ندوة روحيّة بعنوان : “الموت: معضلة، رؤية، ممارسة”  

دير سيّدة اللويزة – زوق مصبح، كسروان، لبنان.

الموضوع الأوّل: “النظرة اللاهوتيّة للموت”

كلمة سيادة المطران جورج خضر ، ممثلاً بقُدس الأب أنطوان سليمان،

كُلّفتُ أن أحدثكم في نظرة لاهوتية عن الموت بما هو معضلة. لا يهم العنوان المقترَح. يبقى أن الموت مسألة عند كل البشر بسبب من تمسّكهم بهذه الحياة الدنيا التي بها سيتمتّعون ولاسيما ان أكثرهم يقولون ان الموت حق ولعلّهم يريدون بذلك انه حق الله على الناس. ولكنه في بدء سر التكوين هو عقاب، هو كذلك بعد ان حرم الخالق على جدّينا الأوّلين ان يأكلا من شجرة المعرفة بقوله انكما ان أكلتما منها تموتان. وأكّد ذلك بولس بقوله: »أجرة الخطيئة هي الموت«، بحيث اننا لا نعرف الموت الا بعد الخطيئة وبسبب منها.

اعترانا الموت من معصية وكأن الخلود هو وحده الأصل ولا نعرف الموت إلا بالسقوط. هناك طبعًا لغة البيولوجية القائلة انّ الموت هو حد الحياة اذ لا بد لهذا المختبر الكيميائي إلا ان يتشابك فيه ما ينهي عمله ولو طال العمر ولو امتدّ الأجل أربعين او خمسين سنة بعد أن يسعى الى ذلك الأطباء في السنين العشرات المقبلة. ولكن لماذا يخشى الموت الا النادرون من المؤمنين؟ يقول الرسول: »ان آخر عدو يبطل هو الموت« بمعنى ان الله لا يحوله الى صديق. انت في المسيح تدوسه مثلما داسه المخلص وفق الأنشودة البيزنطية انه »وطئ الموت بالموت«. لم تقل كتبنا ان السيّد استطاب الموت ولكنها تقول انه غلبه، تخطاه في الظفر.

نحن إزاءه في خشية اذ نذكر الخلود الكامن في صورة الله التي فُطرنا عليها. هذه الصورة لم تتصالح وضدها اذ صورة الله فينا لا تزول وهي حاملة طاقة القيامة التي يغعّلها المخلص بالروح القدس ما دعا الرسول ان يقول: »اين شوكتك يا موت؟ اين غلبتُك ايتها الجحيم؟« توقعنا الموت يجعلنا في انتفاضة حتى نصير سماويين وعلى ما قاله بولس ايضًا: »على صورة الترابي يكون الترابيّون وعلى صورة السماوي يكون السماويّون« اي اولئك التائقون الى ملكوت لا يفنى. الموت مسألة لأننا متأرجحون بين ترابيّتنا وسماويّتنا حتى يفنى التراب فينا ونصير على الرجاء كائنات من ضياء حتى يفنى الرجاء في القيامة ويحل ملكوت المحبة. الموت يبقى مسألة او عقدة حتى يزول السؤال بتوقعات ايام وسنين نشهد فيها انهيار الجسد.

في هذا الوجود لنا ميتات كثيرة تشبه الموت الأخير. ولا نريد ان نواجهها الا بيولوجيا ولكن نتروحن ان كنا مؤمنين على انها لمسات إلهية او انعطاف الهي نسمّيه افتقادًا بمعنى ان النعمة تحل على هذا الوجود المكسور والمشوّه. والذائقون لله يلهمهم ربّهم رسالةً في آلامهم الجسدية منها والنفسية ويدنيهم منه بمعرفة مقاصده ان كانوا يستطيعون فهمها. ميتات وتعزيات تتوالى تكسر وتجبر حتى يوضع على أجسادهم ونفوسهم البلسم الأخير. الرجاء هو الى ما بعد رجوع التراب الى التراب وتحوّل كيانهم كلّه الى نور ولا يقرأ الله فيهم الا النور. وبعد ان يذوق الراقدون بالمسيح مرارة الموت يرتشفون كأس الحياة حسب قوله: “لن اشرب من نتاج الكرمة هذه الا ان أشربها معكم ثانية في ملكوت أبي”. وبعد ان تُتلى في نفوسهم الأنشودة الفصحية كاملة: “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.

هذا يقودنا الى القول ان ليس هناك لاهوت الموت كما ليس هناك لاهوت الخطيئة. انت لا تكتب لاهوت النقصان او الفراغ او الضياع. هناك فقط لاهوت النعمة والقيامة من بين الأموات.

لم تهتم الكنيسة الشرقية بالحديث عما تصير النفوس اليه من بعد موت. قالت ان النفوس في الرّحمة وقال القدّيسون النساك أنّ احدًا لا يدخل بجهاده والرحمة وحدها تفتح أبواب الفردوس الى ان تنقلنا القيامة الى المجد لنعاين وجه الله. المهم اننا راقدون مع المسيح وحسب. وهذا خير متكأ. الإنسان يموت في هذه الطبيعة الساقطة ويتعهّده الله ويحتضنه ويبقى ممطِرا عليه رحماته حتى يتجلّى في اليوم الأخير مع المتجلّين. وهذا هو ايضا تجلي الكون بأسره حسبما يعلّم القديس مكسيموس المعترف اذ تلطخ الكون بنا وأخضعه الله للباطل كما يقول الرسول العظيم لكي ينسجم الباطل بالباطل ولا تتنافر الكائنات واذا حرّرنا الرب بنور القيامة يحرر الكون كله به لكي لا يبقى أثر للفساد اذ لا يكون الله كلًا في الكل بمعنى الكتلة البشريّة بل يصير كذلك في الكتلة الكونية. وتنكشف السماء الجديدة والأرض الجديدة كما نقرأ في سفر الرؤيا ونكوّن مع الكون كلّه اورشليم السماويّة الحرّة التي هي أمّنا جميعًا.

غير أن هذا التجلّي لا يتم فقط في اليوم الآخر ولكنه يتحقق على الرجاء في كل لحظة نعيشها في الإيمان وذلك في ارتباطنا الشخصي بالمسيح يسوع. تذكرون حديث السيّد مع مرتا أخت لعازر قبيل بعثه عندما قالت للمخلّص: يا سيّد لو كنتَ ههنا لما مات أخي فأجابها: سيقوم أخوك. فردّت: انا أعلم أنه سيقوم يوم القيامة. قال لها: انا هو القيامة والحياة. فلو كان الرب مكتفيًا بحدوث القيامة الأخيرة لما أجاب بهذا الجواب وهو الذي تكلّم في موضع آخر وفي سياق آخر على القيامة العامة. انما أطلق في حواره مع مرتا مفهوما للقيامة جديدا وهو انه اليوم هو باعث المؤمنين به الى الحياة وهو يريدهم ان يعيشوا فيه او ان يكونوا قائمين لو كانوا فيه او صار فيهم. وهذا ما سيتحدّث عنه بولس كثيرا. عبارة »في المسيح« التي نحتها الرسول او العبارة المقابلة »المسيح فيكم« على اختلاف الصيغ تؤون القيامة فينا حياة جديدة حتى أمكننا القول بناء على النص الإلهي ان المسيح نفسه هو القيامة فيصح استعارتي لقول الحلاج:

انا مَن أهوى ومَن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرتَه واذا أبصرتَه أبصرتنـا
وقال أبضًا:
رأيت ربي بعين قلبي فقلتُ من أنتَ؟ قال أنتَ

وفي اللغة المسيحيّة هذا يترجم ان كياني وكيان المخلّص باتا كيانا واحدا حيا. القيامة العامة اذًا مزروعة فيّ ليس فقط وعدا من الرب ولكن فعلا خلاصيا أعيشه كل يوم بالقداسة.
هذا مؤسَس في قوله: “من يأكل جسدي ويشرب دمي له حياة أبدية”. القيامة التي تحدّث عنها السيّد الى مرتا مضافةً الى الإصحاح السادس من انجيل يوحنا تعني شيئين حسب تعليم اوريجانس العظيم. الأول: ان كلمة الإنجيل هي الخبز اذ بها أصير انا كلمة المسيح كما علّم القديس يوحنّا الدمشقي والأمر الثاني هو الافخارستيا التي أصبح فيها جسد المسيح. واذا عرفنا ان الجسد عند العبرانيين هو الذات الظاهرة هذا يعني ان ذات المسيح باتحاد الحب وفي السر الذي لا يسوغ النطق به تصبح متحدة بذاتي بحيث لا استطيع ان أفرّق بين ما هو منّي وما هو منه. ثم اشربوا منه كلّكم هذا هو دمي يعني فيها الدم الحياة. هذا من العهد القديم والفلسفة العبريّة. حياته حياتي. هذا هو معنى الأكل والشرب في سر الشكر. ولكن يعطينا القديس نقولاوس كابازيلاس معنى مقابلا اذ يقول ان المسيح في المناولة الإلهية يأكلنا ويشربنا.
في هذا السياق أذهلني منذ وقت يسير ما أتت به الليتورجيا البيزنطيّة توّا بعد الاستحالة: »ليكون للمتناولين لنباهة النفس والجسد وكمال ملكوت السموات«. هذه عندي شطحة صوفية من يوحنا الذهبي الفم اذ الملكوت وحدة كمال الذبيحة وانتهاؤها ولكن الذهبي الفم لم يستطع ان يحس الا اننا في شركة هذا السر العظيم بتنا فوق.
بعد الذهبي الفم بقرون يأتي القديس سمعان اللاهوتي الحديث ليقول ان الافخارستيا هي النهار وفي السياق البيزنطي هذا يعني النهار الأخير المعروف باليوم الثامن. كل هذا ناتج عن تصوري ان آباءنا هؤلاء رأوا قياميّة الافخارستية وتاليا غلبتها للموت وعلّموا ان انبعاث أجسادنا انما هو ثمرة الافخارستيّة وهذا ما حفظته رتبة الجنازة عند الموارنة.
وعلى رغم نورانية التعليم عن القيامة علّمنا آباؤنا النساك ما سموه ذكر الموت ناظرين الى الجهاد الذي تلهمنا اياه حادثة الموت التي أمامنا فنصبح بهذا الذكر تائبين. والتوبة توبة الى وجه الآب الذي يقيمنا بمحبّته للابن في الروح القدس الذي يحيي عظامنا كما يقول الكتاب.
لعل اهم عنصر للموت فينا ان أجسادنا تصبح ممجّدة كما صار جسد المخلّص في اليوم الثالث بحيث يحفظ الله ما كان اساسيا في كياننا الأرض ويلبسه النور ونتنزّه عما كان في جسديّتنا ذا وظيفة ارضيّة كالطعام والزواج. كيف نكون نحن ايانا في المسيح نورنا من نوره بلا ذرة من تراب؟ يقول القديسون اننا لا نسير فقط وراء الله ولكن في الله. هذه حركة في السكون كما يقول مكسيموس المعترف ونحن في معيّة القديسين، هذه هي الكلمة الأخيرة التي تدل على انصرام الموت ونصبح كلمة الله المحقّقة ليس بمعنى كلام الخلق الاول ولكن بمعنى الخلق الثاني المتمَّم في المجد. “والموت لن يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع لأن الأمور الأولى قد مضت” (رؤيا ٢٠:٤).
أن تذوق هذه القيامة كل يوم هو ان تكشف أعماق سر الخلق وسر الخلاص وتزيل أثر الموت الى الأبد بقوة الآب والابن والروح القدس الذي لهم معا الإكرام والعزة والسجود الى الأبد.”

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp