محاضرة للخوري دانيال الخوري،

خادم رعيّة القدِّيسَين عبدا وفوقا – بعبدا.

“مَن سمِعَ كلامي وآمَن بِمَن أرسلني فَلَهُ الحياة الأبديّة” (يو5: 24- 29)

النصّ الإنجيليّ:

“الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكم: مَن سَمِع كلامي وآمنَ بـِمَن أرسَلني فَلَهُ الحياةُ الأبديّة. ولا يَـمثُل لدى القضاء، بل انتقلَ مِن الـموتِ إلى الحياة. الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكم: تأتي ساعةٌ – وقَد حَضَرَتِ الآن- فيها يَسمَعُ الأمواتُ صَوتَ ابنِ الله، والّذِين يَسمَعونه يَحيَون. فَكَما أنَّ الآبَ لهُ الحياةُ في ذاتِه، فكذلكَ أعطى الابنَ أن تكونَ له الحياةُ في ذاتِه. وأَولاهُ سُلطَةَ إجراءِ القضاء لأنَّه ابنُ الإنسان. لا تَعجَبوا مِن هذا، فتأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَهُ جميعُ الَّذِين في القبور فيَخرُجون منها. أمّا الّذِين عَمِلوا الصَّالِحات، فيَقومون لِلحياة، وأمّا الّذِين عمِلوا السَّيِّئات، فيَقومون للقضاء.” المجدُ لكَ يا ربّ!

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

بِاسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

الرّاحة الدائمة أعطِ، يا ربّ، جميع موتانا في هذا الأسبوع المبارَك.

مِن الصَّعب جدًّا أن يتكلَّم الإنسان والهاتف أمامه أو شاشة الكمبيوتر، لكنِّي سأقوم بمجهودٍ للقيام بذلك، آمِلاً في أن تكون وراء هذه الشَّاشة وجوهٌ كثيرةٌ، وإن لم نكن نَعرِف بعضنا البعض، ولكنّنا متَّحِدون برباطٍ وثيقٍ وعميق. 

تحيّةٌ للجميع، وبارَكَ الله فيكم. اليوم، نُكمِلُ مسيرةَ تنشئةٍ ابتدأتْ منذ فترةٍ من الزَّمن، وها نحن في الأسبوع الأخير مِن هذه التأمّلات الإنجيليّة. إنّ هذا النَّصّ الإنجيليّ يمكننا الاستفاضة في شرحه كما يمكننا اختصاره بكَلِمَتَين.

لا أعرف، إخوتي، إنْ كانت الأناجيل السّابقة الّتي تأمَّلتُم فيها، تأتي ضمن إنجيل يوحنّا أو ضمن أناجيل أخرى، ولكن ما أريد قولَه هو أنّ أسلوب الإنجيليّ يوحنّا في الكتابة هو أسلوبٌ غيرُ سَهلٍ ولكنّه عميقٌ.  

في هذا المقطع الإنجيليّ الّذي اخترتموه للقائنا اليوم، أمران واضِحان: أوّلاً، واقعٌ آنِيّ، أي يحدث الآن، إذ نلاحظ استخدام الإنجيليّ عبارة “الآن”؛ وثانيًا، واقعٌ مستقبليّ، إذ نلاحظ استخدام الإنجيليّ عبارة “تأتي ساعةٌ”. إنَّ هذا النَّص يتكلَّم في القِسم الأوَّل منه على دينونةٍ خاصّةٍ آنيَّة، أي على الخلاص الّذي نناله في اللَّحظة الحاضرة الّتي نعيشها؛ كما يتكلَّم في القِسم الثّاني منه على دينونةٍ في المستقبل.

بدايةً، أودُّ أن أتوقَّف سريعًا عند الكَلِمات – المفتاح في هذا النَّصّ. عادةً، عندما يكون النَّصّ الإنجيليّ طويلاً نِسبيًا أو عندما يكون عبارةً عن مَثلٍ، غالبًا ما نسعى إلى تلخيصه بهدف التّركيز على ما هو أساسيّ فيه. أمّا اليوم، فنلاحظ أنّ النَّصّ الإنجيليّ المختار لتأمُّلِنا اليوم قصيرٌ نِسبيًا، لذا سنقوم بشرحه بطريقةٍ عكسيّةٍ، إذ سنتوقَّف عند كلّ آيةٍ منه للتوسُّع في الكلمات المِفتاح، في مسعًى لاكتشاف الآفاق الّتي يفتحها أمامنا.

  • “الحقَّ الحقَّ أقول لكم”: أمام هذا الواقع الّذي نعيشه، يُحذِّرنا البابا فرنسيس مِن الوقوع في النِّسبيّة، تلك الفلسفة الّتي تقوم على اعتبار كلِّ شيء في هذه الحياة نِسبِّي. إنّ كلمة “الحقَّ الحقَّ أقول لكم”، تتكرَّر في هذا الإنجيل على لسان يسوع، وهذا دليلٌ على أنّ يسوع في هذا الإنجيل، يُعلِن لنا حقيقةً ما. إنّ تكرار كلمة “الحقّ” مرَّتين، أو تكرار عبارة “الحقّ الحقَّ أقول لكم”، مرَّتين في مكانَين مُختَلِفَين في هذا الإنجيل، له مدلولاتٌ كثيرة، تُشير إلى أهميّةِ ما يُقال. وهنا أستَطرِد في الكلام لأقول إنّه على أبواب بعض الأديرة، توضَع بعض الكُتب الّتي تتكلَّم على ظهورات الربّ لأحد القدِّيسِين، وَفِيها يتمّ نَقلُ كلام على لسان الربّ، وهنا يكمن الخطر. إخوتي، هذا الأمر نلاحظه في دياناتٍ غير مسيحيّة إذ يؤمنون بكلامٍ مُنزَل مِن عند الله. إنّ هذه الرَّسائل “السّماويّة” لا ترتقي إلى مستوى كلام الربّ في الإنجيل. إنّ الإنجيل لا يمكن مقارنته مع أيّ كتابٍ من الكُتُب في العالم. حين يقول لنا الربّ “الحقَّ الحقَّ أقول لكم”، في إنجيل يوحنّا، فهذا يعني أن يوحنّا قد نَقلَ إلينا حقيقةً سمِعها من الربّ، وهي ثمرةُ خبرة الرُّسل معه، الّتي دامت لِسَنوات.
  • “مَن سَمِع كلامي”: إنّ عبارة “كلامي” قد تُستَبدل في بعض الأحيان بمرادِفٍ لها هو “صوتي”. إخوتي، هناك فرقٌ بين “الكَلِمة” و”الصَّوت”. في بدء إنجيل يوحنّا، نقرأ عبارة: “في البدء كان الكلمة”، والمقصود هنا بعبارة “الكلمة” هو الربّ. أمّا “الصَّوت” فهو يوحنَّا المعمدان، بحَسَب إنجيل يوحنّا. وفي حياتنا اليوميّة، نُدرِك أنّ “الكَلِمة” لها ثِقلُها، قوَّتُها ومدلولاتُها ومعناها؛ أمَّا “الصّوت فَهو مجرَّدُ تعبيرٍ عن “الكَلِمة”. في آيةٍ أُخرى مِن هذا النَّص، نقرأ عبارة “يسمع الأموات صوتَ ابنِ الله”، ممّا يعني أنّ كَلِمةَ الربّ وصَوتَه مستعملان في هذا النَّص للإشارة إلى الأمر نفسه. أمام عبارة “مَن سَمِعَ كلامي” الّتي ورَدت في هذا النَّص، أَرغب في أن أتوقَّف قليلاً عند أهميّة السَّماع. إنّ السّماع هنا لا يعني التَلذُّذ بالإصغاء إلى صوتٍ جميلٍ، بل هو يُشير إلى ما هو أعمق من ذلك، فَهو دَعوةٌ من الربّ لنا. وبالتّالي، فإنَّ عبارة “مَن سمَع كلامي”، تعني مَن يَرغب في سماع كلام الربّ، عليه اعتبارَ كلامِه كلامًا خاصًّا به، سامِحًا له بالدُّخول إلى أعماقه وجَعلِه حَيِّزَ التَّنفيذ في حياته اليوميّة. قد يسمع الإنسان كلام الربّ مِن دون أن يسعى إلى العمل به، وهنا نتذكَّر الـمَثَل الّذي أعطاه الربّ يسوع عن الوَلدَين الّذي سَمع الأوّل منهما كلام أبيه ولم يفعل به، في حين أنّ الثّاني قد سمَع كلام أبيه وعَمِل به. إذًا، سماع كلام الله وَحده لا يكفي لأنَّه يجب على المؤمن العمل على عيش هذا الكلام في حياته اليوميّة. وحين نتكلَّم على سماع كلمة الله يتبادر إلى ذهنِنا مريم ومرتا: فَعلى الرّغم مِن محبَّتها لكَلِمة الله، انهمَكَت مرتا بأمور الضَّيافة، في حين أنّ مريم أُختَها قد أعطَتْ أهميّةً أكبر للإصغاء إلى الربّ فَجلست عند قَدَميه. لقد أدرَكت مريم هذه، أنّها في حضرة الربّ، وبالتّالي أدرَكت ضرورةَ التَّتلمُذ له، لذلك ترَكَت قلبَه يُخاطِب قلبها، وسمَحت لِنَظراته أن تتغلغل إلى أعماق كيانِها. هذا هو الموقف الّذي على كلّ مؤمن أن يتخِّذه عند سماعه كَلِمة الربّ. إنّ عبارة “مَن سمع كلامي”، تُشير إلى أنّ هذا الإنسان الّذي يَسمِع كلام الربّ، قد قَبِل الربَّ في حياته، لذا هو يُصغي إليه، وبالتّالي يسمح لكلام الربّ بالدُّخول إلى أعماقه، إذ قَبِل التَّتلمُذ للربّ. إذًا، السّماع لا يقوم فقط على حِفظِنا لِبَعض العبارات الإنجيليّة الّتي نسمعها، معتَقدِين أنّنا ننالُ الخلاص بتلك الطريقة، مِن دون أن نسمح لها بالدُّخول إلى أعماقنا. إخوتي، إنّ كلام الإنجيل ليسَ كلامًا سطحيًا، بل هو نمطُ حياةٍ على المسيحيّ السَّير وِفقَه. إنّ تكراري لِكلام الإنجيل وسماعي له، لا يكفي كي أنال الوعود الموجودة فيه، فالأمر يتطلَّب ثباتًا في كلام الله الّذي أسمعُه وأقرأُه، إضافةً إلى استمراريّة وقناعة وعيشٍ له. على المؤمن ألّا يسمع كلام الله وحَسْب، بل عليه أن يُصغي إليه بِحُبٍّ وإيمانٍ وتَسليم، وأن يسعى إلى التَّتلمذ له، كما فَعلَت مريم. إنّ الإصغاء إلى كلمة الله لا يعني فقط قراءة الإنجيل وإشعال الراديو أو التِّلفاز، بل يعني أيضًا الإصغاء إلى حضوره مِن خلال صوت الضَّمير الّذي يُنبِّه الإنسان إلى تَدَخُّلات الربّ في حياته، وأيضًا يعني الإصغاء إليه مِن خلال الآخَرين فالربّ قد يكلِّمنا مِن خلالهم. في هذا الإطار، يقول لنا الربّ: “أبي يعمل حتّى الآن، وأنا أعمل” (يو 5: 17). إخوتي، على كلّ واحدٍ منّا أن يسعى إلى الإجابة عن هذا السُّؤال: كيف أستطيع أن أكون في حالة سماعٍ وإصغاء إلى كلمة الله في حياتي اليوميّة؟ في الآيات الّتي تَلي هذا النَّص، موضوعِ تأمُّلِنا، يقول لنا الربّ: “أنا لا أقدِرُ أن أفعَل مِن نفسي شيئًا. كما أسمعُ أدين، ودينونَتي عادلةٌ لأنِّي لا أطلبُ مشيئتي بل مشيئة الآب الّذي أرسَلني” (يو 5: 30). إذًا، الربُّ يسوع، هو أيضًا، يُصغي إلى الآب ويُتمِّم مشيئته. إنّ الربّ لا يطلب إلينا إلّا ما يقوم به، فالربّ هو نموذَجٌ أمامنا، إنّه مِثالٌ لنا عن “آدَم الحقيقيّ”. 
  •  
  • وهنا أعود وأُكرِّر السُّؤال: هل نُصغي إلى صوت العالَم أم أنّ سمَعَنا وتظراتَنا وقلوبَنا موجَّهةٌ إلى سماع كلمة الله وإدراك حقيقته وحضوره في حياتنا؟ في هذه الفترة، قرَّرتُ التوقُّف عن مشاهدة التِّلفاز وبخاصّة التوقّف عن الاستماع إلى نشرة الأخبار، وأنا أشعر اليوم بِرَاحةٍ كبيرة. بالطَّبع هذا شيءٌ مؤلم، ولكن ما أريد قولَه هو أنّه في الكثير من الأحيان نشترك في كلِّ وسيلةٍ نجدها أمامنا كي تَصِلنا notifications عن آخِر مستَّجدات العالَم الّذي نعيش فيه، وهذا أمرٌ طبيعيّ، ولكن السّؤال هو: هل ننجح في إقامة توازن ما بين إصغائنا إلى أخبار العالَم وأخبار السَّماء؟ لِمَن نُعطي اليوم آذاننا؟ هل نُصغي إلى كلِّ notifications، أي كلّ كلمةٍ تأتينا من فَوق، أي من عند الله، الكلمة الّـتي تُحيينا وتُعطينا الحياة، لمعرفة ما الّذي يريده الربّ منّا، في قلب هذه الأزمة الّتي نعيشها، في واقع حياتنا؟ في هذا الإطار، يُذكِّرنا الربّ قائلاً لنا: “الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكم: مَن سَمِع كلامي وآمنَ بـِمَن أرسَلني فَلَهُ الحياةُ الأبديّة”(يو 5: 24). إنّ سماعَنا لأخبارٍ مِن هنا ومِن هناك، مِن شأنه أن يزيد من معلوماتِنا وثقافتِنا، خصوصًا اليوم بوجود audio book، إنّما سماعَنا لكَلِمة الربّ لا تزيدنا ثقافةً روحيّة وحَسْب، بل تُعطينا أيضًا حياةً ليس فقط على هذه الأرض، إنّما أيضًا حياةً أبديّة.

إنّ الكتاب المقدَّس، يُشدِّد على موضوع الإصغاء إلى كلمة الله، وقد اختَرتُ منه بعض الآيات لأُشارِكُكم فيها.

  • في سفر تثنية الاشتراع، أي في التَّوراة، يقول لنا الربّ: “لا نعود نسمع صوتَ الربّ إلهِنا” (تثنية 18: 16)، وفي مكانٍ آخَر “مَن يُقسِّي قلبه” (تثنية 2: 24). إنّ مشكلة الإنسان تكمن في أنّه يريد أن يعيش إرادته وحياته مِن دون أن يسمع لأيّ شخصٍ آخَر. وفي سِفر تثنية الاشتراع، يقول لنا الربّ: “مَن يُعصي كلامي أنا أُحاسِبُه” (تثنية 18: 20).
  • في إنجيل لوقا، يقول لنا الربّ “تنبَّهوا كيف تسمَعون” (لو 8: 18). إنّ الإنسان يسمع كثيرًا، ولكنّ الربّ يطلب إلينا الانتباه لكيفيّة إصغائنا إلى ما نسمع. إنّ الإنجيليّ لوقا يُخبرنا أنّ الشَّعب كان ملتَصِقًا بالربّ إمَّا للحصول على الطَّعام، وإمَّا للإصغاء إلى كَلِمة الله الّتي كان يُعلِنُها لهم. إذًا، فِكرة الاستماع إلى الربّ والتَّتلمُذ له والارتباط به قلبًا إلى قلب والعلاقة الّتي نَبنِيها معه تؤدِّي إلى حياةٍ أبديّة.

في الآية 25 من هذا النَّص، نقرأ: “لا يَمثُل لدى القضاء، بل انتقل من الموت إلى الحياة”. إنّ فِكرة القضاء، تكرَّرت في هذا النَّص الإنجيليّ القصير ثلاثَ مرَّات. في المرَّة الأولى تعني laisser passer، أي أنَّه إذا آمَنْتُم بالربّ، تَنالوا الحياة الأبديّة، أي أنّكم ستُعطَون “تأشيرة مرور”، وبالتَّالي لن يكون هناك مِن جلسة محاكمةٍ لكم. في الـمَرَّة الثانية الّتي تمَّ الحديث فيها عن القضاء يُخبرنا الإنجيليّ يوحنَّا أنَّ الله الآب قد أعطى الربَّ يسوع سُلطةَ إجراء القضاء. وفي المرَّة الثالثة، يقول لنا الإنجيليّ يوحنَّا على لسان الربّ يسوع إنّ الموتى سيَقومون للدَّينونة، أي إمَّا للحياة وإمَّا للقضاء، وهذا يعني أنّه سَتَكون هناك محاكمةٌ لجميع أولئك الّذين قاموا بالسَّيئات. إذًا، في هذه الآية، يقول لنا الربّ: “مَن آمَن بي، انتقل مِنَ الموت إلى الحياة”، أي أنّ المؤمن بالربّ لا يَمثُل للقضاء أو المحاكمة، وإنْ مَثُل فإنّه يَملك “تأشيرة مرور” تُخَوِّلُه الدُّخول إلى الحياة الأبديّة. إنّ عبارة “انتقلَ من الموت إلى الحياة”، موجودة بِكَثرةٍ في الكتاب المقدَّس.

إنَّ الانتقال من الموت إلى الحياة، الّتي تكلَّم عليها هذا النَّص في الآيات 24 إلى الآيات 27، تُشير إلى الوقت الحاضِر إذ يقول لنا الإنجيليّ “تأتي ساعةٌ – وقد حَضَرتْ الآن”. إنّ الانتقال من الموت إلى الحياة، هو حقيقةٌ لاهوتيّةٌ وإيمانيّةٌ، وهو اختبارٌ يعيشه المؤمن في هذه الحياة. إنّ اختبار الانتقال مِن الموت إلى القيامة نَراهُ على سبيل الـمِثال في مَثَل الابن الشَّاطر، إذ نقرأ العبارة التَّالية: “لأنَّ ابني هذا كان ميتًا فعاش” (لو 15: 24). إنّ اختبار الابن الشَّاطر بالانتقال من الموت إلى الحياة كان مِن خلال التّوبة وتغيير طريقة عَيشِه. إنّ الاختبار الّذي عاشه الابن الشَّاطر يمكن أن يكون اختبارَ كلَّ مؤمن لا يزال في هذه الحياة، أي قَبْل انتقالِه إلى ملكوت الله السَّماويّ. قد يشعر الإنسان أحيانًا بأنّه في حالةٍ يُرثى لها وكأنّه مَيْتٌ، ولكن بِنِعمةٍ معيّنةٍ، يشعر بتَغيُّرٍ في داخله وكأنَّ أمرًا ما قد استيقظ فيه، ونَهَضَ من رُقاده وأعاد إليه الحياة. هذا هو اختبار القيامة، اختبار القائم من الموت، وهذا الاختبار لا يستطيع أحدٌ الكلام عليه إلّا إذا اختَبَره.

في الحقيقة، نحن جميعًا نَختبر القيامة في حياتنا في وَمَضاتٍ معيّنةٍ، حين نشعر أنَّ الدُّنيا قد اسوَدَّت وأقفلَتْ أبوابها في وجوهنا، ثمّ في لحظةٍ لا نتوَّقعها، نشعر بقوَّةٍ في داخِلنا تَدفعُنا إلى كَسرِ كلّ الحواجز الّتي تقِف أمامَنا وتَخطِّيها. إذًا، إنّ الانتقال من الموت إلى الحياة ليسَ جائزةً مستقبليّة يَحصل عليها المؤمن بَعد موته الجسديّ، كما يعتقد بعض الفلاسفة الّذين يظَّنون أنّهم يستطيعون السَّيطرة علينا مِن خلال بَثّ أوهامٍ في داخِلنا، دافِعِين إيّانا على تصديقها، ولذلك يجد هؤلاء أنّ المسيحيِّين هُم أشقى النَّاس لأنّهم يُؤمنون بأمورٍ ستَحصل في المستقبل. إخوتي، إنّ المسألة ليست مسألةَ أوهامٍ يُصدِّقها المؤمنون، بل هي مسألةُ اختبارٍ للقيامة لا يستطيع فَهمَها إلّا مَن عاشَها في حياته، فيَتَمكَّن عندها مِن فَهم ما قاله لنا يوحنَّا الإنجيليّ عن الولادة الرُّوحيّة في نصّ نيقوديموس. إنّ الولادة الرُّوحيّة لا تتعلَّق بَعددِ سنين، فالإنسان يستطيع عيش الولادة الرُّوحيّة مهما كان عُمره، إذ يستطيع الانتقال من الموت إلى الحياة الحقيقيّة مع الربَّ.

في هذا النَّص، يُعلِن لنا الربّ حقيقةً، حين يقول لنا “الحقَّ الحقَّ أقول لكم”، وهذه الحقيقة تقول إنّ مَن يسمع كلام الربّ ويؤمن به، ينتقل من الموت إلى الحياة، مِن دون المثول أمام القضاء للمحاكمة. وهذا الانتقال من الموت إلى الحياة يبدأ مِن الآن، أي من هذه الحياة الأرضيّة، إذ يقول لنا الربّ في هذا الإنجيل: “تأتي ساعةٌ وقد حَضَرتِ الآن”. ثمَّ يُصيف الربُّ ويقول لنا إنَّ في هذه السّاعة “يَسمع الأموات صوتَ ابنِ الله، والّذين يسمَعونه يَحيَون”. عند سماعِنا عبارة “يسمع الأموات”، نَطرح السّؤال: ما هو المقصود بعبارة “الأموات”؟ هل “الأموات” هُم أولئك الّذين انتقلوا مِن هذه الحياة، أمْ هُم الّذين لا يزالون في هذه الحياة ولكنَّهم يعيشون كالأموات؟ بالطَّبع، ليس المقصود بعبارة “الأموات” هنا الّذين انتقلوا من بَينِنا إلى الحياة الأبديّة، بل المقصود بهذه العبارة أولئك الّذين لا يزالون في هذه الحياة ولكن لا حياة فيهم، أي أولئك الّذين يعيشون مِن قلَّة الموت. إذًا، في هذه الحياة، يَسمع الأحياء الّذين يعيشون كالأموات صوتَ ابن الله، فَيُترَك الخيار لهم في الدُّخول في هذه العلاقة مع الربّ. إخوتي، إنّ علاقتنا بالربّ ليست مسألة تَدَيُّنٍ وكثرَةِ صلواتٍ نتلوها، وساعاتٍ طويلةٍ نَقضيها في السُّجود للربّ، أو نشاطاتٍ إجتماعيّةٍ وأعمالِ محبّةٍ نقوم بها، فهذه جميعها غيرُ قادرةٍ وحدها على إعطائنا الحياة، إن لم نَكن في علاقةٍ مباشَرة مع الربّ مبنيَّةٍ على الإصغاء له لمعرفة إرادتِه والعمل على تطبيقِها في حياتنا. إنّ هذه العلاقة المباشَرة مع الربّ هي الّـتي تَدفعنا إلى القيام بِكُلّ الأعمال التَّقويّة والاجتماعيّة، فنَعبر من الموت إلى القيامة.

إذًا، إنّ عبارة “يسمع الأموات صوتَ ابن الله، فيَحيون” تعني أنّه إذا كان الإنسانُ غيرَ مهتَّمٍ لِسماع ما يريده الربّ منه، ويعيش حياتَه الأرضيّة بعيدًا عنه تابعًا أمورٍ دنيويّةٍ وطموحاتٍ جذَّابةٍ، فإنّه لن يتمكَّن من الشُّعور بوجود الربّ في حياته، ولذلك لن يتمكَّن مِن الإصغاء إليه. وهنا نتذكَّر ما يقوله لنا الكتاب المقدَّس: “إذا سِمَعتم صوتَه، فلا تُقسُّوا قلوبَكم”. إنّ التَّغيير والتَّوبة والخلاص، بمعنى آخَر، تقريرَ مصيرِنا، يُعطى لنا “الآن”، أي قَبْل انتقالِنا إلى الملكوتِ السَّماويّ: فإنَّ ماضِينا قد عَبَر، ونحن لا نستطيع تغييرَه ولكن يمكننا أن نندم عليه؛ والمستقبل لا نَعلَمُه ولا نعلم إن كان مِن مستَقبلٍ لنا في هذه الحياة، وبالتّالي، نحن لا نملك إلّا الوقت الحاضر، أي هذه اللّحظة الآنيَّة. لذلك، فإنَّ عبارة “تأتي ساعةٌ وقد حضرتِ الآن” هي مُهِمَّة جدًّا مِن ناحية علاقة المؤمن بالربّ، ومِن ناحية حصوله على الحياة الأبديّة، غاية حياتِنا الأرضيّة.

في الآية 26 من هذا النَّص، يُشير الإنجيليّ إلى أمرٍ في غاية الأهميّة، حين يقول لنا: “فَكما أنّ الآب له الحياة في ذاته،كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته”. هذا يعني أنّنا كبَشَرٍ لا نملك الحياة مِن ذاتنا، فنَحن نتلقَّاها من الله، وبالتَّالي نحن معرَّضون إلى فقدانها، ليس فقط بالموت، إنّما في حياتنا اليوميّة أيضًا: فبَعضُ الأشخاص لا يَعرِفون قيمة الحياة، تلك العطيّة الكبرى الـمُعطاة لهم، إذ نَجِدُهم يُقلِّلون مِن قيمتها بِقيامهم بأمورٍ كثيرةٍ تُضِرُّ بِصِحتِّهم، فيَستنزِفون حياتهم. إنّ خيرَ مِثالٍ على ما أقول، هُم أولئك الّذِين ينتحرون فَهُم يقومون بذلك لأنّهم لم يتمكَّنوا من قبول الحياة الـمُعطاة إذ لم يَروا أيَّ جمالٍ فيها يدفعهم إلى مَحبَّة هذه الحياة. في الكثير من الأحيان، للأسف، نفقد هذه الحياة الّتي أُعطِيَت لنا من الربّ بالموت، والموت له أشكالٌ متعدِّدة نَراها في مجتمعنا يوميًّا. في هذا الأسبوع المبارك، أسبوع الموتى، نُصلِّي مع الكنيسة ونَذكُر كلّ الأشخاص الّذين فَقَدوا هذه الحياة الأرضيّة. إنّ الحياة الّـتي أُعطَيت لنا من الله، نؤدِّيها على هذه الأرض، لذا نقول عند وفاة أحدهم، أنّه “أسلَم الرُّوح”، أو أسلَم الوديعة. في هذه الآية، يقول لنا الإنجيليّ يوحَّنا إنّ الله الآب له الحياة في ذاته، فَهو “الحياة”، تمامًا كما هي حالة النَّبع، فالنَّبع لا نُصيف إليه مياهًا لأنّه هو مَصدرُ المياه. إنّ الله الآب، الّذي هو الحياة، أعطى هذه الحياة لابنه يسوع المسيح، وبالتّالي مَن يؤمن بِيَسوع المسيح، تنتَقل إليه الحياة الّتي لِيَسوع. لذلك، يقول الرّبّ عن ذاته: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”. ما يستوقِفنا في هذه الآية، هو تكرار عبارة أنّ الآب له الحياة في ذاته، مرَّتين في آيةٍ واحدة؛ وذلك يُشبر إلى أنّ الحياة هي في جوهر الآب، وفي جوهر الابن، وهما اللّذان يُعطيانِها للبشر. وبالتّالي، فإنّ الإنسان الّذي يَقبل هذه الحياة الـمُعطاة له من الله يَدخل فيها، أي أنّه يدخل في ملكوت ربِّنا، أي في حياته الأبديّة.

في الآية 27 من هذا النَّص، نقرأ: “وأَولاه سُلطةَ إجراءِ القضاء لأنّه ابن الإنسان”. لقد ذُكِرَت هذه الآية مرَّتين، وتكرارها مرَّتين يُشير إلى أنّ الربَّ يسوع هو القاضي، وهو الّذي سيُحاكِم البشر لأنّه “ابن الإنسان”، لأنّه عاش معهم وبَينَهم، فهو يعرف واقعهم. إخوتي، إنّ الدَّينونة لا تأتي مِن فوق على الدَّوام، فَعِبارة “ابن الإنسان” تُشير إلى أنّنا نحن الّذِين نَحكم على ذواتِنا، فدينونتنا تأتي مِن بشريّتنا أي مِن إنسانيّتنا. إنّ الله قد خَلَقَنا للحياة، لا بل تَدَخَّل في حياتِنا ويتدخَّل فيها لأنّه يريد خلاصَنا، ولكن القرار يعود إلى الإنسان في قبول هذا الخلاص والدُّخول إلى الملكوت أو رَفضِه، وبالتّالي نَحكم على ذواتِنا بالموت الأبديّ.

“لا تعجبوا من هذا”: إخوتي، كُلّ ما ورَد قَبْل هذه العبارة، يتكلَّم على العبور من الموت إلى الحياة من خلال الاختبارات البشريّة الّتي نعيشها يوميًا في هذه الحياة الأرضيّة. وكلُّ ما سيَرِدُ بَعد هذه العبارة يتكلَّم على المستقبل، فبَعد هذه العبارة يقول لنا الربّ يسوع: “لا تَعجَبوا مِن هذا، فتأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَهُ جميعُ الَّذِين في القبور فيَخرُجون منها”. إنّ الربَّ يسوع يدعونا إلى عدم الاستغراب ممّا سيَقوله لنا، إذ سيَصعب على الّذِين فَقدوا أحبَّاء لهم في هذه الحياة، ورافقوهم في مشوارهم الأخير، واختبروا اختبار زيارة المدافن والنَّعش الـمُغلَق، تصديق كلّ كلامٍ عن قيامة الأموات. إنّ الربَّ يدعونا إلى عدم الاستغراب من كلامِه ويُذكِّرنا أنَّ ما يقوله لنا هو الحقيقة، من خلال استخدامه عبارة “الحقَّ الحقَّ أقول لكم”. إنّ الربَّ يُخبرنا عن الدَّينونة الأخيرة حين قال لنا: “فتأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَهُ جميعُ الَّذِين في القبور فيَخرُجون منها”. عند سماعِنا هذا الكلام، نَطرح السُّؤال على ذواتنا كبَشَرٍ: ما هو مَصير أمواتنا، الّذين دَفنّاهم، وما هو مصير جميع الأموات الّذين ماتوا منذ بداية البشريّة؟ إنّ ما يُعلِنه لنا الربّ في هذه الآية، هو حقيقةٌ واضحةٌ: “قيامة الأموات”، نادرًا ما تجرّأ الإنجيليّون على الكلام عليها بوضوحٍ. في هذه الآية، يُخبرنا الربّ يسوع أنّه في ساعة الدَّينونة الأخيرة، سيَسمع جميع الّذين في القبور صوتَ ابن الله، فَيخرجون منها. في هذه الآية، يوضح لنا الربّ سبب خروج الموتى من القبور، إذ ستَكون دينونةُ كلّ مَن عَمِل السّيئات في حياته الأرضيّة، وستَكون الحياة الأبديّة لجميع الّذين عَمِلوا الصّالحات في هذه الحياة. إخوتي، نحن نُقرِّر اليوم ما سيَكون مصيرُنا في ساعة الدَّينونة من خلال علاقتنا بالربّ الّتي تمَّ الإشارة إليها في بداية هذا النَّص، من خلال عبارة “مَن سمِع كلامي”. إنّ الربّ يَطمح إلى إقامة علاقة معنا، كما يَطمح إلى الدُّخول إلى قلبنا: فحين أقرِّر الدُّخول في علاقةٍ مع الربّ، أكون قد اختَرتُ العيش معه وبالتّالي الحصول على الحياة الأبديّة؛ وإذا قرَّرتُ العيش بعيدًا عن الربّ في هذه الحياة وأغلقتُ كلّ أبوابي أمامه، فإنّي لن أكون معه في يوم الدَّينونة.

إنّ الآية 30 تُكمِل الآية 28 و29، إذ يَقول لنا الربُّ فيها: “أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا من عندي، بل أحكُم على ما أسمَع”. إنّ الربّ يسوع يطلب منّا الإصغاء إلى كَلِمَته كي ننال الحياة الأبديّة. إنّ الربَّ يسوع يَحكم انطلاقًا ممّا يسمَعه من الآب. لذلك، نلاحظ أنّ الإنجيليِّين في أماكن كثيرة، يُخبروننا أنّ الربَّ يسوع قد ذهب إلى مكانٍ قَفرٍ للصّلاة. إخوتي، إنّ الربَّ يسوع لم يكن بحاجةٍ إلى الصّلاة إلى الله الآب كي يمنحه شيئًا، فالله الآب قد سبَق وأعطاه كلّ شيءٍ. وبالتّالي، مِن خلال الصّلاة، كان الربّ يسوع يحافظ على علاقته بأبيه، المبنيَّة على الإصغاء إليه، والّتي تُعبِّر عن علاقة الوَحدة بينه وبين الله الآب. إنّ ضمير “الأنا”، استخدمه الإنجيليّ يوحنّا سَبع مرّات، على لسان الربّ يسوع: “أنا هو الطريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6)، “أنا نور العالم” (يو 8: 12)، “أنا القيامة”(يو 11: 25)، “أنا الكَرمة الحقّة” (يو 15: 1)، “أنا الراعي الصّالح” (يو 10: 11). وها هو الإنجيليّ يوحَّنا يَنقل إلينا في هذه النَّص، عبارةً وضَعها على لسان يسوع فيها ضمير “الأنا”، فَيقول لنا الرّبّ فيها: “أنا لا أستطيع أن أفعل شيئًا من عندي”، وهذا يعني أنّ الربَّ يسوع ما كان يقوم بأيّ شيءٍ إلّا إذا استوحاه من الآب. 

إذًا، إنّ الرّبَّ يسوع يدعونا في هذا النَّص الإنجيليّ إلى العلاقة الكُليَّة معه. وبالتّالي، إذا أردنا الحصول على الحياة الأبديّة، علينا القبول بالعلاقة مع الربّ، المبنيّة على الإصغاء إلى كلمته المقدَّسة. بمعنى آخر، على المؤمن أن يُعطي وقتًا للإصغاء إلى كلمة الربّ وهمساته، فيُدرِك تَدَخُّلات الربّ في حياته من خلال ضميره والآخَرين المحيطين به. إنّ علاقة المؤمن بالربّ تتغذَّى أيضًا من اللِّيتورجيّة ومن قراءته للكتاب المقدَّس. إذًا، هناك طرقٌ كثيرة تساعدنا على بناء علاقتنا مع الربّ، وما على الإنسان إلّا استخدامها للحصول على الحياة الأبديّة. 

في الختام، خلاصةٌ لكلِّ ما قُلناه اليوم: في هذا النَّص، حقيقةٌ يُعلِنها لنا الربّ من خلال وَضع الإنجيليّ يوحنّا على لسان يسوع عبارة “الحقَّ الحقّ أقول لكم”. من خلال هذا النَّص، يدعونا الربّ إلى الإصغاء إلى كَلِمته لأنّها ضرورةٌ أساسيّة للخلاص وللحصول على الحياة الأبديّة. إنّ الأعمال التقويّة والإجتماعيّة وحدها غير كافية لإعطائنا الحياة الأبديّة، لذا من الضروريّ إقامة علاقة مع الربّ، فهي وحدها قادرة على منحنا الحياة الأبديّة. على المؤمن أن يسعى إلى دَوزَنَة قلبه على قلب الربّ، ليتمكَّن من إدراك مشيئة الربّ لحياته والعمل على تحقيقها. في هذا النَّص، أخبرنا الإنجيليّ يوحنّا، أنّ هناك دينونتَين: الأولى دينونة خاصّة يعيشها المؤمن من خلال اختباراته في هذه الحياة عن الانتقال من الموت إلى الحياة؛ أمّا الدَّينونة الثانية، فهي دينونة العالَم بأجمع عند مجيء الربّ الثاني، وعندها سيكون الجميع قد انتقل من هذه الحياة إلى الحياة الثانية. إنّ مشيئة الآب هي الحياة الأبديّة لجميع البشر: فالربّ جاء ليمنحنا الحياة، ولتكَون لنا وافرة. وشُكرًا.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp