الرياضة السنويّة 2018 بعنوان: “لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” (مر 2: 1-12)    

دير سيّدة البشارة للروم الكاثوليك، واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل، كسروان.

الموضوع الأوّل: “فرح العبور”

الخوري جوزف سلوم،

عند مشاركته في رياضةٍ روحيّة، يترك المؤمِن خارجًا كلّ التزاماته الدنيويّة، رغبةً منه في تجديد التزامه بالربّ في هذا اليوم الروحيّ. لذا يتوجَّب على المؤمِن أن يحاول الإجابة على هذين السؤالَيْن: أين أنا مِن مسيرتي على هذه الأرض؟ وإلى أين أريد الوصول في نهايتها؟ إنَّ أصعب رحلةٍ يقوم بها الإنسان، هي رحلتُه إلى أعماقِ ذاته. في هذه الرياضة، أشجِّعكم إخوتي، على الغوصِ في أعماق ذواتكم مِن دون خوفٍ، لتَكتشفوا جراحاتكم فتضعوها أمام الربّ. 

على المؤمِن أن يُحدِّد الهَدَف الّذي يصبو إليه في هذه الحياة، فيتمكّن مِن تَبَنِّي مبادئَ روحيّة تساعده على تحقيق هدفه مُتخَلِيًا عن كلِّ مشاريعه الأرضيّة الزائلة. في أَحدِ كُتُبه، روى لنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر قصّةَ مُهرِّجٍ اشتهر بقُدرَته على زرع الابتسامة على وجوه زائري السِيرك. وفي أحد الأيّام، شَبَّ حريقٌ في هذا السيرك، فذهب المهرِّج ليطلب النَّجدة من أهل تلك القرية، ولكنّ أحدًا مِن أهل القرية لم يُصدِّقه، إذ يعلمون أنّه يعمل كمهرِّج، واعتقدوا أنّ ما يُخبرهم به هو كلامُ تهريجٍ. هذا ما نختبره يوميًّا في حياتنا، إذ يعتبر الآخرون أنّنا مُهرِّجون، إذ إنّ تصرّفاتِنا لا تعكس ما نبشِّر به.

إنّ رسالة الصّوم الّتي أطلقها قداسة البابا فرنسيس لهذه السنة هي بعنوان:”فرح الحقيقة”، وقد أطلق في السَّابق عدّة رسائل بابويّة منها “فرح الإنجيل”، و”فرح الحبّ” للمتزوِّجين. إذًا، إنّ البابا فرنسيس يدعونا، ومعه الكنيسة جمعاء، إلى اختبار الفرح، لذا قرّرتُ أن يكون موضوع حديثي معكم هو: “فرح العبور”، ويتألَّف هذا الحديث مِن مقدِّمة عن مفهوم الصّحراء؛ ثمّ يُقسَم حديثي إلى قِسمَين: في القسم الأوّل أعرِض لكم ثلاثةَ أحداثٍ مِن العهد القديم مِن شأنها أن تساعدنا على فَهْمِ معنى العبور، وفي القسم الثَّاني أعرِض لكم ثلاثةَ أحداثٍ مِن العهد الجديد، للهدف نفسه؛ وأختم حديثي معكم بعرضِ لائحةٍ مِنَ الأمور العمليّة اليوميّة الّـتي تساعدنا على عيش عبورنا بفرح مِن هذه الحياة صوب الربّ.

إنّ الصّحراء هي مكانٌ يفتقد لأبسط مقوّمات الحياة الأساسيّة، لذا لا نجد فيها لا نبات ولا حيواناتٍ أليفة بل بعض الحيوانات المفترسة، كالأفاعي والعقارب؛ ولهذا السَّبب أيضًا، لا يسكنها البشر. إنّ الصّحراء تتَّسم بالصمت والهدوء. لا يمكن للإنسان أن يجد في الصّحراء أيَّ دليلٍ يُرشِده إلى الطريق، وبالتّالي فإنّ مسيرته فيها هي مسيرةٌ صوب المجهول. تتَّسِم الصَّحراء بجوٍّ حارٍ في النّهار وباردٍ في اللِّيل. في الصّحراء، يختبر الإنسان الجفاف بسبب عدم وجود المياه، كما أنّه قد يتعرّض لبعض المخاطر، فيختبر الخوف والقلق. في الصّحراء يجد الإنسان نفسه وحيدًا، مِن دون سندٍ، فيختبر ضرورة الاتِّكال على الله والثِّقة به، فيُصلّي إلى الله طالبًا منه المساعدة قائلاً: “تعال يا ربّ، أسرع إلى نجدتي. ساعدني لأَعْبُر هذه الصّحراء بفرحٍ مُتخطِّيًا كلّ صعوباتها”.

إنّ الصّحراء في الكتاب المقدَّس هي مكانٌ للعهد بين الله وشعبه، فَفِيها اختبر الشَّعبُ القديم وجودَ الله وعنايتَه، وفيها صام الربّ وصلّى إلى الله أبيه، يومَ قاده الرّوح القدس إليها بعد اعتماده على نهر الأردنّ. في رسالته للمؤمِنين في زمن الصّوم، يقول البابا فرنسيس إنّ فِصح الربّ آتٍ إلى المؤمِنين به. إنّ الإنسان يخاف مِن الوِحدة، لذا يتحاشى اختبار الصّحراء، أي العيش وحيدًا مبتعدًا عن الآخرين. إنّ الصّحراء الدّاخليّة ليست مجرّد ابتعادٍ عن الآخرين، بل هي لقاء الإنسان، في عمق وَحدته مع الربّ الوحيد. إنّ هذا الزّمن يشكِّل دعوةً للإنسان لاختبار صحرائه الدّاخليّة، فينظِّم حياته ويعيد ترتيب أولويّاته، فيضع الربّ في صُلبِ اهتماماته. 

في عودته إلى أعماق ذاته، يراجع الإنسان حياته الماضية فيتعلّم مِن أخطائه ويتَّخذ العِبَر لبَقيّة حياته. والصّحراء الدّاخليّة على أنواع: فبعض البشر يُعانون مِن صحراء الإيمان فيواجهون صعوباتٍ على مستوى إيمانهم بالربّ، وآخرون يُعانون مِن صحراء العاطفة فيُعانون مِنَ الجفاف الروحيّ، وآخرون يُعانون مِن صحراء العقل فيُعانون مِن شِحٍّ على مستوى الأفكار، وآخرون يُعانون مِن صحراء الأوهام، أو “صحراء الأنبياء الكذبة”، على حدِّ تعبير البابا فرنسيس، إذ يسعون وراء أوهام هذا العالم الّتي لا تمنحهم إلّا سعادة مزّيفة لا تلبث أن تزول سريعًا. إنّ البعض يعانون مِن صَحراء التشاؤم، إذ ينظرون إلى الأمور مِن حولهم بطريقة سوداويّة، كما أنّ آخرين يُعانون مِن صحراء المجادلات العقيمة الّتي لا تُعطي أيّةَ نتيجة، وآخرين أيضًا يُعانون مِن صحراء الدينونة، إذ ينظرون إلى الآخرين نظرةً فوقيّة، ويُعطون أنفسهم حقّ إدانتهم. إنّ بعضًا مِنَ النّاس يُعانون أيضًا مِن صحراء الأنانيّة إذ يرغبون في امتلاك كلّ ما في هذه الحياة، وآخرين يُعانون مِن صحراء اللّامبالاة فيتجاهلون الآخرين المحيطين بهم.

 إنّ زمن الصّوم يشكِّل حافزًا مهمًّا لنا للدّخول إلى أعماق ذواتِنا، فنكتشف صحراءنا الدّاخليّة، ونسعى إلى تحويلها إلى أرضٍ طيِّبة بالأعمال الصّالحة، فنُطعِم الجياع، ونواسي الحزانى، ونُقدِّم صومَنا مِن أجل كلّ الّذين يُعانون مِن الضِّيق، ومِن التبعيّة ومِن الإلحاد، مُصلِّين مِن أجل كلّ الّذين يرفضون مسامحة الآخرين على زلّاتهم، ومِن أجل إحلال السّلام وانتهاء الحروب والنِّزاعات بين الشُّعوب.

إنّ الكتاب المقدّس، العهد القديم، ينقل إلينا أحداثًا كثيرةً اختبر فيها الشَّعب اليهوديّ معنى العبور، ولكنّنا اليوم سنتوقَّف عند ثلاثة منها فقط. لقد اختبر الشَّعب معنى العبور يومَ ترك أرض العبوديّة، أرض مِصر، عائدًا إلى أرض الحريّة، أرض الميعاد: لقد سار الشَّعب مع موسى أربعين سنةً في الصَّحراء واختبر الجوع والعطش، والتمرّد والتذمُّر على الله، والمرض والألم والموت. لقد اختبر الشَّعب في مسيرته في الصّحراء، أوّلاً: العطش، فتذمّر على موسى وَطالَبَهُ بتأمين المياه ليتمكّن مِن متابعة مسيرته في الصّحراء. 

لم تكن المياه صالحةً للشُّرب في الصّحراء، لذا عندما رأى الله معاناة شعبه، طلب مِن موسى أنْ يمدَّ عصاه على المياه فتتحوَّل إلى مياهٍ عذبة، وهذا ما حصل، فشرب الشَّعب كلّه. إنّ مسيرةَ الشَّعبِ في الصّحراء، ترمز إلى مسيرة صَومنا اليوم، المليئة بالصُّعوبات والمشَّقات. كما ترمز عصا موسى إلى يد الله القديرة الحاضرة مع شعبه، لتُسانِدَه في وقت الضِّيق، ولتؤكِّدَ له أنّه ليس وحيدًا في الصّحراء بل إنّ الربّ معه. بعد ارتواء الشَّعب، تابع هذا الأخير مسيرتَه في الصّحراء، ولكنّه جاع، فعاد ليتذمّر مِن جديد على موسى وَيلُومه على إخراجه مِن أرض مِصر، حيث كان الطّعام مؤمَّنًا له على الدّوام. لم يترك الربّ شعبَه في هذه المحنة، بدليل إرساله له الـمَنَّ والسّلوى. يرمز الـمَنّ والسّلوى إلى الخبز النّازل مِنَ السّماء، أي يسوع المسيح، فهو الوحيد القادر على إشباع الجوع الحقيقيّ عند الإنسان. 

لقد لَسَعَتْ أفاعي الصّحراء عددًا مِن أفراد هذا الشَّعب، فماتوا على الفور نتيجة سُمِّ الأفاعي القاتل. إنّ موتَ عددٍ مِن أفراد الشَّعب اليهوديّ، وعدم وجود أماكنَ لائقةٍ لِدَفْنِهم في الصّحراء، دَفع بالشَّعب إلى التذمّر على موسى مِن جديد، عندها رفَعَ موسى الحيّة النّحاسيّة قائلاً للشَّعب إنّ كلّ مَن ينظر إلى تلك الحيّة أو يلمسها، ينال الشِّفاء والحريّة. شكَّل عبورُ الصَّحراء الاختبارَ الأهمّ في حياة الشَّعب اليهوديّ، لذا أقاموا الاحتفالات وأَلَّفوا الأناشيد ورنّموها للتعبير عن فَرَحِهم في هذه المناسبة، وَبَنوا المذابح وقدّموا ذبائح الشُّكر لله في هذه الذِّكرى. إنّ الحيّة النُّحاسيّة ترمز إلى الربّ يسوع الّذي رُفِع على الصَّليب، إذ إنَّ كلّ مَن يدنو منه أو يلمسه ينال الشِّفاء.

يُخبرنا الكتاب المقدَّس، العهد القديم، عن النبيّ هوشع الّذي اختبر أيضًا معنى العبور مع زوجته جُومَر الّتي طلب منه الربّ أن يتزوجَّها. لقد كانت جُومَر امرأةً زانية، وتابعت عيشها لحياة الزِّنى حتّى بعد زواجها فأنجبت طفلَين فَسَمَّت ابنها الأوّل: “ليس بشعبي”، وابنتها: “لا رحمة”. بعد انجابها مولودَين نتيجة الزِّنى، طلب الربّ مِنَ النبيّ أن يُخاطِب قلب زوجته كي تتمكّن امرأته مِن العودة عن طريقها المعوَجّ. إنّ القلب هو مكان العهد، وهو المكان الّذي مِن خلاله يستطيع الله مخاطبة الإنسان. استجابةً لطلب الربّ، أخد النبيّ هوشع امرأته إلى البريّة وخاطب قلبها، فعادت جُومَر عن ضلالها، فأنجبت مِن زوجها هوشع ولدًا أَسمته يزراعيل أي الله يزرع، أو الله يُنمي الزّرع ويباركه. إنّ النبيّ هوشَع يمثِّل الله الّذي يسعى مِن دون كَللٍ إلى إعادة أبنائه المنغمسين في الخطيئة إليه، من خلال مخاطبة قلوبهم. إنّ الزِّنى في الحياة الروحيّة، هو ابتعاد الإنسان عن الله، واتِّباعه لآلهةٍ وثنيّة مزّيفة، لا نفعَ منها. إنَّ الله يبقى أمينًا لشعبه على الرُّغم مِن خيانات هذا الأخير المتكرِّرة.

إنّ النبيّ يونان عاش أيضًا خبرة العبور (2سفر الملوك 14: 25)، وقد استشهد بخبرتِه الربّ يسوع في قوله للفرِّيسيين: “جيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بآية، وَلَن يُعطى سِوى آيةِ النبيّ يونان”(متّى 12: 39). كانت نينوى مدينةً عظيمةً، ولكنّ شَرَّ أهلها كان قد صَعِد إلى السّماء. لذا طلب الربّ من النبيّ يونان أن يذهب لتبشيرها علَّها تتوب عن طريقها الآثِم. فخاف النبيّ وعِوَض أن يذهب إلى نينوى، رَكِب سفينة وذهب مع بَحّارتها إلى ترشيش هربًا من نِداء الله له. وحين أصبحوا في منتصف البحر، هبّت رياحٌ شديدة، وأخذت تلطُم السَّفينة، حتّى أوشكَتْ على الغرق. فبدأ بَحّارتها بالتَّضرع، كلٌّ إلى إلهه، مِن أجل خلاصِ نفوسهم مِن هذه الكارثة. ولـمّا وَجدوا يونان نائمًا في السَّفينة، أيقظوه وطلبوا منه أن يُصلِّي بِدَورِه إلى إلهه. حاول البَّحارة التَّخفيف مِن حمولة السَّفينة، فرَموا بعض أمتعتَهم في البحر، علَّهم يَنْجُونَ مِن الموت. ولـمّا لم تهدأ العاصفة، قرّروا رَمْيَ الشَّخصِ المسؤولِ عن حدوث تلك العاصفة، لأنّهم أدركوا أنَّ هذه العاصفة حدثت بسبب أحد الموجودين على متن تلك السَّفينة؛ عندها اعترف يونان أمامهم بالحقيقة، فرَموه في البحر، فهدأت الرِّيح. لكنّ الربّ لم يترك يونان، بل أرسَل إليه حوتًا ابْتَلَعَهُ لثلاثةِ أيّامٍ، ثمّ لَفَظَه بعدها على شاطئ البحر.

إذًا، لقد بَقِيَ يونان في جوف الحوت ثلاثةَ أيّامٍ، حيث صلّى إلى الله وتاب إليه. لقد كانت هذه المرحلة، مرحلة عبورٍ بالنسبة ليونان مِنَ الموت إلى الحياة. إنَّ جوف الحوت يرمز إلى الموت، إلى صحراء الإنسان الدّاخليّة، إلى الصّعوبات والمشاكل، الّتي تعترض حياته. من خلال اختبار يونان، يتعلَّم المؤمِن أهميّة الصّلاة إلى الله في وقت الضِّيقة والصّعوبات، فيختبر على مثال يونان “سرّ اليوم الثّالث”، الّذي فيه عاد يونان إلى الحياة. بعد عودتِه إلى الحياة مِن جوف الحوت، انطلق يونان ليبشِّر أهل نينوى، طالبًا مِنْهم الصّوم، كبارًا وصِغارًا، مدّة أربعين يومًا، فاستجاب الجميع لطلبه، وتابوا عن خطاياهم، حتّى أنّ مَلِكها قد لَبِسَ المِسح، وافترش الرَّماد. إذًا، في العهد القديم، اختبر الشَّعب العبور، من خلال عبورهم البحر الأحمر والسير في الصّحراء أربعين سنة، كما أنّ النبيّ هوشع قد اختبر فرح العبور يومَ تابت امرأته عن ضلالها، وأخيرًا اختبر يونان النبيّ هذا الفرح، فرح العبور، يوم عاد إلى الحياة ساعة لفَظَه الحوت.

كما في العهد القديم، كذلك في العهد الجديد، أحداثٌ متعدّدة تساعدنا على فهم العبور المسيحيّ. سنتكلّم أوّلاً عن عبور يسوع في مياه المعموديّة في نهر الأردنّ، ثمّ عن عبور زكّا يومَ تاب عن ضلاله، وأخيرًا عن عبور الصّليب. لقد تعمَّد يسوع في نهر الأردنّ على يوحنّا المعمدان، وقد انفتحت السّماء بعد أن كانت قد أُغلِقت بسبب خطايا البشر.كذلك المؤمِن، فإنّه في يوم عماده، يغطس في المياه ليُعبِّر عن ولادته الجديدة بالرّوح، فتَنفَتِح السّماءُ لتُعبّر بِدَورها عن فرَحِها بعودة هذا المؤمِن إليها، إذ يُعلِن مِن خلال قبوله للمعموديّة عن رغبته في أن يُصبح قدِّيسًا، وأن يُصبح ابنًا للّه. 

في نصٍّ إنجيليّ آخر، نقرأ أنّ يسوع قد رَكِب في السَّفينة مع تلاميذه، قائلاً لهم: “هلّموا نعبر إلى الضِّفة الأخرى”. لقد أراد يسوع الاستراحة بعد يومٍ طويل، أمضاه في تعليم النّاس بكلمة الله وفي شفاء مَرضاهم. كانت بُحيرة طبريّا هادئة الأمواج، ممّا دفع بالربّ إلى النوم في مؤخِّرة السَّفينة. وما إن غفا الربّ، حتّى اشتدَّت الرِّياح، وبدأت تَلطُمُ السَّفينة حتّى كادت تغرق، فخاف التّلاميذ وصرخوا، فاستيقظ الربّ مِن سُباته. إنّ عبور الإنسان مِن مكانٍ إلى آخر في الحياة، ليس سَهلاً، إذ سيتعرَّض الإنسان لصعوباتٍ جمّةٍ أثناء مرحلة التَّغيير الّتي يُنشِدها. حاول التّلاميذ إيقاظ يسوع بصراخهم، غير أنّ الربّ لم يستجِب لهم على الفور، لأنّه كان يريدهم أن يتَّكلوا أوّلاً على إمكانيّاتهم البشريّة.

إنّ الربّ لم يستجِب للتّلاميذ على الفور لأنّ صوتَ الأمواج كان أقوى مِن صوت صراخهم إليه. إنّ الصّراخ إلى الله يُشير إلى صلاة المؤمِن. حين يتعرَّض المؤمِن للتّجارب، عليه أن يصرخ إلى الله ويطلب منه المعونة، ولكن على صوتِ صُراخه أن يعلو فوق صوت الأمواج، أي فوق صوت التّجارب. حين استيقظ الربّ من نومِه، وبَّخ التّلاميذ على قلّة إيمانِهم، ولكنّه رَفع يمينه بوجه أمواج البحر فهدأت العاصفة. إنّ يمين الربّ تدلّ على قوّة الربّ وبالتّالي على حضوره الدائم معنا.

يُخبرنا الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، عن اختبار زكّا العشّار (لو 19: 1-10)، الّذي كان قصير القامة، ولكنّه أراد رؤية يسوع على الرّغم مِن إزدحام الجموع، فتسلّق جُمَّيزة للوصول إلى هدفه. يُخبرنا هذا النّص الإنجيليّ أنَّ يسوع “دخل إلى مدينة أريحا وبدأ يجتازها”. إنَّ مدينة أريحا هي مدينة منخفضة عن مستوى البحر، وبالتّالي هي أقلّ قيمة بالنسبة لليهود، مِن أورشليم على سبيل المثال، الّـتي تقع على جبلٍ مرتفعٍ. إنّ مدينة أريحا تُمثِّل الإنسان المنغمس في خطاياه، ثمثّل الإنسان البائس الّذي يرفض الآخرون الاختلاط به، لاعتباره أقلّ شأنًا منهم.كان زّكا أحد سُّكان هذه المدينة المنخفضة عن سطح البحر، وكان يعمل كجابي ضرائب، وقد اشتهر بحبِّه للمال. ولهذه الأسباب كلّها، كان سُكَّان أريحا يكرهونه ويتجنّبون اللّقاء به ومخالطته. عند رؤيتهم لزّكا، حاول أهل أريحا مَنعَه مِنَ الاقتراب مِن يسوع، إذ إنّهم لا يُحبّون وجوده فيما بينهم بسبب وظيفته الّتي تقتضي جمع المال منهم وإعطاؤه للمحتَلّ، ولكنّهم فشلوا في ذلك. 

إنّ رغبة زكّا العميقة في رؤية يسوع دفعته ليتحدّى كلّ الحواجز من أجل الوصول إلى هدفه، فتخطّى قِصرَ قامته ومنصِبَه المرموق في المجتمع، وتسلَّق جمَّيزةً وانتظر مرور الربّ. في نصّ شفاء مخلَّع بيت حِسدا، يُخبرنا الإنجيليّ أنّ المخلَّع كان يجلس على حافة هذه البِركة منذ ثمانٍ وثلاثين سنة، منتظرًا في كلّ مرَّة فَوران المياه كي يكون أوّل مَن يرمي نفسه فيها فينال الشِّفاء؛ غير أنّ آخرين كانوا يسبقونه إلى ذلك، فيعجز عن الشِّفاء. وفي أحد الأيّام، كان يسوع مارًّا مِن هناك ورآه، فسأله عن رغبته العميقة، فقال المخلَّع للربّ إنّه يريد الشِّفاء، فأعطاه الربّ سُؤلَ قلبه. 

إذًا، إنَّ الربّ حاضرٌ لمساعدة الإنسان يومَ يُعلِن هذا الأخير عن رغبته في التَّغيير. هذا ما حصل تمامًا مع زكّا، إذ أراد التّغيير وأعلن للربّ عن تلك الرّغبة حين بادر إلى تسلُّقِ جمَّيزةٍ كان يسوع مُزمِعًا أن يمرّ بالقرب منها. حين رأى الربّ رغبة زكّا، تجاوب معها، فطلب منه أن ينزل على عَجلٍ لأنّه يريد أن يُقيم في بيته. لم يدخل يسوع فقط إلى بيت زكّا بل إلى قلبه أيضًا، بدليل توبة هذا الأخير مُعلنًا توزيع مالَه على الفقراء ومُعوِّضًا أربعة أضعافٍ على كلِّ مَن أجحف بحقِّهم في السّابق. إنَّ لقاء المؤمِن بالله هو لقاؤه بالحقيقة، لقاؤه بالنّور الّذي لا يزول، ممّا يدفع الإنسان إلى تغيير حياته القديمة والتخلّي عن الاهتمام بالمظاهر الخارجيّة للاهتمام بحياته الداخليّة أي بقلبه، لأنّ الإناء ينضح بما فيه، فما يتفوّه به الإنسان نابعٌ من قلبه.

إنّ الكتاب المقدّس يُخبرنا أيضًا عن عبور الربّ يسوع مِن هذه الأرض إلى الآب، مِن خلال الموت على الصّليب. إنّ الربّ يسوع مات مرّة واحدة في التّاريخ فداءً للبشريّة كلّها وبالتّالي فإنَّ الاعتقاد أنَّ الربّ يموت عنّا في كلّ يوم هو خاطِئٌ تمامًا. إنّنا لا نُقدِّم الربّ يسوع تقدمةً جديدة للآب في كلّ ذبيحة إلهيّة، بل نُحيي ذكرى تقدمة الآب ابنه الوحيد ذبيحةً عنّا على الصّليب، ونختبر مفاعيل قيامته في حياتنا من خلال الاحتفال الافخارستيّ. إذًا، إنّ موت يسوع على الصّليب يُشكِّل الذبيحة الوحيدة الّتي غذّت البشريّة عبر التّاريخ ولا زالت تتغذّى منها الأجيال عبر العصور، وهذا ما أدّى إلى حصول التّغيير فيها، فالبشريّة لا تتغيّر بفضل قوَّتها بل بفضل قوّة الله العامل فيها. 

إنّ الربّ لا يدخل حياة الإنسان ويُغيّر قلبه عُنوةً، بل إنّه يحترم حريّة الإنسان وينتظر مِن هذا الأخير أن يفتح له باب قلبه ليستطيع أن يُحدث التّغييرات اللّازمة في حياته. لذا فلنتشجّع ولنفتح أبواب قلوبنا للربّ كي يتمكّن مِنَ الدّخول إليها وتغييرها. إنّ لقاء الإنسان بالربّ يُعبِّر عن قبول الإنسان بخلاص الربّ له. إنّ المؤمِن يولَد ولادةً روحيّة، حين ينظر إلى الدّم والماء اللّذين سالا مِن جنب يسوع المطعون بالحربة. فلنتأمّل إخوتي، في آلام الربّ يسوع وعذاباته، لا مِن أجل البكاء والنّواح على مدى قسوة البشريّة، بل لنختبر عظمة حبّ الربّ، الّذي مات على الصّليب مِن أجل فِدائنا. 

بموته على الصّليب، أراد الربّ أن يعبِّر عن حبّه للبشريّة كلّها. وبالتّالي على كلّ مؤمِن أن يسعى للاقتراب من الربّ مهما تعاظمت خطاياه، لأنّ الربّ قد دفع ثمن خطايا البشريّة كلّها بقبولِه الموت على الصّليب. إنّ الربّ بتجسُّده وموته على الصَّليب، قد فتح أمام البشريّة جمعاء باب السّماء الّذي كان قد أُغلِق بسبب خطاياها. لقد أتمّ المسيح بموته على الصَّليب الفِصح لجميع البشريّة، إذ أعطاها الفرصة للدّخول إلى الملكوت. هذا هو الفِصح، هذا هو عبور الصّليب، عبورٌ نحو القيامة. لا يمكن للإنسان أن يعبر مِن هذه الحياة الفانية إلى الحياة الجديدة دون المرور بحقيقية الصّليب، فالمؤمِن يلتقي بالربّ عند أقدام الصّليب.

في الختام، إليكم بعض النّصائح كي تُتِمّوا عبوركم مِن هذه الفانية إلى الحياة الجديدة بفرح. أوّلاً على المؤمِن المحافظة على قلبه، فإنّ قساوة القلب تقف حاجزًا أمام دخول الربّ إلى حياته وتغييرها. في الكتاب المقدَّس أمثلةٌ كثيرة عن قساوة القلب، وأهمّها ما اختبره تِلميذَا عمَّاوس في طريق عودتهما إلى قريتهما. بعد موت المسيح، عاد كلاوبا والتّلميذ الآخر إلى قريتهما حزينين، وكانا يتحادثان في الطريق عمّا جرى في أورشليم، فجاء الربّ وسار معهما، وشرح لهما الكتاب المقدَّس. وعندما وصل التِّلميذان إلى قريتهما طلبا من الضِّيف أن يمكث معهما لأنّ المساء قد حلّ. لقد عرف هذان التّلميذان الربَّ حين كسر الخبز أمام أعينهما وناولهما. في هذه اللّحظة، اختبر هذان التِّلميذان الفِصح الحقيقيّ، فانطلقا عائدَين إلى أورشليم والفرح يملأ قلبيهما لأنّهما التقيا بالربّ القائم مِنَ الموت. على المؤمِن الّذي يرغب في عيش فرح العبور، أن يُحافظ على قلبه متَّقدًا كقَلبَي تلميذَي عمّاوس. 

إنّ القلب المتَّقد هو علامة للحبّ الحقيقيّ. مِن صفات الحبّ أنّه يدفع الحبيب إلى مرافقة حبيبه في مسيرته على هذه الأرض، فيُصغي إليه ويُصدِّق كلّ أقواله، أي أنّه يثق به، ويصبر على المحبوب، وهذا ما يجعل قلب الحبيب متَّقدًا تجاه محبوبه. عندما نتوب إلى الربّ عن خطيئة قد ارتكبناها، يُصدِّق الربّ توبتنا ويغفر لنا آثامنا، لأنّه يُحبّنا إلى الغاية مع عِلمه أنّنا سنعود إلى ارتكاب الخطايا كلّما كان الظرف مؤاتيًا. إنّ زكريّا الكاهن الطاعن في السِّن، قد طلب من الربّ أن يمنحه وَلَدًا، فصدّق الربّ رغبة زكّريا واستجاب له ومنحه يوحنّا. إنّ الحبّ يدفع بالحبيب إلى تحمُّل كلّ شيء، والصّبر على كلّ شيء. إنّ القلب المتَّقد هو الّذي يدفع بالمؤمِن إلى محبّة الله، ومحبّة إخوته البشر.

إنّ عبور المؤمِن بفرح إلى الحياة الأبديّة يتطلّب منه الانتباه إلى لسانه، أي إلى كلماته مع الآخرين. إنّ قداسة البابا فرنسيس يقول لنا في هذا الصَّدد، إنّ غالبية المشاكل بين البشر يعود سببها إلى اللِّسان. إنّ مشكلة عصرنا اليوم هي الاتِّهاميّة والجدليّة. على المؤمِن أن يتحلّى برحابة صَدرٍ فيسمع كلّ ما يُقال عنه، فيضَع جانبًا الكلام الجارح، ويُعطي أهميّة لما فيه بُنيانه الرّوحيّ. إنّ المؤمِن لا يستطيع الدّخول وحده إلى الملكوت بل مع الآخرين، ولذا عليه الانتباه إلى أخوته البشر لا أن يتحاشاهم ويتجاهلهم.

إنّ الربّ يسوع مات على الصَّليب ثمّ قام في اليوم الثّالث مِن بين الأموات ومَنَح البشريّة جمعاء الحياة الأبديّة: هذه هي الحقيقة الوحيدة في كلّ تاريخ البشريّة. على المؤمِن أن يبني إيمانه انطلاقًا من هذه الحقيقة الأساسيّة، ومِن ثمّ يسمح لعاطفته أن تتغذّى من إيمانه بالربّ. إذًا، يأتي الإيمان بالربّ القائم أوّلاً ثمّ العاطفة، لأنّه عندما يبني المؤمِن إيمانه على العاطفة، فإنَّ ذلك سيؤدّي إلى ضياعه وهلاكه، عندما تواجهه الصُّعوبات. إنّ إيمان المؤمِن بالربّ القائم سيمنحه فرحًا حقيقيًّا، فَرحًا لا يزول.

إنّ اعتناء المؤمِن بقلبه أوّلاً ثمّ بلسانه ثانيًا، سيمنحانه فَرحًا عظيمًا، يدفعه إلى التّعبير عن حبِّه للربّ بالتوبة والعودة إليه. بين الأمثلة الثلاثة الّتي وَضَعها أمامنا لوقا الإنجيليّ عن الخروف الضّال والدِّرهم الضائع والابن الشاطر، عبارةٌ مشتركة، هي:” هكذا يكون فرحٌ”. على توبة الإنسان إلى الله أن تكون مصحوبةً بحالةٍ من الفرح والابتهاج، لا بحالة من الحزن والكآبة، فالمؤمِن الحقيقيّ هو إنسان يملأ الفرح قلبه من جرّاء قبوله بالربّ سيِّدًا على حياته. إنّ لقاء المؤمِن بالله هو لقاءُ فَرَحٍ يؤدّي إلى قداسة المؤمن. وهنا أودّ أن أردّد معكم بعض آيات مزمور 23(الربّ راعيّ): “إنّي ولَو سَلكْتُ في وادي ظلالِ الموت لا أخافُ سوءًا لأنّك معي”. 

إذًا، إنّ الإنسان يواجه صعوباتٍ في كلّ عبورٍ يودّ القيام به، لكنّه عليه أن يتذكّر على الدّوام أنّ الربّ معه، فيسعى إلى المحافظة على اتِّقاد قلبه، كما يسعى للاعتناء بلسانه فلا يخرج منه إلّا ما فيه بناء الآخرين رُوحيًّا. في هذا الصدّد، يُشدّد قداسة البابا فرنسيس على أنَّ نار الفِصح آتية وهي ستحرق كلّ لامبالاةٍ وتَجاهُلٍ مِن المؤمِن للآخرين. إنّ نار الفِصح قادرةٌ على تطهير الإنسان وعلى تقديسه، وتساهم في مساعدته على العبور من هذه الفانية إلى الحياة الجديدة بِفَرحٍ.

إنَّ كلّ الكنوز الأرضيّة الّتي يسعى إليها الإنسان ويتمسَّك بها، لا تستطيع أن تمنحه إلّا فَرحًا زائلاً، لا يدوم إلّا لوقتٍ قصير. لذا على الإنسان أن يبحث عن الكنز الحقيقيّ الّذي يمنحه السَّعادة الأبديّة، ألا وهو يسوع المسيح. إنّ الربّ أيضًا يبحث عن كنزه، والكنز الّذي يبحث عنه الله هو قلب الإنسان، لذا فلنسعَ إلى مساعدة الربّ في إيجاد كنزه، فنُعلِن عودتنا إليه، والتزامنا بتعاليمه المقدَّسة. أتمنّى في الختام أن تكون قلوب جميع الحاضرين، مستعدّة لإقامة عهدٍ جديدٍ مع الربّ. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp