ندوة روحيّة بعنوان: “الموت: معضلة، رؤية، ممارسة”
دير سيّدة اللويزة – زوق مصبح، كسروان، لبنان.
الموضوع الثالث: “الموت: معضلة، رؤية، ممارسة”
قدس الأباتي سمعان أبو عبدو،
لا شكَّ في أَنَّ للموتِ حَسْرةً بَشَرِيَّةً لا نَسْتَطيعُ حِيالَها أَنْ نَحْبِسَ الدموعَ في العيونِ. نحنُ نبكي، الكُلُّ يبكي حتّى إِنَّ المسيحَ بَكى وذَرَفَتْ عيناهُ دَمْعاً وحسرة. (لو19/41 ).
أَمَّا، علامَ نبكي؟ ولماذا نبكي كُلَّما حَصَلَ فِعْلُ مَوْتٍ؟ فهناك أكثَرُ من سَبَبٍ وجوابٍ: أحياناً نبكي تحسُّراً أو فُقداناً. وأحياناً نبكي ألَماً وضُعفاً، شوقاً وحُبّاً. لأنَّهُ بِفِعْلِ الموتِ وانفِصالِ النَّفسِ عنِ الجَسَدِ يَتِمُّ الفراقُ البشريُّ. أمّا السَّبَبُ الأكبرُ لبُكائِنا فَيَكْمُنُ في السّؤالِ الكبيرِ الذي غالِباً ما يَسْكُنُ أعماقَنا ولا نُجاهِرُ بِهِ: إلى أَيْنَ تَذْهَبُ هذهِ النَّفسُ. وَهُنا نبكي إمّا خوفاً على هذهِ النفسِ، التي نحبُّ صاحِبَها، من نارِ الجحيم، وإمّا لأَنَّنا نَجْهَلُ فِعْلاً مصيرَها، وهذا ما يَعْكِسُ قِلَّةَ إيمانِنا ورجائِنا وعدمَ قناعَتِنا بالخلودِ والقيامة.
عِندما كنتُ صغيراً، كنتُ أتساءَلُ، كما أَتساءَلُ اليومَ: لماذا نحنُ نُصلّي مِن أجلِ موتانا؟ ولماذا نطلبُ إلى اللهِ قائلينَ: “الراحةَ الدائِمةَ أَعْطِهِمْ يا ربُّ، ونورُكَ الأزليُّ فليضِىء لَهُمْ”. لماذا ندعو لهم لكي يستريحوا بسلام؟
في عيدِ تذكارِ الموتى الذي نحتَفِلُ به كُلَّ عامٍ، تعودُ إلى أَذْهانِنا الحقائِقُ الأَساسيَّةُ المرتبِطَةُ بالحياةِ والموتِ، بالخلاصِ والهلاكِ في ضَوْءِ الإيمانِ. تُرى، هل هي مأساةٌ تقضُّ مضجَعَ الإنسانِ؟
إِنَّ الإنسانَ، في محنَتِهِ، يَجِدُ في قيامةِ المسيحِ نوراً جديداً يُساعِدُهُ على شَقِّ طريقٍ وَسَطَ الظّلامِ الكثيفِ، ظلامِ الشكِ والفَشلِ، الألمِ والمرضِ. وهنا نسأَلُ: هل هناكَ اسْتعدادٌ لملاقاةِ المَوتِ ومشاهَدَةِ وَجْهِ الربِّ؟
هلِ المُشْكِلَةُ هي في اِلتِزامِنا الإِنسانيِّ تجاهَ ذواتِنا وتجاهَ الآخرِ، حتّى لا نَسْمَعَ هذا التّأكيدَ الإنجيليَّ: “إِنْ كانوا لا يسمعونَ لموسى والأنبياءِ، ولا إِنْ قامَ أَحَدُ الموتى يصدِّقوه” (لو16/31).
وهنا يحضُرُنا سؤالٌ جديدٌ: تُرى ما هو هذا الشخصُ الإِنسانيُّ؟ ما سِرُّهُ؟ وما حكايتُه مَعَ الموتِ؟
إِنَّ الشخصَ الإِنسانيَّ ثُنائِيٌّ في مقوِّماتِهِ، هو امتدادٌ إلى أعماقِ الأرضِ بجذورهِ الماديَّةِ الكثيفَةِ، وهو امتدادٌ إلى فَضاءِ السَّماءِ بأغصانِهِ الروحيَّةِ رافِعَةً إيّاهُ إلى اللاّنهايةِ في الكمالِ والخلودِ.
إِنَّ عالَمَنا يعيشُ اليومَ صراعاً عَنيفاً قائماً بينَ تجسيدِ الرّوحِ وَرَوْحَنةِ الجسَدِ. وهُمْ كُثُرٌ أولئِكَ الذينَ لا يؤمنونَ إلاّ بالوجودِ المرئِيِّ، معَ أَنَّ اللاّمرئيَّ يُقَيِّمُ المرئِيَّ وَيُحييهِ، فيبقى في مرحلةٍ احتضاريَّةٍ يكتنِفُها الحيرَةُ والقلقُ والتشاؤمُ أحياناً، إلى أَنْ يحدِّدَ مصيرَهُ بِيَدِهِ بإِعطاءِ الأَولويَّةِ للرّوحِ.
جاءَ في العهدِ القديمِ، وفي سِفْرِ التكوينِ تحديداً: “وجبلَ الرَّبُّ الإلَهُ الإنسانَ تُراباً من الأرضِ وَنَفَخَ في أَنفِهِ نَسْمَةَ حَياةٍ” (تك 2/7).
أنَّ نسمةَ الحياةِ الوارِدَةَ في النّصِّ، هي ما نُسَمّيهِ مبدأََ حياةٍ أَو النَّفْسَ.
ونقرأُ في السِّفْرِ نَفْسِهِ إِنَّ اللهَ خَلَقَ الإنسانَ على صورتِهِ: “لِنَصنَعِ الانسانَ على صورَتِنا كمثَالِنا” (تك1/26-27). فإذا كانَ الإنسانُ على صورةِ اللهِ، فينبغي أَنْ يكونَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُما الروحَ، إِذْ إِنَّ الروحَ مَحْضٌ، فلا بُدَّ أن يكونَ الإنسانُ إذاً روحاً على صورةِ اللهِ. ولأنَّ روحَ اللهِ بسيطٌ، غيرُ مُرَكَّبٍ، قائمٌ بذاتِه، خالدٌ، لا يعتريه إعلالٌ ولا فناء، فَنَفَسُ الانسانِ إذاً على شاكلةِ روحِ اللهِ خالدةٌ.
وَيُذَكِّرُ سِفْرُ الجامعةِ الإنسانَ بواجِبِ الّتقوى في أَيَّامِ الشّبابِ قبلَ أََنْ يَدْهَمَهُ الموتُ، ثُمَّ يخلُصُ إلى القَوْلِ: “فيعودُ التّرابُ إلى الأرضِ حيثُ كانَ ويعودُ الروحُ إلى اللهِ الذي وهبَهُ” (جا 12/7). فَسِفْرُ الجامعةِ يؤكِّدُ إذنْ أَنَّ في الإنسانِ عُنْصُرَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ: عُنصراً مادّياً وعُنصراً روحيّاً أو لا مادِّياً. فبإِمكانِ الإنسانِ إِذَنْ أَنْ يُتابِعَ الحياةَ بعدَ الموتِ.
وفي العهدِ الجديدِ، يقولُ المسيحُ لتلاميذِهِ: “لا تخافوا ممَّنْ يَقْتُلُ الجسَدَ ولا يستطيعُ أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ، بلْ خافوا مِمَّنْ يَقدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفسَ والجَسَدَ في جَهَنَّمَ” (متى 10/28). فالسّيِّدُ المسيحُ يميِّزُ إذنْ وبصَراحَةٍ أنَّ في الإنسانِ، عُنْصُرَي الجَسدِ والرّوحِ.
وحينَ يتكلَّمُ لوقا على قيامةِ ابنةِ يائيرس يقولُ: “أَمْسَكَ يسوعُ بِيَدِها ونادى قائِلاً: “يا صبيَّةُ قومي، فَرَجِعَتْ روحُها وقامتْ في الحالِ، فأَمَرَ بأَنْ تُعطى طعاماً” (لو 8/55). فلوقا يُشيرُ إذَنْ إلى أَنَّ الرّوحَ- العُنْصُرَ الكِيانِيَّ المُتميِّزَ عن الجَسَدِ- عادَتْ إلى الصبيَّةِ، بأَمْرٍ من الرَّبِّ.
ونقرأُ في الإِنجيلِ أيضاً: “الحقَّ أقولُ لكَ إِنَّكَ اليومَ تكونُ معي في الفِرْدَوْسِ” (لو 23/43). إِنَّ جَسَدَ اللّصِّ يموتُ بعدَ قليلٍ من الزَّمَنِ، ومعَ ذلك فإنَّ يسوعَ يؤكِّدُ له بأنَّهُ سيحيا مَعَهُ في الفِرْدَوْسِ. فَنَفْسُ هذا اللّصِّ إذاً، وعلى الرَّغْمِ من انْحِلالِ جَسَدِها، بمقدورِها أَنْ تُتابِعَ الحياةَ وتعيشَ معَ المسيحِ.
وبولُسُ يَكْتُبُ لأَهْلِ كورنتُسَ: “ونحن نَعْلَمُ أَنَّهُ إذا هُدِمَ بيتُنا الأرضيُّ، وما هو الاَّ خيمة، فَلنا في السموات مسكِنٌ من صُنعِ الله، بيتٌ أبديٌ لم تَصْنَعْهُ الأيدي”(2كو5/1). هذا البناءُ الذي شيَّدَهُ اللهُ، والذي لم تَصْنَعْهُ الأيدي هو عُنْصُرٌ حياتيٌّ غيرُ الجَسَدِ-بيتِ المَسْكِنِ الأرضيِّ- الذي يُنْقَضُ ويعودُ إلى التُّرابِ.
وَبَعْدَ، فَإِنَّ الإنسانَ حُرٌّ، والحريَّةُ وحدَها تجعَلُ الإِنسانَ كائناً أدبيّاً مسؤولاً وجديراً بالتّقديرِ والثّناءِ في حالِ قيامِهِ بالواجِبِ والرّسالةِ والمتاجَرَةِ بالوَزْناتِ المُعْطاةِ لَهُ، أو مستحقّاً الخِزْيَ والعارَ في حالِ المخالفةِ والتمرُّدِ والبُعدِ عن اللهِ.
وردَ في سِفرِ تثنِيَةِ الاشتراعِ ما يلي: “إِنّي أَشْهَدْتُ عليكُمُ اليومَ السَّماءَ والأرضَ بأَنّي قد جَعَلْتُ بينَ أيْديكم الحياةََ والموتَ، البَرَكَةَ واللّعْنَةَ، فاخْتَرْ أَيُّها الإنسانُ الحياةَ لكي تَحْيا أََنْتَ وَذُرِّيَتُكَ” (3/1).
وفي العَهْدِ الجديدِ قالَ يسوعُ للشابِّ الغَنيِّ “إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلُ الحياةَ فاحْفَظِ الوصايا” (متى 19/17). الإنسانُ مُقَدَّرٌ له الاختيارُ، واللهُ سَيُحاسِبُهُ بموجَبِ اختيارِهِ. وَكُلُّ شَيْءٍ سَيَتَغَيَّرُ وَيَنْقَلِبُ إِذا حَمَلَ الإنسانُ في قَلْبِهِ أَمَلَ الخُلودِ، والخلودُ هو للنَّفْسِ بعدَ الموتِ دوامُ الحياةِ لها. ولا يُعطى الجزاءُ الخالِدُ إلاّ لمَنْ كانَ خالِداً. وفي كُلِّ الأحوالِ، فإِنَّ الإنسانَ سَيُجزى بجزاءٍ خالِدٍ في النَّعيم أو في الجحيم.
وماأَكْثَرَ أقوالَ الإنجيلِ في هذا الإطارِ:
“من أْكَلَ جَسدي وَشَرِبَ دمي، فلهُ الحياةُ الأبديَّةُ” (يو 6/54). “لأنَّ الذي يُريدُ أن يُخَلِّصَ حَيَاتَهُ يَفقِدُها، وأمَّا الذي يَفقِدُ حَيَاتَهُ في سبيلي فإنَّه يَجِدُها” (لو16/25). “فَيَذْهَبُ الأشرارُ إلى العذابِ الأبديِّ، والأبرارُ إلى الحياةِ الأبديَّةِ” (متى 25/46).
إِنَّ اللهَ خلقَ كُلَّ شَيْءٍ لمجدِهِ وتمجيدِه، لكنَّ الإنسانَ العاقِلَ الحُرَّ هو الكائِنُ الوحيدُ الذي بمقدورِهِ في هذا العالَمِ أن يمجِّدَ اللهَ بمعرفَةٍ وحرّيَّةٍ، حيثُ نُدْرِكُ أَنَّ اللهَ لا يُفْني النّفْسَ البشرِيَّةَ، إِذ إِنَّ عَمَلاً كهذا يُعاكِسُ حِكْمتَهُ وصلاحَهُ وصدقَهُ وعدالَتَهُ.
ختاماً، وبناءً على ما تقدَّم، وعوداً على بدءِ، نَفْهَمُ أَنَّ مُعْضِلَةَ المَوْتِ تنكَشِفُ وَتَسْقُطُ إذا ما كانَت حياتُنا رؤيويَّةً بِحَيْثُ نرى آخِرَها وَنَحْنُ بَعْدُ في أَوَّلِها. ويصبِحُ الموتُ أمراً طبيعيّاً سَهْلاً تَقَبُّلُهُ إذا ما مارَسْناهُ ونحنُ أحياء، أيْ إِذا ما عِشْنا حَياتَنا وَمَوْتَنا في آنٍ مَعاً.
حَسْبُنا أن نكونَ مستعدِّينَ في حياتنا على الارضِ، وفي نورِ قيامةِ المسيح، لبلوغِ اللقاءِ والقيامةِ.