ندوة روحيّة بعنوان : “الموت: معضلة، رؤية، ممارسة”  

دير سيّدة اللويزة – زوق مصبح، كسروان، لبنان.

الموضوع الثاني: “رعوية الموت”

سيادة المطران شكرالله نبيل الحاج، راعي أبرشيّة صور المارونيّة،

لفتت انتباهي في جريدة السفير ليوم الثلثاء 9 تشرين الأول 2007 أقوال لجومانة حداد تحدد فيها الشاعرة موقفها من الموت فتقول بما معناه : إنك تواجه الموت بحلٍ من اثنين : إما ان تهرب وإما أن تدجّن موتك، وتضع الكاتبة في مصاف رعوية الهاربين من الموت عشاق المراثي وهواة الدمع والنواح والذين يبحثون عن عزاءٍ أو رجاء أو رأفة وكل الذين يرهبون فكرة الأشلاء وتنفرهم رائحة الدم الطازج… أما هي فتصنّف نفسها بين الذين يجيئون الموت من فوق فلا يشعرون بالدونية تجاهه، ولا يتوقون الى الرحمة وإذا أردت نصيحة منها فهي تشير عليك بأن تأتي الى الموت من المسايفة والتحدي والالتحام بعزرايل بأنك بذلك تقصف عجرفته وتحرمه من التلذذ بخوفك منه، فأنت بذلك تذله وتدعس على رأسه بشراسةٍ وهكذا تصبح ندّاً له فلا تنخدع مطلقاً.

ترى على أيٍّ من الموقفين : الهرب أم المواجهة يجب أن تركز رعوية الموت؟
أعتقد أن الكنيسة لا تجد ذاتها في أي من هذين الموقفين حتى وإن تفهمت عواطف المؤمنين الذين يشيّعون موتاهم بالنواح والمراثي، فصلواتها التي ترافق من خلالها موتاها بعيدة كلّ البعد عن البكاء وسكب العبرات… واذا كان لا بدّ من المواجهة فهي تذهب للقاء الموت متسلحة بصليب ختنها وبموته، تائقةً الى حبه وحنانه، متّحدةً به كمريم المنتصبة على أقدام الصليب وعيناها مشدودتان أبداً الى فجر القيامة.

إن رعوية الموت، على ما أفهم، هي في الأساس مساحةٌ للشهادة على إيماننا بالقيامة وبالحياة الأبدية، كما أنها بامتياز فسحةٌ تتيح للكنيسة البشارة والأنجلة.

أجل يجب أن يكون حدث الموت مناسبة لرعوية مميزة تقودها كلمة الله، فيصغي المؤمنون الى علامات الرب في مجرى حياتهم، محاولين تبني موقف المسيح بالذات أمام موته وعبوره نحو الآب.

من هنا نرى أن الغاية الأولى لرعوية الموت هي التهيئة لمسيرة إيمانية تنطلق من تقبّل الموت، وفترة الحداد التي ترافقه، من خلال إيماننا بالسيد المسيح الذي وحّد حياته بموتنا، وموتنا بحياته فأخذ ما لنا من ضعفٍ ورهبةٍ أمام الحدث ووهبَنا ما له من خلاص وفداء وسعادة أبدية بصحبة العذراء مريم وجمع الأبرار والصديقين.
إنطلاقاً من هذا الموقف الإيماني الأساس، في كل رعوية للموت، ومرافقة للمحزونين هناك معطيات انتروبولوجية وسوسيولوجية يجب أخذها بعين الإعتبار عندما نتحدث عن هذا الموضوع.
في الماضي القريب، كان حدث الموت، مناسبة لإحتفال كبير، يترأسه الميت بالذات. كان المشرف على الموت يستعدّ لهذه اللحظة الكبيرة من مصيره، وهو على فراشه، محاطاً بالأهل والأصدقاء، فينهي كتابة وصيّته، وإملاء إرادته الأخيرة، وبعدها يستقبل المسحة الأخيرة ويتناول القربان المقدس باحتفال مهيب، يشارك فيه الأبناء والبنات والأحفاد وحتى الجيران أو المارة الذين يرافقون الكاهن الذي كان يجيء الى المنزل وهو متوشح بلباس بيعي خاص بالمناسبة تسبقّه جرسةٌ تعلن قدومه، ويصحبه متطوعون يحملون أمامه الشموع. أما هو فيحمل بخشوع ومهابة القربان والصليب وزيت المسحة.

أما إذ طال النزاع الأخير فكان دائماً هناك من يرافق العائلة بالسهر والمؤاساة وإظهار روح التضامن، كل ذلك للتعبير عن الأهمية التي تعطى للموت وللميت معاً… لقد كان المشرف على الموت في كل هذه التقاليد والعادات في قلب الحدث، هو الذي يأمر ويُنهي ويوصي فيُطاع، وهو الذي يزار ويكرّم وكان همّ المترأس للصلاة الجنائزية إكرامه ورثاءه للدلالة على مكانته وأهميته. هذه الأهمية كانت تترجم أخيراً بموكب الجنازة الضخم العابق بالبخور وبصوت تراتيل الشماس عندما تسمح له بذلك النوبة المصحوبة بالرايات والأعلام. وقد كان سبق كل ذلك يوم طويل من الحداد والمراثي وإلقاء القصائد والخطابات والندب… كلّها تجتهد في تعداد شمائل الراحل وشيّمه الفريدة.
أما اليوم فقد انقلبت المفاهيم وتبدّلت، فحُرِِم الميت حتى من أبسط حقوقه. غالباً ما يجري التعاطي معه، كقاصرٍ، فلا يعرف بخطورة مرضه وباقتراب أجله، كما أن العائلة تحرمه غالباً من رؤية الكاهن وقبول أسرار القربان والمسحة والتوبة، لئلا يصاب بالهلع وهكذا يصبح مجيء الكاهن نحساً عليه، والمسحة تذكرة مرور سريعة الى القبر. أضف الى ذلك كلّه إن الإنسان غالباً ما يموت وحيداً إما في المستشفى، أو على أيدي الخادمة، وأحياناً كثيرة عليه أن ينتظر في البرّاد الساعات الطويلة، وإذا نُقل من هناك، فليس ليعود الى البيت الذي أحب، بل الى القاعة العامة الوحشة حيث يسجى والكلّ لاهٍ عنه.

وأحياناً كثيرة يحرّم من العودة الى مسقط رأسه فيُباع له” جارور” لمدّة معيّنة، حسب الدفع، ومن ثمّ تجمّع عظامه، في بئرٍ لا تصل اليها إلا رفوش الحفارين ومجارفهم التي تسارع لجمعها والتخلص منها. وللإزدياد في الغربة والتشرّد، بدأت عادات حرق الجثث تتسرب الى بلادنا وتستهوي العديدين… فهل من رعوية بعد هذا كله؟
نعم على رعوية الموت أن تأخذ كل هذه المتغيرات بالحسبان، فلا يخاف الكاهن مثلاً من التعاطي مباشرة مع العائلة، ومع المستشفى، وحتى مع القائمين على شركة دفن الموتى والحفارين والحارقين… سأتوقف، إذا شئتم، على بعض الأمور التي أراها ضرورية لتأتي رعوية الموت على حسب رغبة الكنيسة.

أولاً – عندما تحاول العائلة أن تجعل من الموت شيئاً خاصاً بها وحدها، فتصادر المشرف على الموت وتغيّب عنه المعرفة بخطورة مرضه ودنوِ أجله، على الراعي ان يأخذ المبادرة ويجتمع بالعائلة ويساعدها على تقبّل حدث الموت بروح ايمانية. من هنا تبدأ رعوية الموت في المستشفى، فيزار المريض ويُمكّن من لقاء الرب والاستعداد لموته، من خلال سماع كلمة الله والمشاركة في الأسرار.

ثانياً : بعد الموت مباشرةً، يستحسن أن ُُُتراَََََفق العائلة في جميع مراحل الإستعداد للجناز وللدفن. لقد تنبّه التجديد الليتورجي الماروني، ووضع الكثير من الصلوات والتراتيل والقراءات، لمرافقة الأهل والمعزّين، فيحرص الراعي على الإستفادة من هذا كلّه، عندما يسجّى الميت، فتعتاد الناس على سماع كلمة الله والمشاركة في الصلاة بدل تبادل الأحاديث على أنواعها.

ثالثاً – تحرص رعوية الموت على إظهار الحدث، للعائلة وللمشّيعين والمشاركين، كعبور الى البيت الأبوي، وليس مطلقاً كمصيبة، أو ضربة من الله، أو نهاية طبيعية للحياة، فيهتم القيّمون على مراسم الدفن بإظهار وجه الموت من الناحية الإيمانية، فلا تطغى على المناسبة التقاليد والعادات الإجتماعيّة البحتة.

رابعاً – بعد المستشفى والقاعة أو البيت، المكان التالي لرعوية الموت هو الكنيسة. هنا يحرص خادم الكنيسة على تهيئة المكان للإحتفال ويسهر على دعوة الجميع للمشاركة في الإحتفال ولا يبقى خارجاً من يثرثر أو يتندّر أو يتكلم بصوت عالٍ للتشويش بقصدٍ أو عن غير قصدٍ.
إن الوصول إلى الكنيسة والإحتفال بالصلاة هو المحطة الأهم في رعوية الموت.

في هذا المكان تحرص الكنيسة على اسماع انجيل الحياة للحاضرين واشراك الجميع في كلمة الخلاص والصلاة. أما المحتفل، فيحرص على أن تكون العظة، حاملةً بشرى المسيح للمناسبة فتجيء مفهومة من المؤمنين وغير المؤمنين الذين قد يشاركون في التشييع. هذه العظة تتضمن فيما تتضمن المعنى المسيحي لحدث الموت وكلمة الرب للعائلة، وقرب الجماعة المسيحية من المحزونين. إن الكنيسة في احتفالها الطقسي بالموت تبقى مؤتمنة على رسالة أكبر منها، كما أنها تبقى في كل أعمالها خادمة لكلمة، مؤتمنة عليها، وقريبة كل القرب، من الذين يتجرعون كأس الموت المرة.

خامساً : في بلادنا، غالباً ما تتغلب التقاليد والعادات الإجتماعية على المواقف الإيمانية. من هنا تحرص رعوية الموت، على جعل هذا الحدث، مناسبة للتقرب من عائلة الفقيد ولقائها، للإضاءة على معنى الحياة والموت من خلال كلمة الرجاء التي زوّدنا بها الرب. فيحرص الراعي على شخصنة الحدث وكل ما يرافقه دون أن يستسلم للتقاليد والعادات، ان كان اثناء التشييع او في فترة الحداد، حيث يبقى على اتصال بالمحزونين ليذكرهم بالتقاليد المسيحية العريقة وبضرورة اقامة الصلوات وقراءة الإنجيل، ومقاربة الحدث باستمرار من خلال ايماننا ومعتقداتنا.
إن الأمكنة (البيت، والكنيسة، والمقبرة) والأزمنة (قبل التشييع وبعده وخلال فترة الحداد) كلها مساحات ومجالات، للبشارة، والمرافقة والصلاة… يعرف أن تستفيد منها رعوية الموت لتلقي الضوء المسيحي على الحدث.

سادساً – أمام حدث الموت، كلّنا فقراء، وأكاد أقول، أننا بدون حيلٍ أو سلطة، من هنا يهم الكنيسة ان تظهر بمظهر العطف والحنان والقرب من جميع المحزونين. كما أنها تبدي لهم في فترة الحداد روح التضامن والصداقة والحُسنى. فهي تعرف قبل غيرها أن الميت الحقيقي ليس من يختفي عن الأنظار بل من يغيب ذكراه. وإن المحزون الحقيقي هو الذي تنساه الجماعة، لذلك تراها دائماً بالقرب من الجميع وحاضرة الى الجميع علّها بذلك تعوّض عن فقدان العزيز الغالي. هذا الحضور والرفض للنسيان، يعبّر عنه الطقس البيزنطي بعبقرية نادرة، إذ ينهي دائماً صلواته الجنائزية بصرخة ايمانية فريدة، ويردد على لسان الجماعة الحاضرة : فليكن ذكره مؤبداً، إنها صرخة الرجاء الكبرى أمام الحدث الأكبر، أمام الموت…


خاتمة :
يبقى أن نشير أخيراً أن مرافقة موتانا ومؤاساة عائلة الفقيد وكل ما ذكرناه عن رعوية الموت، كلّ ذلك لا ينتهي مطلقاً مع جناز الأربعين أو في ختام فترة الحداد. نحن نؤمن أن هناك، شركة القديسين، حيث الذكر المؤبد لموتانا.
ان شركة القديسين، والتي تتأصل في تعبير العهد الجديد، في كلمة “كونيونيا”، التي تفيد عن وحدة الإيمان في الإحتفال الإفخارستي، تعبّر أيضاً عن توحّد المسيحي بالمسيح، وعن توحّد المسيحيّين فيما بينهم.

إن القديسين الذين هم قبل كل شيء أعضاء شعب الله المقدس، يتوحدون في الروح القدس، في نعمة التبرير ، وفي المحبة كما وفي تتميم الأسرار، والإفخارستيا على رأسها. هؤلاء يصلّون بعضهم من أجل البعض، ورأس الصلاة، هو القداس الإلهي. وانسجاماً مع هذا كله، فإنّ شركة القديسين تضم أيضاً الوحدة مع من سبقنا بالموت. (راجع 2 مكابين 12/42-45).
لذلك تذّكر الكنيسة باستمرار بهذه الحقيقة، وهي في صلواتها وفي إفخارستيتها لا تنسى مطلقاً موتاها، حتى لو نسي ذلك الجميع أو تناسوا. والكنيسة التي تجتهد امام حدث الموت، بأن تظهر من خلال الكلمات والأعمال الليتورجية بأن دعوة الإنسان الأصلية إنما هي دعوة للحياة الجديدة المهيأة له ولكلّ البشرية بفضل فصح المسيح، تحرص دائماً أن تعيش في الرجاء.
والكنيسة العائشة.في الرجاء والشاهد على مواعيد الله التي لا ُتخيِِب ، لا تبرح تردّد من خلال صلواتها التي هي لبّ رعوية الموت وعلى الرغم من هول الموت ووحشته.

طاب جُرح الموتِ لما ربُ الموتِ ذاقَ الطعما ….. آمين

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp