الرياضة السنويّة 2018 بعنوان: “لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” (مر 2: 1-12)
دير سيّدة البشارة للروم الكاثوليك، واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل، كسروان.
تأمّل روحيّ بعنوان: يا قليلَ الإيمان، لماذا شكَكتَ؟
الأب ميشال عبود الكرمليّ،
ورد في الكتاب المقدَّس: “إنّ الرّوح مندفعٌ، أمّا الجسد فضعيف”، لذا يشارك المؤمِن في الرياضة الروحيّة ساعيًا إلى تحقيق الانسجام بين روحه وجسده. إنّ الرياضة الروحيّة تشبه الرياضة الجسديّة: فكما أنَّ الرياضة الجسديّة تُرهق الإنسان جسديًّا، كذلك الرياضة الروحيّة تُرهق المؤمِن ذهنيًا، إذ إنّ التفكير الذهنيّ يتطلّب منه مجهودًا كبيرًا، وهذا هو سببُ شعوره بالإرهاق في الرياضة الروحيّة.
إنّ كلمة الله كالدّواء: فكما أنّ الإنسان ينزعج مِن تناول الدّواء لكنّه يُضطرّ إلى ذلك لما فيه مِن إفادةٍ صحيّة له؛ كذلك ينزعج الإنسان مِن متطلّبات كلمة الله، لكنّه يجد ضرورةً لسماعها والرّضوخ لها لما فيها مِن إفادةٍ روحيّة له. إنّ كلمة الله كالمرآة: فكما أنّ المرآة تعكس للإنسان صورته الخارجيّة فتدفعه إلى تحسينها ليُصبح شكله لائقًا؛ كذلك كلمة الله تعكس له صورته الحقيقيّة وتدفعه إلى تحسين ذاته بما يتلاءم معها. إنّ كلمة الله كالذّهب: فكما أنَّ الذّهب يبقى ذهبًا حتّى لو أُسيءَ استعماله، كذلك كلمة الله تبقى مصدرًا للحياة حتّى لو رفضها المؤمِن. إنّ الكتاب المقدَّس يعكس للمؤمِن هويّة الله،كما أنّه يحتوي على كلام الله، هذا الكلام الّذي به يخاطب اللهُ الإنسانَ في كلّ لحظةٍ من حياته بطريقة مباشرة وخاصّة.
إنَّ تأمُّلنا في إنجيل متّى (متّى 14: 22-33)، سيتمحور حول بعض المحطّات المهمّة في هذا النّص، الّتي تدفعنا إلى التغيير الداخلي الجذريّ، ممّا يدفعنا إلى تقبُّل نعمة الله. إنّ أَوَّل ما يلفت انتباهنا في بداية هذا النّص هو المكان: الجبل. إنّ للجبل رمزيّة كبرى في الكتاب المقدَّس وفي حياة يسوع الأرضيّة. في العهد القديم، تسلّم موسى لَوحَي الوصايا مِنَ الله على الجبل. أمّا في العهد الجديد، فنجد أنّ يسوع كان يُصلّي على الجبل وقد كان يعلِّم على الجبل، وما عظة الجبل، أي التطويبات، إلّا دليل على ذلك. لقد تجلّى يسوع أمام تلاميذه على الجبل، إضافةً إلى أنّ صَلبَ يسوع وموته تمَّا على الجبل. إذًا، إنّ الجبل هو مكان لقاء الإنسان بالله. وهذا ما دفعكم للمشاركة في هذه الرياضة، فقُمتُم بمجهودٍ كبيرٍ وصَعِدتم إلى هذا “الجبل” للاختلاء بالربّ. إنّ الربّ يسوع صَعِد وحيدًا إلى الجبل ليُصلّي. إنّ الإنسان يعيش في تناقضٍ دائمٍ مع ذاته، إذ يدّعي أنّ لا وقت لديه، ولكنّه في الوقت نفسه، يُعاني مِن أوقات فراغٍ قاتلةٍ وهذا ما يجعله يختبر الوِحدة في حياته اليوميّة. إنّ الوِحدة الحقيقيّة تكمن في اختلاء الإنسان مع ربّه، فيتمكّن الإنسان عندها مِنَ الصُّراخ إلى الربّ والإصغاء لكلمة الربّ له. إنّ الإنسان في بعض الأوقات يُعبِّر بَشريًّا عن وِحدته قائلاً إنّه يصرخ ولكنّه لا يجد مَن يسمعه؛ أمّا في الحياة الروحيّة فليس الأمر كذلك، إذ يعلم المؤمِن أنّ الله يُصغي إليه ويسمعه، وبالتّالي يُدرِك أنّه ليس وَحيدًا. في هذا الصَّدد، ينقل لنا الكتاب المقدّس قولَ الله إنّه إنْ نَسِيَت الأمُّ رضيعها فهو لا يستطيع أن ينسى أبناءَه البشر. لقد صعِد يسوع إلى الجبل، أي إلى مكان العزلة، ليُكرِّس وقته للصّلاة. ومِن هنا، نكتشف أهميّة الجلوس مع الذات. يقول أحد آباء الكنيسة في هذا الصّدد: إنّ اليوم الّذي لا يجلس فيه الإنسان مع ذاته، عليه عدم اعتبار ذلك اليوم كأحد أيّام حياته. كان الربّ يسوعُ دائمَ الانشغال إذ كان لديه الكثير من الأمور الّتي عليه القيام بها، ولكنّه على الرّغم من كثرة انشغاله، كان يُنظِّم وقته مكرِّسًا وقتًا للرّاحة. كذلك يتوجّب على الإنسان تكريس بعضٍ مِن وقته للرّاحة، كي تكون أعماله مثمرةً.
يُخبرنا هذا النّص بأنَّ التّلاميذ قد ركبوا السفينة، وأنّ الأمواج بدأت تلطمها عندما ابتعدت عدّة غلواتٍ عن الشّاطئ، إذ إنَّ الرِّياح كانت معاكسة لها. إنّ السَّفينة ترمز إلى الكنيسة التّي تعرَّضت منذ انطلاقتها لرياح هذا العالم وأمواجه، فكانت الحصيلة عددًا من شهدائها، أبناء الإيمان.كان فكر الكنيسة منذ القِدم معاكسًا لأفكار العالم وتيّاراته، ولا يزال إلى يومنا هذا، فِكرًا مبنيّا على الإيمان بالربّ يسوع ومبادئه. وهذا ما نختبره مع أبناءِ جِيلِنا، إذ نتعرَّض للسخريّة والاتّهام بالتخلّف في كلّ مرّةٍ ننطق بكلمة الله. إنّ الإنجيل يُخبرنا أنَّ يسوع قد جاء في آخر اللّيل، أي عند الفجر، ماشيًا على البحر. في الكتاب المقدَّس، تُشير مراحل اللّيل المختلفة إلى المراحل العمريّة المختلفة عند الإنسان: فـ”أوّل اللّيل” يشير إلى عمر الطّفولة، أمّا “منتصف اللّيل” فيُشير إلى مرحلة الشباب، وأمّا “عند الفجر” فيُشير إلى مرحلة الشيخوخة. إنّ الربّ يسوع يُخبرنا، في نصٍ آخر من الإنجيل، أنّ السّارق يأتي في اللّيل، أي أنّ الموت يأتي على غفلةٍ من الإنسان، يقرع بابنا في مختلف مراحل حياتنا. إنّ سَيْرَ المسيح يسوع على المياه، هو أمرٌ لا يستطيع العقل البشريّ إدراكه، لذا خاف التّلاميذ وصرخوا معتقدين أنّ ما شاهدوه هو “خيال”، لا حقيقة. عندما يتعرَّض الإنسان إلى حادثة معيّنة في حياته، لا يستطيع عقله البشريّ إدراكها، يصرخ من شِدّة خوفه، إذ لا يستطيع أن يُصدِّق ما يحصل. في ظلّ كلّ أزمة يتعرَّض لها الإنسان، يجد هذا الأخير نفسه غير قادر على النّظر إلى أمور الحياة إلّا بنظرة سوداويّة لا أمل فيها، فينظر إلى الصّلاة على أنّها “خيال”، أي لا نفع منها. فحين يتعرَّض الزّوجان مثلاً إلى أزمةٍ في حياتهما العائليّة، ينظران إلى الأمور مِن حَوْلِهما بسوداويّة، وإلى الحبّ الّذي جمعهما، وكذلك إلى الصّلاة على أنّها “خيال”، لا نفع منهما. إنّ كلّ إنسان مُعرَّضٌ إلى مواجهة مثل تلك الأزمات الّتي تجعله يرى الأمور مِن حوله بطريقة سوداويّة، وإلى النّظر إلى الصّلاة والحبّ وكلّ الأمور الصّالحة على أنّها “خيال”.
لقد وصف لنا الإنجيليّ حالة التّلاميذ عند رؤيتهم ليسوع ماشيًا على المياه، مِن خلال استخدامه عبارة “مِن شدَّة خوِفهم صرخوا”، ومِن ثَمَّ نقل إلينا قول يسوع لهؤلاء: “أنا هو لا تخافوا”. إنّ يسوع لم يُعرِّف عن نفسه قائلاً للتّلاميذ، على سبيل المثال: أنا يسوع النّاصريّ، أو أنا ابن مريم، أو أنا يسوع الّذي قام بالمعجزات أمامكم؛ بل على العكس مِن ذلك، اكتفى بقوله لهم: “أنا هو”، مِن دون أي زيادة في الشِّرح. إنّ عبارة “أنا هو”، هي الكلمة الإلهيّة الّتي عرَّف بها الله عن نفسه لموسى قبل إرساله للشَّعب. حين يقرع أحدُهم باب بيتك، تُسارع إلى الباب سائلاً عن هويّة الزائز، فيأتيك الجواب “أنا هو”، فإنْ أدركتَ صاحب هذا الصّوت فَتحْتَ الباب له، وإن لم تعرِفْهُ تركْتَ الباب مغلقًا. إنّ الربّ يقرع باب كلّ إنسان في كلّ يوم قائلاً له: “أنا هو”، ولكنّه لن يتمكّن من التعرُّف على هذا الصّوت في وقت الشِّدة إن لم يكن يَعرِفه في وقت السّلام والرّخاء. هذا هو الوقت المناسب، كي يتعرّف كلّ مشاركٍ منكم إلى صوت الربّ في حياته، فيتمكّن من التعرُّف به في وقت الأزمات والصُّعوبات. “إنّ الغضب يُطفئ نور العقل”، لذا يعجز الإنسان عن معرفة صوت الله في ظلّ الأزمات الّتي يتعرَّض لها في حياته، كما يعجز عن رؤية الصّلاح في الأشياء مِن حوله. لذا، على المؤمن أن يصلّي لله، في وقت الرّاحة، قائلاً له: “يا ربّ، أطلب منك أن تكون أنت إرادتي، حين تُفقدني الخطيئة إرادتي وتُكبِّلني. يا ربّ، أعطني نعمة الوعي لحضورك حين أتعرَّض للشّدائد في حياتي”. لا توجَد أزمة أبديّة في الحياة، بل إنّ كلّ أزمة ستزول مهما طالت. إنّ القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع تعرَّضت لأزمةٍ كبيرةٍ في حياتها إذ شكّت بوجود الله وبوجود السّماء. ولكي تتخطّى تلك الأزمة الرّهيبة، كانت تلجأ إلى الكنيسة فتقرع باب بيت القربان لتسأله عن حقيقة وجوده، كما أنّها لجأت إلى كتابة قانون الإيمان بخطّ يدها، وكانت تضعه على قلبها حين تشعر بالصُّعوبات في حياتها. إنّ القدِّيسة تريزيا تصف ذاتها في ظلّ هذه الأزمة، فتقول إنّها كانت كالعصفور الجالس على الشجرة وغير القادر على رؤية الشَّمس بسبب الغيوم الّتي كانت تحجب نورها عنه، ولكنّ هذا العصفور كان يُدرك وجود الشَّمس على الرّغم من أنّه لم يكن قادرًا على رؤية أشِّعة الشَّمس. إنّ رحمة الله للبشر أقوى جدًّا مِن كلّ صعوبات حياتنا، وهي تفوق كلّ خطايانا.
