“دور المرافِق في كلا الحدث وعبوره”
الخوري لويس سعد،
أنا أشكر حضوركم اليوم، كما أشكر الله على إنتمائي إلى هذه الجماعة الّتي هي بين السّماء والأرض: فالأرض والسّماء في هذه الجماعة تُمسِكان الواحدة بيَد الأُخرى: الأحياء والأموات، كي نكون جميعنا أمام عرش الجلالة. بدايةً، باسم الآب والابن والرُّوح القدس، له المجد إلى الأبد، آمين.
“إجعلني يا إلهي مُرافِقًا على مِثالِك. ضَع على لساني كلماتِ تَعزياتِك. وفي صَمتي تَخرج جميع آهات عبيدِك المتألِّمين والحزانى فتَدخل أنتَ باب قلوبهم، يا راعي الخِراف، وتسكن معهم إلى الأبد، آمين.”
في مسيرة تعرُّفِنا المرافقة، نَضع أمامنا الـمُرافِق الأوّل والعظيم الّذي هو ربِّنا يسوع. ومِن خلال حديثنا اليوم، سنرى كيف كان ربّنا يرافق الأشخاص، ونُسمِّيها مرافقةً لأنّ فيها قوّةَ حضورٍ وفيها ثِمار.
في البداية، عرَفَت البشريّة ما يُسمّى بـ”النَّصيحة”: فَكانوا يقولون إنّ هناك رَجُلاً حَكيمًا يسكن في مكانٍ معيّنٍ، وعندما كانوا يحتاجون إلى نصيحةٍ منه، كانوا يقصدونه ويقدِّمون له جَمَلاً مقابِلَ نصيحته. من هنا، يقول الـمَثل الشَّعبيّ: “كانت النَّصيحة بِجَمَلٍ، واليوم هي بلا مقابِل، ولكن لا أحد يقبَلُها”.
فيما بَعد، تعرَّفت البشريّة إلى ما يُسمّى بالـ “وَسيط”، الّذي كانت النّاس يعتبرونه شخصًا قريبًا من الله، وكان هذا الوَسيط يُشاور الله فيُخبِرُ قاصِديه ما عليهم فِعله، وما هي الأُمور الّتي عليهم التخلِّي عنها.
ومع تَقدُّم الزَّمن، تَعرَّفنا إلى ما يُسمّى بالــ “مُرشِد”. والـمُرشِد هو الشّخص الّذي مِن دُونه لا يَعرِف الإنسان القيام بشَيء، إذ إنّ الإنسان قد اتَّكل عليه للحصول على الإرشاد في مسيرته الأرضيّة. وها نحن اليوم، لا نزال ننتظر مِن الرَّجُل الحَكيم أو مِن الوَسيط، أو مِن الـمُرشد إخبارنا بما علينا القيام به، لأنّه خيرٌ لنا.
ولكن، بعد مَسيرةٍ طويلةٍ جدًّا مع أُمِّنا الكنيسة إضافةً إلى العلوم النَّفسيّة والإجتماعيّة، عادت فيها هذه جميعها إلى قراءة تصرُّفات يسوع في الإنجيل، فتلمّسَتْ خطواتٍ رائعةٍ قام بها أَظهرَت لهم مبادئ المرافقة.
في هذا الوقت القصير الـمُعطى لنا اليوم، وهو وقتٌ أشبه بِمَن يقوم بِتذوّق كلّ أنواع الأطعمة الموجودة على طاولة الغداء، فيتناول القليل من جميع ما هو موجودٌ أمامه. فيما بَعد، سيكون لدينا أربع لقاءاتٍ، سنَدخُل فيها بالتّفصيل في كلّ نوعٍ مِن أنواع المرافقة، كي نتمكّن فيما بَعد من أن نكون مرافِقين إيجابيِّين لا سلبيِّين، ومع الخبرة، يكتَسِب الإنسان نِعَم وبَرَكات من الله، في مرافقته للآخَرين.
إنّ أوّل خُطوةٍ تُطلَب مِن المرافِق: أن يكون حضوره واعيًا وفعّالاً. وهذا يعني أن يكون المرافِق حاضرًا في كلّ كيانه مع الشَّخص المتألّم والحزين. في الكثير من الأحيان، قد يقوم واحدٌ مِنّا بوظيفةٍ معيّنة أو خدمة ما، وباله منشغل بأُمور كثيرة تَعصِفُ في داخله، فيَقوم بِعَمَله وهو يشعر إمّا بالانزعاج أو بالفَرح العارم، ممّا يفقِده الاعتدال في نفسيّته، ويجعله بالتّالي غير قادر على أن يكون حاضرًا للآخر المحتاج إلى حضوره بشكلٍ فعّال.
أمّا الخطوة الثانية الّتي تُطلَب من الـمُرافِق: فهي أن يكون مُنقادًا من الرُّوح القدس. إنّ الرّوح القُدُس هو الّذي يرافِق الإنسان المتألِّم أو الحزين أو الإنسان الّذي يحتاج إلى تغيير وَضعِه. لذلك على المرافِق أن يُدرِك تمامًا أنّه، إن لم يكن رَجُلَ (أو امرأةَ) صلاةٍ، لا يستطيع أن يكون حاضرًا للآخر مُنقادًا بالرُّوح القدس للقيام بِمَهام المرافقة لِهذا الشَّخص الّذي وَضعه الله أمامه.
أمّا الخطوة الثالثة الّتي تُطلَب من المرافِق: فهي أن يكون إنسانًا يسمع وأن يتمتّع بِوُضوحٍ في الاستماع، أي أن يتحلّى بِنِعمة الإصغاء كي يتمكّن، من خلال الكلمات، مِن الشّعور مع الآخر ومواكبته. فَفي عِلم النّفس الإجتماعيّ، نَعلم أنّه لَيسَت كلّ الكلمات الّتي تُقال هي الكلمات الـمُعبِّرة فِعلاً عما هو موجودٌ في القلب؛ فالكلمات الخارجيّة تدلّ على أشياءَ أُخرى موجودة في داخل الإنسان. وطُوبى للّذي يَعرِف مِن خلال الكلمات الصّادرة عن المتألِّم، أن يقرأ ما هو الوجع المدفون في داخله!
أمّا الخطوة الرابعة والأخيرة الّتي تُطلَب من المرافِق: فهي أن يُصغي إلى الله في حياته اليوميّة لتلِّقي المساعدة منه. فالمرافِق الّذي لا يعرف كيف يترك الرّوح القدس يقوده في حياته الخاصّة، لن يتمكَّن من مساعدة الشَّخص الّذي يرافقه على الانقياد للرُّوح القدس.
من خلال هذه العناوين الأربعة، يستطيع الإنسان، إذا اتّبعها، أن يرافق إنسانًا آخر متألِّمًا.
هناك كلماتٌ كثيرةٌ نستطيع قولها لتعزية الشَّخص المتألِّم. غير أنّ هناك وقتًا لا يستطيع فيه أيّ إنسانٍ حزين أو أيّ شخصٍ غارقٍ في مصيبةٍ معيّنةٍ دَفعته إلى الشَّعور باليأس، سماع أيّة كلمة من الآخرين مهما كانت.
في الكثير من الأيّام، نقوم بتذكير هذا الشَّخص الحزين أو المتألِّم، بِاسم ربِّنا ونُكرِّر على مسامعه ما يذكِّره بِعناية ربّنا ومحبّته لنا، في حين أنّ الشَّخص المتألِّم لا يكون قادرًا على سماع أيّ شيء إذ إنَّ قلبَه ممتلئٌ بعِتاب الربّ إذ يسأل الربّ لماذا حلّ به ما أصابه من الألم. لذلك، مِن المهمّ جدًّا ألا يَذكُر المرافِق اسم الله أمام الشَّخص المتألِّم، ولكن عليه أن يُظهِر حضور الله من خلال حضوره أمام هذا الشَّخص الّذي يُرافِقه. هنا قوّة النِّعمة، وهنا تَظهر ثمارُ حياته كشخصٍ يُصلِّي. لذلك من المهمّ جدًّا، أن يكون المرافِق مع المتألِّم، حاضرًا بالقُرب منه مِن دون التفوّه بأيّة كَلِمةٍ، إلّا إذا طُلب إليه ذلك؛ ففي ذلك الموقِف، موقف الألم أو الحزن، تبقى كلّ الكلمات للشَّخص المتألِّم لا للشَّخص المرافِق. فالمرافِق يُصبح كالـمُستَوعب الذي يَرمي فيه المتألِّم كلّ جراحاته وكلّ عِتابه. في قلب هذا الصّمت والإصغاء والحضور الفعّال أمام الشَّخص الحزين والمتألِّم، يتمكَّن هذا الأخير من إخراج كلّ جراحاته الدّاخليّة وملامته وعتَبِه على الله أمام المرافِق. هنا تكمن بطولة المرافِق: حين يتمكَّن من جَعلِ حضورَه جوًّا مناسبًا للشَّخص المتألِّم كي يُخرج من قلبه كلّ ما يُريد رَميه. لقد قيل عن يسوع إنّه أخَذَ جراحاتنا وأوجاعنا وخطايانا، أي أنّنا، بِاللُّغة المحكيّة، قد رَمَينا عنده كلّ أوساخنا. وبالتّالي، على المرافِق أن يكون على مِثال يسوع مستعدًّا لاستقبال كلّ الكلمات الّتي تصدر عن الإنسان الحزين أو المتألِّم: فالمتألِّم قد يتفوّه بالشّتائم وبكلماتِ كُفرٍ كما أنّه قد يصرخ، أو يقوم بِكَسر ما يوجد أمامه.
إنّ المتألِّم يستطيع أن يفعل كلّ ما يريده لأنّ قَلبَ المرافِق مفتوحٌ له، والإنسان المتألِّم لا يستطيع الخروج من وَضعه إلّا إذا قام بإفراغ كلّ ما في داخله، إذ لا يجوز أن يبقى في داخله أيّ شيءٍ بَشِعٍ ومَخفيّ. عندما ننجح في مساعدة الشَّخص المتألِّم على إفراغ كلّ ما في داخله، من دون أن نتفوّه، نحن، كمرافِقِين، بأيّة كلمةٍ، نكون قد ساعدناه على الشَعور بالارتياح بنسبة 50%. سُئل مَرّةً مُرافقٌ، مشهورٌ بحياته الروحيّة القويّة: ماذا قدَّمتَ لهذا الشَّخص الّذي توفِّي كلّ أفراد عائلته وأصبح وحيدًا؟ قال إنّه كان ينتظر هذا الشَّخص كي يطلب إليه كأس ماءٍ ليَشرَب. فَسُئل مرَّةً أُخرى: إذًا، لقد أمضَيت كلّ هذا الوقت معه فقط لتَسقيه كأس ماء؟ أجاب المرافِق: في ذلك الحين، لم يكن هذا المتألِّم بحاجةٍ منِّي سوى إلى هذه الكأس من الماء.
إذًا، المرافِق لا يُملي على الشَّخص الحزين أيَّ شيءٍ، بل على العكس، إنّه يأخذ منه ما يرغب المتألِّم في إعطائه إيّاه؛ وإذا لم يرغب المتألِّم في إعطاء المرافِق أيّ شيء، يقف عندها المرافِق إلى جانب المتألّم، فيكون حضوره كما حضور الربّ في حياتنا في أثناء أزماتنا، حتّى وإن لم نرَه حينها. كم من المرّات، قُلنا بعد اجتيازنا أزمةً معيّنةً في حياتنا، إنّه لو لم يكن الربّ إلى جانبنا لما تمكنّا من تخطِّي صعوباتنا. إخوتي، في مواضيع المرافقة اللاحقة، الّتي سنعالجها معًا، سنرى كيف يسير الله مع المتألِّم والحزين في مساعدته على تخطِّي مِحنته، حتّى وإن لم يشعر هذا المتألِّم بوجود الربّ وحضوره إلى جانبه. عندما نرافِق شخصًا متألِّمًا، قد يفكِّر البعض منّا بما كان سيَفعل لو كان مكان هذا المتألِّم، وكأنِّنا نقوم بعمليّة إطباق؛ وهنا نكون كَمَن يحِبُّ وجبةَ طعامٍ معيّنةٍ معتقدًا أنّ جميع الحاضرين سيُحبّونها لأنّه هو يُحِبُّها. بهذه الطريقة، لا نكون قد أفسَحنا المجال للرّوح القدس بأن يقودنا أو أن يقود هذا الشَّخص أو أن يكون إلى جانبنا في هذه المرافقة. لذلك، مِن المهمّ جدًّا أن نقول للربّ إنّنا لا نَعرِف ما علينا أن نُعطي هذا الشَّخص الّذي وَضَعه بين أيدينا، وأن نعلِن عن جهوزيّتنا كي يُملي علينا ما هو مطلوبٌ إلينا القيام به. إنّ مار فرنسيس الأسيزيّ يقول في صلاته إلى الله: “ماذا تريد أن أصنع يا ربّ؟”.
إنّ المرافِق هو الشَّخص الذي يكون على الدَّوام في إصغائه، في استعداده، وحضوره الفعّال، القَلب المفتوح الّذي ينتظر الربّ أن يُعطيه كلمَتِه في وقتها. في أحد الأناجيل، يقول لنا يسوع: “طوبى لذلك العبد الّذي يُعطي رِفاقه الطَّعام في حينه” (متى 24: 46). إذًا، لِكلّ شيءٍ وقت، فطوبى للّذي يعرِف متى يحين وقت إعطاء الطَّعام للشَّخص المتألِّم، الّذي هو كلمة التعزية أو الخِدمة، أو اللَّمسة، أو الانطباع الإيجابيّ، أو العيون المليئة بالحنان. هنا، علينا كمرافِقين، أن نسمح للرُّوح القدس بأن يكون هو سيِّد المرافقة الّتي نقوم بها. ولكن، في الوقت ذاته، عندما ننتهي من لقاء مرافقة لشخصٍ متألِّمٍ، علينا ألا نطرح الأسئلة على ذواتِنا حول مدى تأثير مرافقتنا على الشَّخص المتألِّم إيجابًا أو سلبًا، لأنّه إذا كانت مرافقتي لهذا الشَّخص ذات تأثير إيجابيّ عليه، فهذا لا يعني أنّ كلّ مرافقةٍ سأقوم بها سيكون لها التأثير نفسه على الّذين يتلقّون المرافقة. في هذا الإطار، يقول لنا الرُّوح القدس إنّ كلّ إنسانٍ هو حالةٌ خاصّة، وبالتّالي لا نستطيع التعامل مع جميع النّاس بالطريقة نفسها، فَلِكلّ إنسانٍ طريقة في التعامل معه. لذلك، مِن المهمّ جدًّا، عندما نُرافِق إنسانًا، أن نطلب إلى الربّ المساعدة كي نتمكَّن من مرافقة هذا الشَّخص لأنِّنا لا نَعرف أيَّ نوعٍ من الطّعام هو بحاجةٍ إليه كي نُعطيه إيّاه، كما أنّنا لا نَعرف متى يجوع هذا الإنسان ويُصبح بحاجةٍ إلى “الطَّعام” لنُقدِّمه له في حينه. علينا أن نطلب إلى الربّ إعطاءنا إشارة عندما يحين الوقت المناسب لتقديم “الطَّعام” للشَّخص المتألِّم في حينه.
إنّ كلمة “مرافِقٍ روحيّ”، تعني أن نُرافِق إنسانًا آخَر من دون الذَّوبان فيه وعدم السّماح له بالذَّوبان فينا، فالمرافقة تعني أن يمشي المرافق مع الشَّخص المتألِّم والحزين، كما يسير شخصان معًا على الطريق نفسه والرِّيح تَفصل بينهما، فلا يلتصقان ببعضهما البعض، من دون أن تكون المسافة بعيدة بينهما. على المرافق ألّا ينتظر نتيجة مرافقته للشَخص المتألِّم، أي أنّه على المرافِق ألّا يتساءل حول فاعليّة مرافقته وتأثيرها على الشَّخص المتألِّم، إذ لا يستطيع الإنسان أن يُقيِّم مرافقته للآخَر بالقول إنّها كانت مُرافَقة ناجحة إن كان تأثيرها إيجابيًّا على الآخر أو القَول إنّها مُرافَقة فاشلة إن كان تأثيرها سلبًايّ على الآخَر. إخوتي، بعد انتهاء لقاء المرافقة، على المرافِق أن يستودِع هذا الشَّخص بين يديّ الله على الدّوام. قَبل لقائي بهذا الشَّخص الّذي يحتاج إلى مُرافقتي، عليّ أن أحمِلَه في صلاتي كما أنّه عليّ أن أطلب إلى الجماعة أن تسندني بِصَلاتها، كي أكون أمينًا لهذه المرافقة. وعند انتهائي من لقاء المرافقة لهذا الشَّخص، عليّ بِصَلاة شُكرٍ للربّ على المرافقة قائلاً له: أشكرُك يا ربّ على هذه الأمانة الّتي أعطيتني إيّاها، هذه الأمانة هي أكبر مني، لذا أطلب إليك يا ربّ أن تساعدني كي أكون أمينًا عليها. أعطِني يا ربّ نِعمة التمييز كي أعرف ما هي الكلمة الّتي كان عليّ التفوّة بها ولم أفَعل، وأعرف ما هو الصّمت الّذي كان عليّ الالتزام به ولم أفعل. وفي قلب التمييز الّذي آخذه بعد هذه الخبرة، يجب أن أَصِلَ إلى خلاصةٍ، فأعرف هل كنتُ مرتاحًا من الدَّاخل عند قيامي بمرافقة هذا الشَّخص، أم أنّني كنتُ أشعر بانقباض عند قيامي بذلك. هل شعرتُ بنجاحي في هذه المرافقة، فاعتدَّت بثقةٍ ذاتيّة أكثر ممّا يجب؛ أم أنِّي شككتُ في نفسي وشعرتُ بالفشل؟ كلّ ذلك من شأنه أن يدفعني إلى أن أستودِع كلّ ما شعرتُ به بين يديّ الربّ، في صلاتي أمامه، وأنتظر منه أن يعطيني الجواب على صلاتي. وكَوني شخصٌ يُصلِّي، فإنّ الربّ سيُعطيني الجواب على صلاتي، فأتمكَّن من التمييز فأستفيد من وقت المرافقة هذه، لأعود في لقاءٍ ثانٍ مع هذا الشَّخص الّذي أُرافقه، لِدَفعه إلى السّير قُدُمًا. في مسيرته مع تلميذَي عمّاوس، تصرَّفَ الربّ معهما كأنّه شخصٌ غريبٌ، ممّا دَفَع التِّلميذان، اللّذَان لم يعرِفاه في بداية لقائهما به، إلى أن يقولا له: “أأنتَ غريب عن أورشليم؟” (لو24: 18).
لقد تصرّف يسوع معهما وكأنّه لا يعلم بكلّ الأحداث الّتي وقعت في أورشليم، إلى حدِّ جَعَل التِّلميذَين يشعران بضرورة إخباره عمّا جرى بالتفاصيل. وعندما حان الوقت للكلام معهما، قام الربّ بوضع الأحداث الّتي جرت بتسلسلٍ مستندًا على النبوءات الّتي دُوِّنَت في الكتاب المقدَّس والّتي تكلَّمت عنه، عن موته و قيامته. وعندما تحرَّك قلبَا التِّلميذين من الدّاخل، غير مُدرِكَين لما يحدث معهما، قام الربّ يسوع بِكَسر الخبز، فأدركا حينها الحقيقة بأكملِها. هذه هي الطريقة نفسها، الّتي علينا استعمالها في مرافقتنا الروحيّة للآخَرين. عندما يَطلُب أحدهما إلينا شيئًا، نظنّ أنّه علينا أن نملك الجواب، لأنّه لدينا المعرفة والثقافة والخبرة؛ وهنا أقول لكم إنّه علينا العودة من جديد إلى هذا المرافِق العظيم ربّنا يسوع المسيح، فنتصرّف مع الآخَر، كما تصرّف هو مع أعمى أريحا. كان أعمى أريحا موجودًا على قارعة الطريق يصرخ إلى الربّ. بالطَّبع، أدرَك يسوع أنَّ هذا الشَّخص هو أعمى، ولكن على الرُّغم من ذلك، سأله يسوع قائلاً له: “ماذا تريدني أن أصنع لكَ؟” (لو 18: 41). كذلك على المرافِق أيضًا أن ينتبه ويترك مساحة حريّة لهذا المتألِّم كي يقول ما الّذي يريده. عندها قال الأعمى للربّ: “أن أُبصِر يا مُعلِّم” (لو 18: 41)، أعطاه الربّ حينها النُّور، فأبصَرَ. إخوتي، علينا، كمُرافقِين، أن نترك مساحةً للرُّوح القدس ليُعطي هذا الشَّخص المتألِّم الّذي نرافقه التعزية والجواب على تساؤلاته.
وشكرًا لإصغائكم إليّ.
شكرًا أبونا لويس على هذه الكلمة الجميلة، إذ قد زرعْتَ فينا الحماسة كي نسمع لاحقًا المواضيع الآتية. وكما قُلتَ من المهمّ جدًّا أن يكون المرافِق صامتًا ومصغيًا إلى المحزون، وألّا يفرض عليه طريقته في عيش الحزن.
الآن لدينا بعض الوقت لطرح الأسئلة، أكان مِن الحاضرين معنا اليوم أو من الموجودين معنا على تطبيق زوم.
- صباح الخير أبونا.
- صباح الخير وقوّاكم الله.
- معكم تريز لحود من رعيّة مار الياس،… إنّ سؤالي هو عن الشَّخص المتألِّم الّذي يكون غارقًا في تجربةٍ مُرَّة. بالطبّع سيُعاتِب ربَّنا، كما قُلتَ في حديثِكَ، كما قد يتفوّه بالشتائم الموجَّهة إلى الربّ. فهذا المؤمن يترجّى أن يتدخّل الربّ في حياته ويضع حدًّا لما يمرّ به. إنّ الإنسان المتألِّم قد يصل إلى نقطةٍ، قد تُسمّى ضُعفَ إيمانٍ أو عدم ثقة بوجود ربِّنا، فيَطرح السؤال هل ربّنا موجودٌ أم لا! هنا، هل يكون هذا الإنسان قد وَقع في امتحان المجرِّب الّذي يريد أن يستخلِص منه مقياسَ إيمانه في حياته؟ شكرًا.
- شكرًا على سؤالِك. إنّ أعظم أمرٍ وأهمّ أمرٍ أعطاه الربّ للإنسانيّة هو الحريّة المسؤولة، فأعطاها نِعمة التّمييز بين ما هو جميل وما هو أجمل.
إنّ الله لا يُجرِّب أحدًا، والله لا يقوم بأيّة تجربةٍ كي يقوِّي أحدهم في الإيمان، أو من أجل إنضاجه روحيًّا. صحيح أنّ الحياة صعبة والتحدِّيات فيها، في الكثير من الأوقات، قد تَكسِرُنا. ولكنّ الربَّ يقول لتلاميذه: “ثِقوا قد غلبتُ العالَم” (يو16: 33). لذلك، إنّ دور المرافِق هو أن يساعد الإنسان المتألِّم على إخراج كلّ ما في داخله. إنّ النبيّ إشعيا يقول في إشارة إلى الربّ يسوع إنّنا قد “ألقَينا عليه إثمَ كُلِّنا” (أش 53: 12)، أي أنّنا ألقَينا على الربّ كلّ أوساخنا، كلّ خطايانا. إنّ ما جاء الربّ يسوع للقيام به هو أن يأخذ عنّا كلّ آثامنا، كلّ خطايانا، وكلّ قَرَفِنا، وحتّى أحزاننا. يقول اللّاهوتيّون: “إن الله كاملٌ، لا يتألَّم في جوهره”. ولكن لأنّ الله محبّة، فإنّه يتألَّم لآلامنا. وهذا يعني أنّه حين نتخبّط بآلامنا، يتخبّط الربّ معنا ويتخبّط لأجلنا، ليس لأنّ عنده نقصٌ بل لأنّه هو كلُّه حُبّ. لذلك، من المهمّ جدًّا أن نعرف أنَّ وقت الصّمت عند الله، هو وقتٌ كي يقوم الإنسان بعقله وبحريـّته، بمسيرة اجتياز لِحزنه بطريقةٍ صحيحةٍ، فيتمكَّن من تخطِّيه بِنَجاح. في أحدى اللّيالي، كانت التّجارب الّتي تَعرَّض لها القدِّيس أنطونيوس الكبير في غاية القسوة، وقد استمرّ في محاربتها حتّى طلوع الفجر، حتّى شعر بالتّعب. وعند طلوع الفجر، شعر بالنّور في غرفته، فأدرك حينها حضور الربّ معه، فسأل القدِّيس أنطونيوس الربّ قائلاً: “هل مِن المعقول يا ربّ، أن تأتي عند طلوع الفجر؟”. فأجابه الربّ: “يا أنطونيوس، أنا كنتُ معكَ طوال اللّيل، أشاهد محاربتك وأستمتع بانتصارك على التَّجارب”. إخوتي، في وقت الألم، يشعر كلّ واحدٍ منّا أنّ الربَّ بعيدٌ عنه إذ يبقى صامتًا. ولكنّ هذا الصَّمت لا يعني أنّ الربَّ بعيدٌ عنّا، فإنّ هذا الوقت هو وقتٌ يَصمت فيه الربّ سامحًا لنا بأن نتغيّر ونتحوَّل، فنتمكَّن من رؤية أمورٍ لم نتمكَّن من رؤيتها سابقًا. إنّ الحياة الصَّعبة ترمي علينا آلامها وتجاربها، والربّ يتلقّانا في وسط صعوبتنا ومحاربتنا لها.
لا أدري إن كنتٌ قد أعطيتكِ الجواب الّذي كنتِ تُريدينه من خلال طرحِك للسُّؤال.
ملاحظة: دُوّنت هذه المحاضرة التي اُلقيت في الاجتماع السّنويّ لِمنسّقيّ ومسؤولي الجماعة في الرعايا بأمانةٍ.