محاضرة للأب شربل أوبا الباسيليّ الشويريّ،
رئيس الكلِيّة الشَّرقيّة الباسيليّة.
“مَثَل العذارى العَشر”(مت 25: 1- 13)
النصّ الإنجيليّ:
“عندئذٍ يكونُ مَثل ملكوتِ السّماوات كَمَثل عَشرِ عذارى أَخذنَ مصابيحَهنَّ وخَرجنَ للقاء العريسِ، خَمسٌ مِنهنَّ جاهلات، وخَمسٌ عاقلات. فأخذَتِ الجاهلاتُ مصابيحَهنَّ ولم يأخذْنَ مَعهنَّ زيتًا. وأمّا العاقلات، فأخذنَ مع مصابيحِهنَّ زيتًا في آنية. وأبطأ العريسُ، فنَعِسنَ جميعًا ونِـمنَ. وعند نِصف اللّيل، علا الصِّياح: “هوَذا العريسُ! فاخرُجنَ للقائه!” فقامَت أولئكَ العذارى جميعًا وهيَّأنَ مصابيحَهنَّ. فقالَتِ الجاهِلاتُ للعاقِلات: “أعطينَنا مِن زيتِكُنَّ، فإنَّ مصابيحَنا تَنطفِئ”. فأجابَتِ العاقِلاتُ: “لعلَّه غيرُ كافٍ لنا ولَكُنَّ، فالأَولى أن تَذهَبْنَ إلى الباعة، وتَشتَريْنَ لَكُنَّ”. وبينما هُنَّ ذاهباتٌ لِيَشتَريْنَ، وَصَل العريسُ، فدَخلَت معه الـمُستَعِدَّاتُ إلى رَدهَةِ العُرسِ وأُغلِقَ الباب. وجاءَت آخِرَ الأمرِ سائرُ العذارى فَقُلنَ: “يا ربُّ، يا ربُّ، افتَحْ لنا”. فأجابَ: “الـحقَّ أقولُ لَكُنَّ: إنِّي لا أعرِفكُنَّ! فاسْهَروا إذًا لأنَّكم لا تَعلَمون اليومَ ولا السَّاعة”. الـمجد لك يا ربّ!
التأمّل في النّص الإنجيليّ:
إنّ حديثنا اليوم يتمحوّر حول مَثَل العذارى العَشر: خَمسٌ حكيمات، وخَمسٌ جاهلات. في لقائنا اليوم حول هذا النَّص، لن نتكلَّم عمّا هو صالحٌ القيام به وعمّا هو غير صالحٍ، كما أنّنا لن نتكلَّم على الّذي كان يَنقُص الجاهلات لتُصبحنَ كالحكيمات، إذ إنّ هذه الأمور واضحةٌ في هذا النَّص، ولا أعتقد أنّ هذا النَّص يحتاج إلى الكثير من الشَّرح في هذا الإطار. ولكن ما سنتكلَّم عليه في لقائنا حول هذا النَّص، وهو الأهمّ، هو القِسم الثّاني من عنوان لقائنا ألا وهو ملاقاة الربّ. إذًا، إنّ حديثنا اليوم سيَتناول موضوع كيفيّة الاستعداد للقاء الربّ، خصوصًا أنّ هذا النَّص الإنجيليّ يَنتهي بعبارة يقولها الربّ يسوع: “اسْهَروا إذًا لأنَّكم لا تَعلَمون اليومَ ولا السَّاعة”، وهو بالتّالي لا يوجِّه هذه العبارة إلى العذارى الحكيمات وحَسب، إنّما يوجِّهها إلى جميع النَّاس.
قَبْل الدُّخول في عمق النَّص، أرغب في القيام بِمُقدّمةٍ تُساعدنا على فَهمِ النَّص بشكلٍ أفضل، فَنُدرِك ما الّذي يريد الربّ أن يقوله لنا مِن خلاله. أوّلاً: واجبُ الاستعداد الشَّخصيّ للقاء الربّ: على كلِّ واحدٍ مِنّا أن يستعدَّ للقاء الربّ، مهما كانت جنسيّته أو مِهنته أو وَضعه الاجتماعيّ: متزوجًا أو أعزبًا، راهبًا أو كاهنًا أم ربَّ أُسرَةٍ؛ أفريقيًّا، أوروبيًّا أو لبنانيًّا. إنَّ الربَّ يدعو جميع النَّاس مِن دون تمييز، دعوةً شاملةً وكاملةً، إلى الاستعداد للقائه والسَّهر لملاقاته عند مَجيئه الثاني. إخوتي، كان الربُّ يسوع يُكلِّم الجموع عن الملكوت مِن خلال الأمثال. إنّ الأمثال الّتي كان يُعطيها الربُّ للجموع تَنقَسم إلى عدَّة أقسام: فبَعضها، كان يعطيها الربّ ليشرَحَ لهم حدثًا مُعَيَّنًا، في حين أنّ البعض الآخَر منها، والّـتي فيها تكمن الصُّعوبة، كان يُعطيها للجموع ليُكلِّمهم على الملكوت أو على مجيئه الثّاني. وفي إنجيل متّى، نَجِدُ أمثلةً كثيرةً عن الملكوت، فعلى سبيل المثال في الإصحاح 25 الّذي نحن في صدده، نلاحظ أنّه بَعد مَثل العذارى الّذي نعالجه اليوم، هناك مَثل الوزنات، ثمّ مَثل الدَّينونة العامَّة، كما نلاحظ في مكانٍ آخَر مِن الإنجيل، أنّ الربّ يُكلِّمنا على الملكوت مِن خلال مَثل الدِّرهم الضَّائع، ومَثل الخروف الضَّائع، وسِواها مِن الأمثلة.
في انتظارنا لمجيء الربّ، لا يكفي أن نُعلِن عن إيماننا بالربّ كلاميًا، أي أن نسعى إلى الحصول على سرّ المعموديّة ومحبّة الآخَرين كما طلَبَ إلينا الربّ في وصاياه لنا، بل علينا أن نسهر لملاقاته عند مجيئه. بمعنى آخَر، لا يكفي أن نسعى إلى العيش بِحَسَب مشيئة الله مِن خلال إظهار طاعتنا له بالقول أمام الجميع: “لتَكن مشيئَتُك يا ربّ”، ونحن داخليًا نعمل، لا بِحَسب مشيئة الربّ بل بِحَسبَ مشيئتنا، لذلك علينا أن نستعدَّ للقاء الربّ بالسَّهر. إنّ الربّ يقول لنا: “لَيسَ كُلُّ مَن يَقول لي: يا ربُّ، يا ربُّ! يَدخُل مَلَكوت السَّماواتِ. بل الَّذي يَفعل إرادة أبي الَّذي في السَّمَاوَاتِ” (متى 7: 21)، وبالتّالي، علينا السَّهر لملاقاة الربّ ليس فقط الإعلان عن إيماننا به. وفي هذا الإطار، يُضيف الربّ قائلاً لنا إنّ الشَياطين نفسَها تؤمن به، وتعترف بأنّه ابنُ الله، فهذا ما كانت تُعلِنه حين كان يُخرجها من الـمَمسوسين: “ما لَنا ولكَ يا يسوعُ ابنَ الله؟ أَجِئتَ إلى هُنا قَبْل الوَقتِ لِتُعَذِّبنا؟”(متى 8: 29).
إذًا، الإعلان عن إيماننا بالربّ وحده لا يكفي لملاقاة الربّ والدُّخول إلى الملكوت السَّماويّ، وكذلك محبّة الآخَرين وحدها لا تكفي، إذ عليهما أن تتلازما مع السَّهر الدائم لملاقاة الربّ. في هذا الإطار، يقول لنا يوحنّا الرَّسول في رسالته الأولى: “إن قالَ أحدٌ: «إنِّي أُحِبُّ الله» وأبغَضَ أخاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأنّ مَن لا يُحِبُّ أخاهُ الَّذي يُبصِره، كَيف يَقدِر أن يُحِبَّ الله الَّذي لَم يُبصِرهُ؟” (1 يوحنا 4: 20). إنّ الكَذِب، في مفهوم الكتاب المقدَّس، هو النَّظر إلى أمرٍ ما على أنّه حقٌّ وهو في الحقيقة خطأ. ويُضيف مار بولس، إلى كلام الرَّسول يوحنّا، فيقول لنا إنّ الشَّيطان سيَظهر أمامنا في شكلِ ملاكٍ من نورٍ، وهو ما ليس عليه في الحقيقة.
قَبْل الكلام على موضوع السَّهر وملاقاة الربّ، سأقوم بشرح بعض الرُّموز لِفَهم هذا الـمَثل بشكلٍ أفضل: – إنّ العدد “عَشَرة” في التَّقليد اليهوديّ، هو عددٌ من الضروريّ توافرَه لإقامة مَجمعٍ قانونيّ، للصَّلاة أو تَناول الفِصح أو إعطاء الشَّهادة في العُرس. وانطلاقًا من هذا التَّقليد، نحن نلجأ في كلِّ عرسٍ إلى وَضعِ أقلَّه إشبِينَين بشكلٍ إلزامي، كشهودٍ على هذا العرس، وفي حال عدم توافرهما، تقول الكنيسة إنّ جميع المدعوِّين إلى هذا العرس هُم شهودٌ على تَبادُل النَعَم بين العروسَين. كتَبَ متّى الرَّسول إنجيلَه إلى الشَّعب اليهوديّ، الّذي كان يؤمن بالله وينتظر حلول الملكوت على الأرض. وأيضًا، إنّ العدد “عَشرة” في التَّقليد اليهوديّ يرمز إلى الوصايا العَشر. كما يرمز أيضًا العدد “عشرة” إلى الكمال، فالإنسان الصّحيح يملك عشرة أصابِع في يدَيه وكذلك عشرة أصابِع في رِجليه.
– المصباح يرمز إلى كلمة الله: “كلمتُك مصباحٌ لخطايَ ونورٌ لسبيلي” (مز 119: 105). إخوتي، علينا التَّمييز ما بين الـمِصباح والسِّراج. في مكانٍ آخر مِن الإنجيل، يقول لنا الربّ يسوع: “لا يوقد سِراجٌ ويوضَع تحت المكيال، بل على المنارة ليُنير للّذِين هُم في البيت”(متى 5: 14- 15). إنّ المصباح هو كلمةُ الله، وقد أعطانا الربُّ يسوع عدَّة أمثلةٍ للدَّلالة على ذلك. إنّ السِّراج يختلف عن الـمِصباح في كَون الأوّل يحتاج إلى زيتٍ، وسنتطرَّق لاحقًا إلى دلالات الزَّيت. في هذا النَّص الإنجيليّ، نلاحظ أنّ العذارى العَشر كان معهنَّ مصابيحَ إضافةً إلى آنيةٍ للزَّيت. إنّ الـمِصباح يَحمِلُه الإنسان في أثناء تَنَقّلاته خارج المنزل، كي يُنير له الطريق، تمامًا كما تُنير كلمة الله طريقنا في هذه الحياة. أمّا السِّراج فيوضَع في مكانٍ مرتَفعٍ نسبيًّا ليُنير لجميع الجالِسين في مكانٍ واحد. هنا تَجدر الإشارة إلى أنّ السِّراج والـمِصباح يرمزان كلاهما إلى كلمة الله، غير أنّ الـمِصباح يُشير إلى مسيرةٍ يقوم بها الإنسان في هذه الحياة، أمّا السِّراج فهو يُضيء الطّريق لجميع النَّاس.
– في الكتاب المقدَّس، يشير اللَّيلُ إلى مَجيء المسيح. وفي هذا الإطار، نَجِد في الإنجيل، نصوصًا كثيرةً يأتي فيها الإنجيليّ على ذِكر اللَّيل، فعلى سبيل الـمِثال قول الربّ يسوع لنا: “اِسهَروا إذًا، لأنَّكم لا تَعلَمون متى يأتي رَبُّ البَيتِ، أَمَساءً، أم نِصفَ اللَّيلِ، أَم صِياحَ الدِّيك، أَم صَباحًا” (مر 13: 35). إنّ اللَّيل يُشير إجمالاً إلى الظلام، أي إلى الـمَجهول. ففي اللَّيل، يُصبح الإنسان غير قادرٍ على معرفة الطريق الّذي يَسير فيه، وبالتّالي هو بحاجةٍ إلى مِصباحٍ ليُضيء له الطّريق. هذا على المستوى الحياتيّ الأرضيّ. أمّا على المستوى الرّوحيّ، فالـمِصباح هو كلمةُ الله. – لقاء العريس بالعروس: في تقاليدنا الشرقيّة وخصوصًا اللّبنانيّة، لا زالت قُرًى كثيرةٌ تحافظ على هذه العادات القديمة، الّتي يقوم بها العريس في نِصف اللَّيل، بالمجيء إلى بيت العروس مع كلّ الشَّباب العازبِين، لأخذِها إلى مكانِ احتفال العريس. وعندما يجتمع العريس مع العروس في مكانٍ واحدٍ، تبدأ الحفلة الكبيرة. إنّ أهل العريس يستعدّون للقاء العروس وأهلِها من خلال الإبقاء على بعض الطَّعام كي يتمكَّن جميع المدعوِّين من تناوله في أثناء الحفلة الكبيرة.
– العذارى: هنا نعود ونطرح السّؤال: لماذا اختار الإنجيليّ متى العذارى حَصرًا، مِن دون الشَّباب أو النِّساء المتزوِّجات أو أهل العريس، مع العِلم أنَّ النَّص يتكلَّم على عرسٍ؟ إنّ العذارى في الإنجيل يَرمزنَ إلى الكنيسة، الّتي عليها أن تستعدّ للقاء عريسها الأوحد، يسوع المسيح. في الطَّقس الكنسيّ الشّرقي، لا يستخدمون لفظة “عريس” للدلالة على المسيح، بل يستخدمون لفظة “عروس”. والدَّليل هو ما نردّده في صلاة المدائح، الّتي نتوجَّه فيها إلى العذراء مريم قائلِين لها: “إفرَحي يا عروسةً لا عروسَ لها”. واليوم سأختُم حديثي معكم بتلاوة طروباريّة الخَتَن الّتي نقول فيها: “ها هوذا الخَتَنُ يأتي” أي العريس، وهذه الطروباريّة منبثقةٌ مِن هذا النَّص الإنجيليّ تحديدًا.
– الرَّقم خمسة: إنَّ الرَّقم خمسة يرمز إلى الحوَّاس الخمسة عند الإنسان، والّتي مِن خلالها يتواصل هذا الأخير مع الكَون مِن حَوله. في زمن كورونا الّذي نعيشه اليوم، يفقد بعض الـمُصابِين به حاسَتي الشَّم والذّوق لمدَّةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ، فيَشعُر الإنسان عندها أنّ لا طَعم لأيِّ شيءٍ يتناوله، فكيف إذا أُضيفَ إلى فقدانه لِهاتَين الحاسَّتين، فقدانَه لِباقي الحوَّاس أي النَّظر والسَّمع واللَّمس؟! أقول لكم إذا فَقَدَ الإنسان هذه الحوّاس الخمسة مجتمعةً، فَقَدَ شعورَه بالعالَم مِن حوله، وبالتّالي أصبح مَنفِيًا، مُبعَدًا عن العالَم من حوله، وبالتّالي أصبح هذا الإنسان خارج مخطَّط الله. إنّ الرَّقم خمسة يشير أيضًا إلى الأصابع الخمس الموجودة في اليَد الواحدة عند الإنسان. إنّ الرَّقم خمسة يشير إلى أسفار موسى الخَمس، أي الكُتـُب الخمسة الأولى مِن الكتاب المقدَّس. هذا في العهد القديم. أمّا في العهد الجديد، فالرَّقم خَمسة يرمز إلى الخبزات الخَمس الّتي باركها الربّ يسوع إضافةً إلى السَّمكتَين الّتي أطعم مِن خلالها عددًا كبيرًا من النَّاس. كما يرمز الرَّقم خمسة في العهد الجديد إلى جراح المسيح الخمسة، الّتي خلَّص الربُّ العالَم مِن خلالها على الصَّليب.
– العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات: إنّ العذارى الجاهلات يَرمُزنَ إلى الأشخاص الّذين لم يكونوا على استعدادٍ للقاء الربّ، أي الّذين لم يكن لديهم النِّعمة، بمعنى آخَر هُنَّ يرمُزنَ إلى كُلّ الّذين لم يكونوا أرضًا طيّبةً صالحةً حاضرةً لاستقبال الربّ في حياتهم ليُغيِّرها. وبالتّالي، في البُعد الاسكاتولوجي لهذا النَّص، كلُّ مَن يستعدّ للقاء العريس عند مجيئه، سيَجلِس إلى مائدة العريس أي الحَمَل الفِصحيّ. وفي تطبيقنا لهذا النَّص في حياتنا الأرضيّة، نستطيع القول إنَّ هؤلاء العذارى الجاهلات لم يخطِّطنَ لمستقبلهنَّ مع العريس: لأنَّه بالطَّبع لم يكن هذا العرس الأوّل في قرية هؤلاء العذارى، وعلى الرُّغم من ذلك، لم يَكُنَّ مستعدَّات للقاء العريس. ونحن نَعلَم أنّه حين نُدعى إلى عُرسٍ، نبدأ بالاستعداد له، من خلال اختيار الزّي المناسب لهذ الاحتفال، مع كلّ ما يتبع ذلك من تحضيرات. وبالتّالي، فإنّ هؤلاء العذارى الجاهلات يَرمُزن إلى كلِّ إنسانٍ لم يفكّر في كيفيّة الاستعداد للعرس. إنّ خَير مِثالٍ عن الفرق بين العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات هو الـمَثل الّذي أعطاه الربّ يسوع عن رَجُلين أحدهما بنى بيته على الرّمل، فَلم يتمكَّن من الصَّمود أمام العواصف؛ والآخر بنى بيته على الصَّخر، فصَمد في وجه العواصف.
في هذا النَّص، يقول لنا الإنجيليّ متى: “وأبطأ العريس”. في البُعد الإسكاتولوجي للنَّص، يشير هذا الإبطاء في وصول العريس إلى المدَّة الزَّمنيّة الفاصلة بين مجيء المسيح الأوّل ومجيء المسيح الثّاني. إنَّ هذا الإبطاء في مجيء العريس يُشكِّل محور هذا النَّص، إذ إنّه فَرَز العذارى ما بين حكيمات وجاهِلات. إنّ إبطاء العريس أعطى القيمة للحكيمات (أو العاقلات) بأن يَكنَّ مستعدّات لمجيء العريس، حتّى وإن تأخَّر في الوصول. في استعداد هؤلاء العذارى الحكيمات، نَجِد تطبيقًا فِعليَّا لكلام الربّ: “مَن يصبر إلى المنتهى، فذاكَ يَخلُص”(متى 24: 13). أحبّائي، إنّ مشكلتَنا اليوم، تكمن في أنّنا نريد كلَّ شيءٍ والآن”: فمثلاً، البعض يريد الاغتناء السَّريع، والبَعض الآخَر يريد الحصول على أعلى الشَّهادات على الفور، من دون تَعب أو جهدٍ،… إخوتي، إنّ الوقت مقدَّسٌ في حياتنا المسيحيّة، فأنا لا أستطيع أن أُصبح قدِّيسًا لمجرَّد أنِّي دخلت إلى الكنيسة للصّلاة أو استمعتُ إلى محاضرةٍ روحيّةٍ، أو شاركتُ في القدَّاس وتَناولتُ القربان المقدَّس، فالقداسة تتطلَّب جُهدًا وهذا الأخير يتطلَّب وقتًا. إنّ القداسة لَيست عملاً سِحريًّا يقوم به الإنسان، فالقداسة مرتبطةٌ بعلاقة المؤمن بالربّ، الّتي تدوم إلى الأبد، أي أنّها لا تنتهي بموتِنا الأرضيّ. نحن نؤمن بالحياة الأبديّة ونؤمن بمجيء الربّ الثّاني، وهذا ما نُعلِنه جهارًا في قانون الإيمان الّذي نتلوه في القدَّاس، إذ نقول: “ونترجَّى قيامة الموتى والحياة الأبديّة”، كما نُعلِن أيضًا أنّه “سيأتي في مجدٍ عظيمٍ ليَدين الأحياء والأموات”. إخوتي، إنّ عبارة “ننتظر مجيئه الثاني”، لا تعني أنّه بوصول الربّ ينتهي كلّ شيء، بل على العكس من ذلك، إذ إنّه مع وصولِه تبدأ الحياة الأبديّة الّتي لا نهاية لها.
فبَعد موتِنا الأرضيّ، تبدأ حياتنا الأبديّة مع الربّ، إذ يكون مجيئه الثّاني قد تحقَّق بالنِّسبة إلينا. في المجيء الأوّل للمسيح، تعرَّفنا على الربّ جسديًا، وهلَّلنا له قائلِين له: “مُبارَكٌ الآتي بِاسم الربّ”(متى 21: 9)؛ أمّا اليوم فنَحنُ ننتظر مجيئه الثّاني. إخوتي، في كلامنا عن مجيء الربّ الثاني، قد يتساءل الكثيرون عن كيفيّة حدوث ذلك المجيء، فيَطرحون السّؤال” هل سيتجسَّد الربُّ مرَّةً جديدة؟ بالطَّبع لا! فهو أتى مَرَّةً واحدةً في الجسد، وحقَّق كلّ ما جاء من أجله إذ تألَّم ومات وقام من بين الأموات مخلِّصًا بِصَلبه كلَّ البشريّة، أمّا مجيئه الثَّاني، فسَيَكون بذهابنا نحن إليه، مِن خلال انتقالنا من هذه الفانية بالموت الأرضيّ، ولقائنا به وجهًا لوجه في الملكوت. إخوتي، منذ يوم ولادتنا إلى يوم وفاتنا، نحن في حالة انتظارٍ دائمٍ لمجيء الربّ الثاني وملاقاته. إذًا، كي نتمكَّن من اللِّقاء بالربّ، علينا أن نتَّخذ من العذراء مريم مِثالاً لنا، فنقول له “نَعم”، “أنا أمَةُ الربّ، فَليَكُن لي بحسبِ قولِك” (لوقا 1: 38). إذًا، إنّ الوقتَ هو مِحنَةٌ للإيمان.
في أيّام الرّسل وما بعدها، عاش المؤمِنِون بالربّ الصِّراع الّذي نعيشه كلَّ يوم: فإذا نَظَرنا إلى الوباء الّذي كسَح عالَمَنا اليوم، نطرح السُّؤال: أين أنتَ يا الله، لماذا لا تتدَّخل وتُنهي أمرَ هذا الوباء؟ فيأتينا الجواب من البعض فيقولون إنّ هذا الوباء هو مؤامرةٌ، وآخَرون يقدِّمون لنا نظريّات وشائعات. إخوتي، إنّ سؤالنا الّذي نوجِّهه للربّ هو سؤالُ كلّ إنسانٍ مؤمنٍ وليس سؤال إنسانٍ لا يؤمن بالله. هنا، أودُّ أن أقول لكم أمرًا: هل مِن المعقول أن يترك الله “هذه المؤامرة” في العالَم تُحقِّق أهدافها من دون أن يتدخَّل لِنَجدة البشريّة؟ هل مِن المعقول أن يسمح الله للشَّر بأن يتحكَّم بالبشريّة ويُسَيطر عليها، وهو، أي الله، يقِف مكتوفَ الأيدي، لا يُحرِّك ساكنًا؟ بالطَّبع لا! أمام هذا الوباء الّذي نعيشه وانطلاقًا من هذا النَّص، نَطرح السُّؤال على ذواتنا: أين أنا مِن هؤلاء العذارى: هل أنا من الجاهِلات أم مِن الحكيمات؟
إخوتي، إنّ العريس لا محالة آتٍ، غير أنّنا لا نعلَم ساعة مجيئه. وفي هذا الإطار، يحذِّرنا الربّ من مَجيئه الثاني ويقول لنا: “اِسهَروا إذًا لأنَّكُم لا تَعلَمون في أيَّة ساعةٍ يأتي ربُّكُم. واعلَموا هذا: أنَّه لَو عَرَف ربُّ البَيتِ في أيِّ هَزيعٍ يأتي السّارقُ، لَسَهِرَ ولَم يَدَعْ بَيتَه يُنقَب. لِذَلِك، كونوا أنتُم أيضًا مُستَعِدِّين، لأنَّه في ساعةٍ لا تَظُنُّون يأتي ابْنُ الإنسان”(متى 24: 42- 44). إذًا، إنّ الربَّ يسوع يُشبِّه نفسَه بالسَّارق. أمّا الآن، فأنطلق إلى القِسم الثاني من حديثي، وفيه سنَدخُل في التَّطبيق العَمليّ لهذا الإنجيل في حياتنا اليوميّة. إخوتي، علينا التوقّف عند ما يستفزُّنا في كلّ نصٍّ إنجيليّ والتأمُّل به. إنّنا نؤمِن أنّ الله هو الـمُحبّ والرَّحوم والسَّموح، والسَّامريّ الصالح، والغفور لجميع النَاس، وأنّه قد طَلب إلينا محبّة الأعداء والغفران لكلّ مَن يسيء إلينا، وإذ بنا نُفاجأ أنّه لم يُطبِّق في الإنجيل ما علَّمنا إيّاه، وهذا النَّص الإنجيليّ هو مَثالٌ على ذلك: فتَخيّلوا معي إخوتي، لو جاءكم أحدٌ في وقت الغذاء متأخِّرًا، وقرع بابكم طالبًا إليكم الدُّخول ومشاركتكم الطَّعام، ألا تقومون بإدخاله؟ بالطبَّع، بلى! ولكنّ الإنجيليّ متّى يُخبرنا في هذا النَّص أنّ الربّ لم يَفتَح لهؤلاء العذارى الجاهلات.
إنّ الربّ قال لنا في مكانٍ آخَر من إنجيل متّى: “تعالَوا إليّ يا جميع المتعَبين والـثَّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم” (متى 11: 28)، وقال لنا في مكانٍ آخَر أيضًا: “اِحمِلوا نِيري علَيكُم وتَعلَّموا مِنِّي، لأنِّي وَديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فَتَجِدوا راحَةً لِنُفوسِكُمْ، لأنَّ نِيري هَيِّنٌ وَحِملي خَفِيفٌ” (متى 11: 29- 30)، كما قال لنا أيضًا: “أحِبّوا أعداءكم، بارِكوا لاعِنِيكُم. أحسِنوا إلى مُبغِضيكم، وصَلّوا لأجل الّذين يُسيئون إليكم ويَطردونكم” (متى 5: 44). فلماذا في هذا النَّص، نَجِد أنَّ الربَّ يسوع لم يفتَح لهؤلاء العذارى؟ في نصّ الدَّينونة العامَّة، نسمع الربّ يقول للّذِين عن شِماله: “اذهَبوا عَنِّي يا مَلاعِين إلى النَّار الأبديَّة الـمُعدَّة لإبليسَ ومَلائكَتِه، لأنِّي جُعتُ فَلَم تُطعِموني. عَطِشتُ فَلَم تَسقوني. كُنتُ غَريبًا فَلَم تأووني. عُريانًا فَلَم تَكسوني. مَريضًا ومَحبوسًا فَلَم تَزوروني” (متى 25: 41- 43). وفي مكانٍ آخَر، يُعلِّمنا الربّ قائلاً: “مَن ضَرَبكَ على خدِّكَ فاعْرِض له الآخَر أيضًا، ومَن أخذ رداءكَ فلا تَمنَعهُ ثَوبَكَ أيضًا.” (لو 6: 29). أمام كلّ هذه التَّعاليم، نَجِد أنّ الربّ، عند مثوله أمام بيلاطس للمحاكمة، تعرَّض للَّطم من قِبَل أحد الجنود، وبَدَل أن يَعرِض
له خدَّه الآخَر كما علَّمنا، نراه يبادر هذا الخادم بالقول: “إن كُنتُ قد تَكلَّمتُ رَديئًا فاشهَد على الرَّديءِ، وإن حَسَنًا فَلِماذا تَضرِبُني؟” (يو 18: 23). في هذا الإطار، يمكنني أن أُعطيكم أمثلةً كثيرةً. إنّ الجواب الّذي أُعطيكم إيّاه حول هذه المفارقة الموجودة بين كلام يسوع وتصرّفاته، يُقسَم إلى قِسمين: أوّلاً إنّ الإنجيل لا يُقرأ بحرفيّته. ثانيًا، بالطَّبع إنّ الربَّ رَحومٌ وغفورٌ ومُحِبّ للبشر، لكن علينا ألّا ننسى أنّه طلب إلينا في مكانٍ آخَر مِن الإنجيل: “كونوا حُكَماء كالحيَّات وبُسَطاءَ كالحمام” (متى 10: 16)، وهذا يعني أنّه لا يمكننا الاستعداد للقاء الربّ بمحبّة الآخَرين وحسب، إنّما أيضًا بالسَّهر والجهاد في طريق النِّعمة حتّى النِّهاية، فالإنسان معرَّضٌ في كلّ يومٍ للوقوع في الخطيئة. هذه هي حياة الإنسان، ابتداءً من القدِّيس بطرس وصولاً إلى أُسقف روما وانتهاءً بكلّ واحدٍ منّا.
إخوتي، إنّ القدِّيس بطرس هو خَيرُ مِثالٍ لنا: فكما أنّ القدِّيس بطرس تمكَّن من السَّير على الماء حين كان نَظَرُه مُثَبتًا على الربّ، وغَرِق عندما أمال نَظرَه عنه، كذلك نحن سنَغرق في الخطيئة كلَّما أمَلنا نظرنا عن الربّ، وسنَغرق كما غرِق بطرس، ولكن علينا أن نتشبَّه ببطرس أيضًا الّذي سارع إلى طلب النَّجدة من الربّ حين شَعر بأنّه يغرَق، فمدَّ يده للربّ متنظِرًا المساعدة منه، فَحَصل عليها.
إخوتي، لا يمكننا فقط طلب النَّجدة من الربّ قائلِين له: “يا ربّ، نجِّني!” (متى 14: 30) كما قال له بطرس، بل علينا أيضًا أن نَمُدَّ أيدينا للربّ كي يتمكَّن من مساعدتنا وانتشالنا مِن غَرَقِنا. إخوتي، إنّ الربّ لا يمكنه أن يخلِّصنا إن لم نَقُم بِخُطوةٍ تجاهه تُعبِّر عن رغبتِنا في الحصول على الخلاص منه. إنْ تَوقَفْنا في حياتنا المسيحيّة عند حرفيّة الإنجيل تُصبح المسيحيّة ديانةً تُبشِّر بالألم، مستندةً على كلام الربّ: “إحمِل صليبَك” (متى 16: 24)، وتدعو إلى الفَقِر:”اِذهَب، بِعْ كُلَّ ما لكَ وأعطِ الفُقراء، فَيَكون لكَ كَنزٌ في السَّماء”(مر 10: 21)، إن لم تقتَرِن بكلمة “اتبَعني”.
إنّ كلمة السّر للحصول على الملكوت والخلاص لا تكمن في بَيع الإنسان كلّ ما يملِك ولا في حَملِ صليبه، وتَحمُّل آلامه لِمَجد آلام الربّ يسوع، ولا في محبَّتِه لجميع النَّاس، إنّما في اتِّباع يسوع. والقدِّيس بولس الرَّسول يؤكِّد على هذا الأمر إذ يقول لنا:” إن كُنتُ أتَكلَّمُ بِألسِنَة النَّاس والملائكة ولكِنْ لَيسَ لي مَحبَّةٌ، فَقَدْ صِرتُ نُحاسًا يَطِنُّ أو صَنجًا يَرِنُّ. وإن كانَتْ لي نُبوَّةٌ، وأعلَمُ جميع الأسرار وكُلَّ عِلمٍ، وإن كان لي كُلُّ الإيمان حتَّى أنقُلَ الجِبال، ولكِن لَيس لي مَحبَّةٌ، فَلَستُ شَيئًا. وإنْ أطعَمتُ كُلَّ أموالي، وإن سَلَّمتُ جَسدي حتَّى أحتَرِق، ولكِنْ لَيسَ لي مَحبَّةٌ، فلا أنتَفِعُ شَيئًا” (1 كور 13: 1-3). في مكانٍ آخَر من الإنجيل، نقرأ أنّه لن يتمكَّن الإنسان من الدُّخول إلى الملكوت والجلوس إلى مائدة العرس، إنْ لم تكن محبّتَه للآخَرين مقرونةً باتِّباعه للمسيح.
لذلك، يدعونا الربّ إلى السَّهر، لأنّنا لا نَعلَم لا اليوم ولا السّاعة، فيَوم الربّ يأتي كالسّارق. إذًا، المشكلة في هذا النَّص تكمن في تأخُّر العريس، وفي هذا الحدث يكمن عنصر المفاجأة بالنّسبة إلى العذارى. إخوتي، ليس من شأنِي أنا المؤمن أن أعلم وقت مجيء الربّ، فكلّ ما عليّ القيام به هو الاستعداد للقاء الربّ حين يأتي. عندما يأتي الربّ ويقرع بابنا، علينا أن نكون مستعدِّين كي نَفتح له الباب من دون تَلكُؤ أو تردُّد، ريثما نحضِّر ذواتنا لاستقباله. هذا هو الفرق بين مريم ومرتا: إنّ مرتا سَعَتْ إلى الاهتمام بتحضير الطَّعام، أمّا مريم فَفَضّلَتْ الجلوس عند قدَميّ الربّ.
إنّ مريم قد أدرَكت أنَّ يسوع هو النَّصيبُ الأفضل. غير أنّ الربّ لم يقلِّل من أهميّة عمل مرتا، القائم على تحضير الطَّعام بل شدَّد في كلامه معها أنّ المطلوب هو واحد، في حين أنّها تهتمّ بأمورٍ كثيرة. ولكن هذا لا يعني أنّه على مرتا التوقُّف عن تحضير الطَّعام. إخوتي، إنّ الربَّ يسوع يدعونا كي نكون في بعض الأحيان كمريم، وفي أحيانٍ أُخرى كمَرتا. ما يطلبه إلينا الربّ في نصّ مثَل العذارى هو أن نكون على مِثال العذارى الحكيمات غير أنّنا، للأسف، في الكثير من الأحيان، نتصرَّف كالعذارى الجاهلات. ما يطلبه إلينا الربّ هو أن نكون مستعدِّين لمجيئه في كلّ آنٍ وَأوان.
إنّ الربَّ يسوع يقول لنا في هذا النَّص: “اسهَروا وَصَلّوا”، ولكن في أماكن أخرى من الإنجيل، يدعونا إلى السَّهر والصّلاة لأنّ يوم مجيء الربّ سيأتي كالسّارق. وهنا نطرح السُّؤال: ما هي مقوِّمات السَّهر كي نتمكّن من ملاقاة الربّ؟ في هذا الإطار، سأعرض عليكم بعض المعاني الأساسيّة لِما نقصده بكلمة “السَّهر”: – السَّهر بمعنى إعداد التَّدابير لمواجهة احتمال طويل الأمد: إنّ المؤمن لا يعرف متى يأتي يوم الربّ فهو يأتي كالسّارق. إذًا، كلّ ما علينا القيام به هو الاستعداد الدّائم لِفَتح الباب حين يَقرع الربُّ بابي. – السَّهر بمعنى اليقظة: إنّ اليقظة لا تعني الاستيقاظ. إنّ الإنسان قد يكون مستيقظًا ولكنّه غير متيَّقظ لِما يدور حولَه. اليقظة تعني الانتباه لكلّ التَّفاصيل. – السَّهر بمعنى سماع صوت الربّ بحكمةٍ: أنا أستطيع أن أكون متيَّقظًا، ولكنَّي غير منتبهٍ لكلَّ ما يدور مِن حولي. تمامًا كالّذي يجلس تحت مُكبِّر الصَّوت في أثناء حفلةٍ معيّنة، فهو لا يستطيع التَّفاعل مع أيّ حديثٍ يَدور من حوله لأنّه لا يستطيع سماع شيءٍ سِوى صوت الموسيقى الصّاخب. إنّ انتظار المؤمن لمجيء الربّ واستعداده له لا يتمّ إلّا في أثناء الصّلاة، أي في الصّمت، وبالتّالي على فِكر المؤمن أن يكون فارغًا من كلّ ضوضاء العالَم.
– السَّهر بمعنى القناعة: على المؤمِن أن يكون مقتنعًا بأنّ هذا الزَّيت الموجود بين يدَيه يجب المحافظة عليه إلى وقت مَجيء العريس، فلا يضطر إلى اقتراض الزَّيت من الآخَرين، كما حصل مع العذارى الجاهلات في هذا النَّص. إخوتي، على المؤمن، أن يُدرك ما هو الطريق الّذي اختاره في اتِّباعه للربّ، وبالتّالي عليه الاستعداد له، من خلال اليقظة وإعداد كلّ التدابير اللّازمة كي يتمكَّن من ملاقاة الربّ عندما يأتي. إذًا، على المؤمن الاقتناع بكلّ المواهب الّتي أعطاه إيّاها الربّ. إنّ كلّ إنسانٍ هو فريدٌ في العالَم، كذلك هي علاقتي بالربّ، هي فريدةٌ من نوعها، لا يوجد مَثيل لها في العالَم كلِّه. فتمامًا كما أنّ بصمة الإصبَع تختلف بين إنسانٍ وآخَر ولا يوجد لها مثيلٌ في العالَم، على الرُّغم من وجود سَبع مليارات بصمةٍ في العالَم بِعَدد سُكّان العالَم، وفي ذلك تَظهر جَلِيًّا حِكمَة الربّ؛ كذلك هي علاقتي بالربّ لا مَثيل لها في العالَم. على المؤمن أن يقتنع بمواهبه وبعلاقته الفريدة مع الربّ.
ففي علاقته الفريدة مع الربّ، يستطيع كلّ إنسان أن يتقدَّس. على الرَّغم من وجود عددٍ كبير من القدِّيسين في العالَم، إلّا أن مسيرة قداسة كلّ واحدٍ منهم تختلف عن الآخَر، فالقدِّيسة رفقا تقدَّسَتْ بالألم، والأُمّ تريزيا في خدمتها للفقراء، والقدِّيس شربل في حياته النُّسكيّة، والبابا يوحنّا بولس الثّاني في التّعليم الّذي أعطاه للكنيسة الجامعة. إنّ غِنى الحياة المسيحيّة تكمن في أنَّ كلّ قدِّيسٍ سلك طريقًا للقداسة مختلفًا عن الآخَر. هذا هو غِنى الربّ يسوع، فطُرُقه لا تُحصى، إنّه الحياة، والحياة لا تُحصى.
– السّهر بمعنى الجهاد الرَّوحيّ: إنّ هذا النَّوع من الجهاد يتضمَّن الكثير من العَذَاب. إنّ انتظاري لمجيء الربّ، يتطلَّب مِنِّي جهادًا وحَربًا. في هذا الإطار، يقول لنا مار بولس إنَّه على المؤمن الجهاد في الحرب الرّوحيّة الّتي تواجهه في أثناء انتظاره لمجيء الربّ، والاستعداد لها، كما يستعدّ الجنديّ الرَّومانيّ للحرب، أي أنّه عليه الحصول على كلّ عِدَّة الحرب من خوذةٍ ودِرعٍ وما إلى هنالك من عِدَّةٍ. ويتابع مار بولس قولَه فيقول لنا إنّ هذه الحرب الرّوحيّة هي حربٌ مع قِوى الشَّر.
– السَّهر بمعنى الحراسة: في الحرب الرّوحيّة، على المؤمن أن يبقى متيّقظًا فلا تغفل عينُه ولو لِلَحظةٍ عن العدَّو كي لا يُباغته هذا الأخير ويَقضي على كلّ ما كان قد أنجزَه في هذه الحرب. على المؤمن أن يجتهد كي يحرس بيتَه مِن كلّ فِخاخ العدوّ.
– السَّهر بمعنى الرّسوخ في الإيمان: هذا أهمّ ما يُركِّز عليه مار بولس، في كلامه عن الجهاد الرُّوحيّ. كلُّ إنسانٍ يستطيع أن يؤمن بالربّ، ولكنَّ ملاقاة الربّ تتطلَّب من المؤمن السَّهر والاستعداد لذلك اليَوم. إنّ المؤمن يُدرِك أنّ الربَّ هو مخلِّصه الأوحد من كلّ الشَّرور، ولكنَّه للأسف، ينسى هذه الحقيقة عند أوّل صعوبة تواجهه في حياته، فيَبتعِد عن الربّ، ولكنْ عليه أن يتذكَّر دائمًا أنَّ لا خلاص له إلّا بعودَتِه إلى الربّ. وهنا يُطرَح السُّؤال: هل إيماني راسِخٌ في الربّ؟ إنّ الرّسوخ في الإيمان يَعني عدم السّماح لأيّ شيءٍ بزعزعةِ إيماني بالربّ، وهذا يتطلَّب سَهرًا وتَعبًا.
– السَّهر بمعنى التنبّه من الذِّئاب الخاطفة: إنّ الذئاب الخاطفة في هذا العالَم كثيرةٌ، وهي لا تُحصى. باختصار، إنّ الذئاب الخاطفة هي كلّ ما مِن شأنه أن يُبعِدني عن الربّ: على سبيل المِثال لا الحصر، الهاتِف قد يكون ذِئبًا خاطفًا، كذلك وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، والبَرد، إضافةً إلى كلّ شيء يستطيع أن يُبعدني عن الربّ حتّى وإن كانت أعمالاً صالحة، فالعَمل الصّالح قد يقودني إلى الوقوع في الكِبرياء. هذا ما حَدَث مع مار بطرس، فإنّه حين أمالَ عينَيه عن يسوع، وجَّه نَظَره إلى ذاته فَخُيِّل إليه أنّه أصبح إلهًا، إذ اعتقَد أنّه بقوَّته الخاصّة يستطيع أن يسير على المياه، كما سار الربّ يسوع، لذا غَرِق. إنّما مار بطرس، “عندما شكَّ، شَكَّ”، أي عندما شكَّ مار بطرس بِقُدرة الربّ، غَرِق في المياه. – السَّهر بمعنى القيامة من بين الأموات: في هذا النَّص الإنجيليّ، نقرأ: “وعند نِصف اللّيل، علا الصِّياح: “هوَذا العريسُ! فاخرُجنَ للقائه!” فقامَت أولئكَ العذارى جميعًا وهيَّأنَ مصابيحَهنَّ”. إنّ الإنجيليّ متّى استخدم عبارة “قامت” ولم يستخدم عبارة “نهضَت” أو “تأهَّبت” استعدادًا لاستقبال العريس. في كلّ الأعاجيب الّتي قام بها الربّ يسوع وشفى فيها مرضى، نلاحظ أنّه كان يقول لهم: “قُم” لا “قِف”، على سبيل الـمِثال، حين شفى الكسيح قال له: “قُم، احمِل سريرَك وامشِ”.
– السَّهر الّذي سبقَ آلام يسوع في بستان الزيتون: في بستان الزَّيتون، كان الربّ يستعدّ لموته وقيامته من بين الأموات، وقد طلب إلى تلاميذه السَّهر معه، مُرتَجين القيامة. كذلك في العشاء الأخير، نقرأ في النَّص الإنجيليّ أنّ الربّ “قام” عن العشاء وغسَل أرجُلَ تلاميذه. كذلك، في كلّ الأعاجيب الّتي قام بها الرَّسولان بطرس وبولس، كانا يقولان للّذي يتمّ شِفاؤه: “قُم”، وعلى سبيل الـمِثال: “طابيثا قومي”. إنّ كلمة “قُم” في اليونانيّة تعني القيامة، لا الوقوف والـمَشي. لذلك، كان يسوع يقول للّذي ينال الشِّفاء: “إيمانُكَ خلَّصَك”، وليس “إيمانُكَ شفاك”. فإنّه لو كان يسوع يريد فقط أن يُعطي المريض شفاء الجسد، لكان قال للكسيح على سبيل الـمِثال: “قِف، واحمِل فراشَك وامشِ. إيمانُكَ شفاكَ”. إنّ هدف يسوع من الشّفاء الجسديّ، هو خلاص النَّفس، أي خلاص الإنسان. لذا، كان يستخدم عبارة “قُم” ليقول له من خلالها إنّه يدعوه إلى القيامة. “إيمانُكَ خلَّصَك” تعني أنّه بإيمانَك أنتَ خَلُصْتَ، وليس فقط أنتَ شُفيتَ.
إنّ الشِّفاء هو علامةٌ على حصول الأعجوبة أي علامةٌ على إيمان المريض. إنّ الإنجيل الّذي قرأناه الأحد الماضي في الكنيسة البيزنطيّة الكاثوليكيّة، تكلَّم على عَشِر بُرصٍ، وهذا النَّص الإنجيليّ يؤكِّد ما أقوله لكم: إنّ هؤلاء البُرص العَشِر، جاؤوا إلى يسوع طالبِين الشِّفاء. فأعطاهم الربّ ما يريدونه مِن دون أن يلمُسَهم طالبًا إليهم الذَّهاب إلى الكهنة ، وفيما هُم في الطريق نالوا الشِّفاء. غير أنّ واحدًا فقط مِن بينِهم قد عاد إلى الربّ ليَشكره على نِعمة الشِّفاء، فأجابه الربّ عندئذٍ: “إيمانُكَ خلَّصَكَ”، قائلاً له إنّه هو الطريق الّذي يقود إلى الخلاص.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.