “قَرُبَت السّاعة الّتي سأُولَد فيها”، لأنّ الموت هو ولادةٌ وخاتمةٌ لهذه الحياة.
إخوتي الأحبّاء، الموتُ هو حقٌّ لا تُفرِّط به، بل أَتمِم السَّعي إلى إنجاز هذا الحقّ وملاقاة الحبيب. وهنا أستطيع أن أصرخ مع بولس الرُّسول: “ما أحلاكَ يا موت، حين أكون مع المسيح”(فيلبي1: 21). إنّ الموت حلوٌ، فهل ما زِلنا نخاف منه؟
ملاحظة: دُوِّنَت العِظة بأمانةٍ من قِبلنا.