حين رأى بطرسُ الربَّ يسوعَ ماشيًا على البحر قال له: “يا ربّ، إن كنتَ إيّاه، فَمُرني أن آتي إليكَ على الماء”. في ظلّ أزمة الخوف، الّـتي عانى منها بطرس، لم يتردّد في الانطلاق صوب المسيح. إنّ الربّ يسوع لم يطلب من بطرس الترَيُّث قبل القدوم إليه، ريثما تهدأ العاصفة، بل على العكس مِن ذلك شجَّعه على الاقتراب منه في ظلّ شِدَّة العواصف، قائلاً له: “تعال”. إخوتي، إنّ الربّ يدعونا للاقتراب منه حتّى في ظلّ عواصف حياتنا. لم تهدأ العواصف في أثناء مسيرة بطرس صوب يسوع، بل على العكس ازدادت شدَّةً. إنّ بطرس بدأ يغرق حين أمال نظره عن يسوع، فرأى شدَّة الرِّياح. في هذا الصدَّد، يقول لنا القدِّيس بيّو: إنّ الخوف هو أكثر شَرًّا من الشَّر نفسه. إنّ الإنسان الّذي يخاف هو إنسانٌ غير قادر على محبّة الآخرين، كما أنّه إنسان غير قادر على اتِّخاذ قراراتٍ في حياته، إذ يشعر على الدّوام بالقلق. إنّ عدم الخوف، لا يعني أبدًا تَسَرُّع الإنسان في التصرّف، بل يعني اتِّكاله على الله في كلّ المسائل الّتي يعجز عن حلِّها بعد استنفاذه كلّ الحلول البشريّة. عندما خاف بطرس، بدأ يغرق، ولكنّ بطرس في ظلّ أزمته هذه، لم يتردّد في الصّلاة قائلاً: “نجِّني يا ربّ”. وفي هذا الصَّدد، تقول القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع إنّ الصّلاة هي وَثبةُ القلب صوب السّماء، في وقت المحنة والشِّدة كما في وقت الرّاحة والفرح. على المؤمِن أن يُصلّي إلى الربّ، خاصّة في ظلّ أزمته، فيقدِّم له كلّ الخطايا الّتي تُكبِّله، قائلاً له على مثال القدِّيس بطرس: نجِّني يا ربّ، فإنّي أغرق بسب خطيئتي الّتي تُكبِّلني وتَأسُرني. إنّ يسوع لم يتوجّه بالملامة إلى بطرس حين طلب منه المعونة، بل على العكس تمامًا، فقد مدَّ الربّ يسوع يدَهُ لينتشل بطرس مِنَ المياه الّـتي كان يغرق فيها. بعد انتشال بطرس من الماء، وبَّخَ يسوع بطرس ومعه جميع التّلاميذ في السفينة -كما وبَّخ تلميذَي عمّاوس- قائلاً له: “يا قليل الإيمان”. إنّ الربّ يدعونا مِن خلال هذا التوبيخ الّذي وجّهه إلى بطرس إلى التسلُّح بالإيمان القويّ. إنّ إيماننا بالربّ يتقوّى حين نصوِّب نظرنا إليه وحده دون سواه. لم يكن بطرس سائرًا في الإتِّجاه المعاكس ليسوع، بل كان يسير باتِّجاه يسوع، لذا تمكّن يسوع مِن انتشاله حين غرِقَ لأنّه كان على مقربةٍ منه. إنّ السَّير بالاتِّجاه المعاكس ليسوع، يؤدِّي حتمًا إلى الغرق. إذًا، علينا أن نسير صوب يسوع في ظلّ أزمتنا، وفي ظلّ خطيئتنا، حتّى إذا غَرِقنا تمكّن يسوع مِن انتشالنا بسرعةٍ. إنّ يوحنّا الصّليب يقول إنّه مِن الأفضل للمؤمِن أن يكون ضعيفًا بصُحبة القويّ (أي الربّ)، من أن يكون قوِّيًا بصُحبة الضَّعيف. إذًا، على المؤمِن أن يَتَّكل على الدّوام على الربّ لا على بَنِي البشر.
إنّ النّص الإنجيليّ يقول: “ولـمَّا رَكِبا السَّفينة، سكنَتِ الرِّيح”. إنّ حضور الربّ يمنح المؤمِن راحةً وسلامًا. إنّ الأمواج هي على سطح البحر، أمَّا قعرُ البحر فيبقى هادئًا. إنّ الإنسان القريب مِنَ الله، لا تختفي الصُّعوبات من حياته بل تزداد، ولكنّها تبقى على هامش حياته، ولا تؤثِّر على سلامه الدّاخليّ لأنّ الربّ يسكن في أعماق هذا الإنسان. في ختام هذا النّص، اعترف التّلاميذ أجمعين بحقيقة الربّ يسوع قائلين:”أنت حقًّا ابن الله”. عند أقدام الصّليب، اعترف قائد المئة، الّذي شهد على آلام يسوع وصلبه وموته، بأنّ الربّ يسوع كان حقًّا ابن الله.
إنّ رتبة التوبة، تساعد الإنسان على اكتشاف حضور الله في حياته، فيُدرِك أنّ خطيئته لا يمكنها أن تكون حاجزًا يمنعه مِنَ الاقتراب مِنَ الله. إنّ القداسة لا تعني الابتعاد عن الخطيئة، إنّما تعني التعلُّق أكثر فأكثر بالربّ يسوع. جاءني يومًا رجلٌ ليطرح عليّ سلسلةً من الأسئلة، فقال: أبتِ، هل التفوّه بالشتائم والإهانات تجاه الآخرين خطيئة؟ هل ضربُ الآخرين هو خطيئة؟ فقلت له إنّ كلّ ما ذَكَرْتَ هو في الحقيقة خطيئةٌ. عندها قال: أشكرك يا ربّ لأنّي لا أرتكب أيًّا من هذه الخطايا، وذلك لأنّي لا أتكلّم مع زوجتي منذ سنين طويلة، على الرّغم مِن أنّها تسكن معي. لا تقوم القداسة على تجنُّب القيام بالأخطاء، بل تقوم على سَعي المؤمِن الدائم للقيام بما هو صالح. إنّ المعيار الّذي على المؤمِن اعتماده في فحصِ ضميره هو مدى قُربه مِنَ الربّ، إذ كلّما كان الإنسان قريبًا مِنَ الربّ، كلّما كان أشبه بالزّجاج الشَّفاف الّذي يستطيع أن يعكس نور الربّ للآخرين، وبالتّالي فإنّ أيّة خطيئة قد تبدو ظاهرةً عليه بشكلٍ واضح. على المؤمِن أن يفحَص ضميره لا انطلاقًا مِنَ الوصايا العشر فحسب، إنّما مِن حالات عدم المحبّة الّتي تعرَّض لها، وحالات الشكّ الإيمانيّة الّتي واجهته في الحياة، وعدم طلب المعونة مِنَ الربّ عند الوقوع في الخطيئة، وعدم الصّلاة. فبسبب هذه كلِّها، على المؤِمِن أن يفحص ضميره، ويعترف بها أمام الكاهن في سرّ التوبة.
إخوتي، إنّ هذا الوقت مخصَّصٌ للاعتراف لا للإرشاد، أي أنّه مُخصَّصٌ لتسمية الخطايا فقط. في مزمور “ارحمني يا الله”، يقول النبيّ داود: “إنّ خطيئتي هي أمامي في كلّ حين”. وحين يتقرَّب مِن سرّ التوبة، يُعلِن المؤمِن عن رغبته في الشِّفاء من كلّ خطاياه، ولذا فهو يتقرَّب مِن سرّ التوبة، ويذكر خطاياه أمام الكاهن، منتظرًا الحصول على الحَلَّة من كلّ خطاياه مِنَ الله بواسطة الكاهن. حين يُعلِن الإنسان توبته أمام الكاهن، فإنّه يخرج مِنْ كرسيّ الاعتراف كالطِّفل الّذي يخرج مِن جرن العماد، نقيًّا ومبرَّرًا. إنّ بعض المؤمنين لا يتقرَّبون مِن سرّ التوبة بحجّة نسيانهم لهذه الصّلاة. إنّ نِسيان فعل النّدامة لا يستطيع أن يكون عائقًا أمام المؤمِن الّذي يرغب في التوبة، ففِعل النّدامة هو صلاة تعبِّر عن توبة المؤمِن عن خطاياه، واستعداده لتجاوبه مع نِعَم الله مِن جديد. لا نسمحنَّ للخجل أن يكون عائقًا يَحول دون عودتنا إلى الله. إنّ أحد الآباء القدِّيسين يقول إنّ الشيطان ينزع منّا الخجل لحظةَ ارتكابنا للمعاصي، ويعيد الخجل إلينا لحظةَ إعلاننا الرّغبة في العودة إلى الله من جديد. إنّ البعض الآخر مِن المؤمِنين، يُعلنون عدم رغبتهم بالإقرار بخطاياهم أمام الكاهن قائلين: إنّهم يعترفون بخطاياهم أمام الله في صلاتهم الشخصيّة. إنّي أقول لهؤلاء: لا يمكنكم أن تكونوا مؤمِنين بالمسيح وأعضاء في كنيسته من دون أن تلتزموا بكلّ أسرار الكنيسة، وتمارسوها جميعها مع الكنيسة. فإنْ كُنتُم تحتفلون بسرّ التوبة بشكلٍ فرديّ، لماذا تحتفلون إذًا بسرّ الزّواج، وسرّ المعموديّة وسرّ الافخارستِّيا مع الجماعة؟! احتفلوا به بشكلٍ فرديّ في بيوتكم، عمِّدوا أولادكم في بيوتكم، احتفلوا بالذبيحة الإلهيّة وحدكم. إنَّ سرّ التوبة هو أحد أسرار الكنيسة السبعة، وإن كنتم تقبلون بأسرار الكنيسة، فعليكم أن تعترفوا بهذا السِّر أيضًا وتمارسوه كما سائر الأسرار. في الختام، أودّ أن أذكِّركم بأنّ يسوع بعد القيامة، دخل على التّلاميذ في العليّة والأبواب موصدة، ونفخ فيهم الرّوح القدس قائلاً لهم: “خذوا الرّوح القدس. مَن غفرتم لهم خطاياهم تُغفر لهم، ومَن أَمسكتم عليه الغفران يُمسَك عليهم أُمسِكَت” (يو 20: 22-23).
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.