“يسوع الثائر، يشفي ويحرِّر الإنسان”

بقلم الأب جوزيف أبي عون، رئيس أنطش سيّدة التلة دير القمر وكاهن الرعيّة. ر.م.م،

إنّ ما يميّز فترة الصّوم المبارَك عن سائر الأيّام العاديّة التي اعتدتُ فيها ألّا أتناول شيئًا عند الصباح، هو فِعل الإرادة في الصّوم حبًّا بِيسوع الذي صام من أجلي وانتصر لِيَمنَحني إمكانيّة الصّوم والانتصار. لم يَعُد الموضوع مجرّد امتناعٍ عن الأكل والشرب مِن باب العادة، أو تخفيف الوزن على المستوى الشخصيّ، بل صار مسيرةً روحيّةً تجمَعني بإخوةٍ وأخواتٍ كُثرٍ مُنتَشرِين في كلّ أصقاع الأرض، نَصوم معاً، ونُصلّي معاً، فتُفتَح أبواب السّماء وتَفيض النِّعم. ما أجمل زمنَ الصّوم الذي نَعيشه سنويًّا، إذ يُقدّم لي فُسحةَ أملٍ جديدةٍ للسَّير بهدوءٍ والعودة إلى الذّات، والتّوبة، وتغيير المسار، واتّخاذ المقاصد التي تُقرّبني أكثر مِن الربّ ومن الآخرين. 

في هذا السِياق، تأخذنا الكنيسة المارونيّة، في فترة الصّوم المبارَك 2022، من خلال الأناجيل الأربعة في آحاد شهر آذار، في مشوارٍ روحيٍّ غنيٍّ حيث نَكتشف فيها صورة الله الحقّة في الرّحمة والعَطف والحنان تجاه الإنسان. هذا “الله” الذي شوّهتْ صورتَه فريسيّةُ الشريعة، بِسَجنه في أُطرٍ معلّبةٍ جامدةٍ ورَسمِها له حدوداً مع الإنسان المتألّم، يَنتفض بِيسوع، فيَكسر المُقفَل، ويَتحدّى الممنوع، ويَذهب حتّى النّهاية نحو الإنسان، كلّ إنسانٍ.

فَحينَ تمَّ شِفاءُ الأبرص، لم يَأخذ يسوع بِتَمنّي بطرس للذهاب إلى الجموع، بل أَصَرّ يسوع على التوجّه إلى الأمكنة العادية حيث يختبئ الألم بصمتٍ… وحيث استطاعَ الأبرص أنْ يَلتقيه، صارخًا إليه: “إنْ أَردتَ، تقدِر أنْ تُطهّرني”، لِيَنال الشِفاء بِلمسة رحمةٍ منه. (مر 1: 35-45).

وفي شفاءِ النّازفة، رغم أفضليةِ الذهاب لِشفاء ابْنَة يائيرس رئيس المجمع، وقفَ يسوع وأوقفَ معه الجموع لأنّه شعر بــ”لمسة” المرأة النّازفة، فأعطاها الكلام، أصغَى إليها، أحبّها، ومنَحها كلّ وقته ثم أرسَلها شافيةً مِن نَزفها، قائلاً لها: “يا ابنَتي، إيمانُكِ خلّصكِ، فاذهَبي بسلامٍ” (لو 8: 40-56).

وكما ذَهب يسوع بِتحدّيه في بحثِه عن الإنسان الضّال، وإظهاره للفرّيسيّين بأنّ  هذا “الله” يختلِف عن الذي يعلِّمونه في شريعتِهم، أعطى مَثل الابنِ الضّال في ابتعاده عن البيت الوالديّ وانغماسِه في شهوات هذا العالم حتى افتقرَ، وانزوى، وتَقهقر، وصار بين الخنازير الأكثر نجاسةً عند اليهود يَشتهي حتى أنْ يَأكل مِن أكلِها. فما كان غير ممكنٍ عند الفرّيسيّين وتعليمِهم حتى الاستحالة، صار ممكناً مع يسوع، وأضحَت الطريق ممهَّدةً لكلّ ابنٍ ضالٍّ. (لو ١٥ : ١١ – ٣٢).

وأخيرًا، رأى يسوع إيمانَ حامِلي المخلّع، فقد اعتراه الدّهشة والاحترام، ومَنح لِتوّه المخلّع مغفرة الخطايا. ولكي يُبرهِن للفرّيسيّين والكتبة المتذمّرين مِن تصرّفه، بأنّه هو ابنُ الإنسان، وابنُ الله، وعنده سلطان مَغفرة الخطايا، قال للمخلّع: “قُم واحمِل سريرَكَ وعُدْ إلى بيتِك” (مر 1:2-12).

إخوتي وأخواتي في جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الذين تحمِلون في صلواتِكم الأحبّة الذين سبقونا إلى الحياة الأبديّة، يدعونا الربّ يسوع من خلال هذه الأناجيل إلى أنْ نتشبّه بِرحمتِه وعَطفِه وحنانِه، ونثورَ على كلّ ما يجرح الإنسان، ويكبّل حريّته، وأنْ نُرافقه حتّى النّهاية، حتى آخر الطريق، حيث اللّقاء بالقيامة في المجد السّماويّ، واثقِين بِكلام الربّ الذي يشكّل جوهر إيمانِنا المسيحيّ: “مَن آمَن بي وإنْ ماتَ فلَه الحياة الأبديّة” (يو 25:11). صومٌ مباركٌ!

 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp