“مريم والكلمة”
بقلم سيادة المطران شكرالله نبيل الحاج،
مقدمة: تُتيح لنا قراءة الإنجيل ولا سيَّما نصوص أعياد السيِّدة العذراء إدراك أهميّة كلمة الله في حياتنا المسيحيّة وفي جماعاتنا الرعويّة والرسوليّة كما أنّها تُعرِّفنا بِعلاقة مريم بالكلمة ومن ثمّ علاقتها بالثّالوث.
كلام وكلمة:
لم يُعلِّمنا الربّ يسوع كلمات وأقوالاً كي نُردِّدها أمام الآخَرين أو ندافع بها عن مواقفِنا ونُبَيِّن صحَّة آرائنا وأَخطاء الآخَرين، بقدر ما كان هو كلمة الله بيننا، ولَنا، وفينا. فالمنادي بالكلمة والطامح إلى زرعها في قلوب السّامِعين، قَبل آذانهم، إبّان حياته التبشيريّة، صار هو، بعد القيامة، كما كان منذ الأزل، وفي البدء، الكلمة الحيّة المزروعة فينا في أذهان المؤمِنِين به.
لقد أدرَكَتْ أخيرًا الكنيسة النَّاشئة، والّتي أَعادت قراءة الإنجيل أو بالأحرى الّتي سَمِعَته مِن فَم الرُّسل وقَبِلَته بفرح، أنَّ مقياس القُربى أو التقرُّب من يسوع أو الابتعاد عنه لَم يَعُد المعرفة الشَّخصيّة بِه أو علاقة اللَّحم والدَّم أو الجِيرَة الحَسَنة، بل الإيمان بالكلمة والعمل بها وحَفظها تبشيرًا وصلاةً. (راجع خاصةً: لوقا 4: 16-30؛ 8: 19-21؛ 11: 27-28؛ 13: 26، إلخ…)
مريم الحافظة للكلمة:
إنّ التقليد المسيحي القديم الّذي يتحدَّث عن دخول مريم إلى الهيكل وعَيْشِها هناك، مِن عُمر ثلاث سنوات، يعني فيما يعني أنَّ العذراء مريم نشأتْ وتربَّت وكَبُرَتْ على سماع كلام الله مِن أَفواه العُلماء، ومعرفته وفَهمه وعيْشِه، فامتلأ كيانها منه، إلى حدّ أنّها جذَبَتْ الكلمة الإله ليَحلَّ في أحشائها، عندما حان الزَّمان، ويتجسَّد منها. أجل، لقد صارت مريم معجونة بالكلمة إلى حدِّ أنّها أصبحت هي كلمة إلهيّة مُعاشة؛ فَصَحَّ فيها قول بولس الرَّسول: لستُ أنا الحَيَّة بل الكلمة الإله هو الحيّ فيَّ! وهكذا نستطيع أن نؤكِّد أنَّ مريم الّتي سَمِعَتْ بشارة الملاك واستقبَلَتْها بإيمانٍ، لَبِسَتْ كلمة الآب الّذي هو جماله وخيره وحُبُّه وصارت عروس الرّوح القدس الحيّة من الآن وصاعدًا، مِن فَيضِه والمغمورة بأنواره، والـمُصانة من كلِّ عيب!
من هنا، تدعونا أعياد السيِّدة العذراء، وأهمُّها عيد 15 آب، إلى اعتبارها بكر الكنيسة وزهرتها الأجمل والخليقة الجديدة التّي تَمسْحَنَتْ وتألَّهتْ بعد أن كانَتْ في علاقة فريدة أوّلاً بالكلمة الّتي سَمِعتها وقَبِلَتها وحَفِظَتها، ثمّ عاشتها وصلَّتها على الأرض، فأشركها الثّالوث الأقدس بمجده وبهاء عظمته وفرَح حياته.
خاتمة: على مثال مريم، كلُّ واحد منّا، مؤتمنٌ على كلمة الله، حارسٌ لها، حاميها وحامِلها للآخَرين. ولكي نقوم بهذه الرّسالة علينا أوّلاً، وعلى مثال مريم، أيضًا، أن نصغي للكلمة أن نقبلها في حياتنا، أن نتأمَّل بها، ألّا نَدَعَ الشوك يَختقها، بل علينا أن نصليها “خارجين” وراء يسوع، متوجِّهين نحو الآب، ومستنيرين بِهَدي الرُّوح القدس، لنُشارِك يومًا مع مريم، بمجد الآب والابن والروح القدس. آمين.