الرياضة السنويّة 2018 بعنوان: “لأنّه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضًا” (مر 2: 1-12)    

دير سيّدة البشارة للروم الكاثوليك، واحة القدّيس باسيليوس- زوق مكايل، كسروان.

عظة القدّاس الإلهيّ: “أحد الابن الشاطر”

الخوري جوزف سلوم،

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

هذه السنة، يعمُّ الفرحُ رياضَتَنا: إذ بَدَأتْ، في الصّباح، بموضوعٍ حول فرح العبور إلى بيت الآب، وستتابع الآن بعظةٍ حول فرح العودة إلى بيت الآب، إذ إنَّ الإنسان يشعر بفرحٍ عظيمٍ يوم عودته إلى منزله بعد غيابٍ طويلٍ عنه.

إنّ النّص الإنجيليّ الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، هو مَثَلُ الابن الضّال؛ والـمَثَل لا يعني أنّه قصّة واقعيّة، بل قصّةٌ تهدف إلى اتِّخاذ المؤمنين العِبَر منها لتطبيقها في حياتهم اليوميّة. لقد أعطى يسوع هذا المثل، في بيت أحد الخطأة الّذي دعاه لمشاركته الطّعام. لم تكن تلك الدّعوة الأولى الّتي يلبّيها يسوع إلى بيت أحد الخطأة، فيسوع قد اشتهر بمجالسته الخطأة ومشاركتهم الطّعام، إذ إنّه لا يكره الخاطئ بل الخطيئة. إنّ مجالسة يسوع للخطأة أزعجَت رؤساء اليهود الحاضرين في ذلك البيت، وتساءلوا حول مصدر سُلطة يسوع الّتي تقوده إلى مخالفة معتقدات اليهود. لم يرغب في مجادلة رؤساء اليهود، فأعطاهم ثلاثة أمثلة تساعدهم على استخلاص جواب الله عن أسئلتهم. إنّ الـمَثَلَ الأوّل الّذي أعطاه يسوع أمام الحاضرين في ذلك المنزل، هو مَثَل الخروف الضّال. 

في هذا المثل، يُخبرنا يسوع عن راعٍ له مئة خروف، وقد أضاع خروفًا منها، فترك التِّسعة والتِّسعين خروفًا وذهب ليبحث عن الضّال حتّى وجده، فأعاده إلى البيت، وكان فرح الراعي عظيمًا جدًا. أمّا الـمَثَل الثّاني فَهو مَثَل الدِرهم الضائع: إنّها قصّة امرأةٍ فلسطنيّة أعطاها أبوها عشرة دراهم هديّةً لها بمناسبة زواجها، كما كانت تقتضي العادة قديمًا. إنّ هذه الهديّة ثمينةٌ جدًّا في نظر تلك المرأة لا لقيمتها الماديّة وحسب، إنّما لأهميّتها المعنويّة والرمزيّة إذ إنّها هديّة مِن والدها. لقد أضاعت هذه المرأة درهمًا واحدًا من هذه الدراهم، فقامت بَقَلبِ البيت رأسًا على عقب حتّى وجدته، وكان فرحها عظيمًا. 

أمّا الـمَثَل الأخير، فهو مَثَل الابن الضّال الّذي يتكلّم عن قصّة والدٍ له ابنان، قسم ميراثه بينهما وهو لا يزال حيًّا، استجابةً لطلب ابنه الأصغر في الحصول على الميراث لمغادرة البيت، فكان له ما أراد. فسافر هذا الابن إلى بلدٍ بعيدٍ معتقدًا أنّه يُحقِّق في هذا التصرّف حريّته واستقلاليّته، فاختبر في الغربة الخطيئة. وحين ساءت الظروف المعيشية في ذلك البلد البعيد، قرّر العودة إلى بيت أبيه، إذ فكَّر في وَضْعِ الأُجراء هناك، ورأى أنّ حالتهم هي أفضل من حالته بكثير. وعند عودته، كان أبوه ينتظره، وما إن رآه حتّى طلب الأبُ مِن خَدَمه ذَبْحَ العجل المسمَّن احتفالاً بعودة الابن الأصغر إلى البيت. إخوتي، في هذه الأمثلة الثلاثة الّـتي أعطاها يسوع، قاسمًا مُشتركًا وهو ضياع الإنسان أو إضاعة الأشياء، ومن ثمّ عودة الإنسان أو إيجاد الشيء المفقود، وشعور الإنسان بالفرح عند عودة الشيء الضائع إلى يديه من جديد. كذلك الأمر، عند اقترابنا مِن سرّ التوبة، نشعر بالفرح العظيم إذ نعود إلى حالة النِّعمة الّتي فقدناها بارتكابنا الخطيئة.

إنّ مشكلة الإنسان تكمن في عدم مقدرته على تحديد ما إذا كانت أعماله هي خاطئة أم لا. هذه هي مشكلة الإنسان منذ بدء الخليقة: فآدم وحواء أكلا من ثمار الشَّجرة الّتي منعهما الربّ عنها، رغبةً منهما بمعرفة ما هو خيرٌ وما هو شرّ. إنّ الله وحده قادرٌ على معرفة الخير والشَّر، لأنّه الوحيد القادر على معرفة خفايا الكِلى والقلوب، وهذه الصّلاحية محصورة بالله دون سواه، لذا لا يستطيع الإنسان أن يُحدِّد ما هو صالحٌ وما هو غير صالح. إنّ مشكلة الإنسان مع الله تكمن في رغبته التجاوب مع ملذَّات هذه الحياة ولو كانت غير صالحة، لذا يضع الإنسان اللهَ على هامش حياته في بعض الأحيان، ليتمكّن من ارتكاب القبائح، أي بما لا يُرضي الله.

أربعةُ أمورٍ تدفع بالإنسان إلى العودة إلى الله أبيه:
أوّلا: الشُّعور بالجوع كما حصل مع الابن الضّال: عندما شعر الابن الضّال بالجوع، بدأ يُفكِّر في العودة إلى أبيه لأنّ وَضْعَ أهلِ بيته أفضلُ مِن حالته المزرية. في بعض الأحيان، قد نتعرَّض لأحداثٍ أو ظروفٍ حياتيّة قاسية، تدفعنا إلى التفكير في حالتنا الأولى، وتحثُّنا على العودة إليها.
ثانيًا: التَّفكير بحالتنا الأولى: حين تعرَّض للجوع، استذكر الابن الضّال حالة الرفاهيّة الّتي اختبرها في بيت أبيه، فقرّر العودة إلى ذلك البيت. في بعض الأحيان، نسمع بعض الكلمات من حولنا، فنتأثّر بها وتدفعنا إلى التفكير بجديّة بالعودة إلى حالة النِّعمة الّـتي كُنّا فيها يوم كُنّا مع الربّ. في كلامه عن مراحل عودة الابن الضّال إلى بيت أبيه، يستخدم الإنجيليّ بعض العبارات المهمّة، مِثل: “فكَّر في نفسه، عاد إلى نفسه”، وسواها من العبارات للدلالة على المراحل الّـتي يمرّ بها كلّ خاطئٍ قبل عودته إلى الله الآب.
ثالثًا: العاطفة أو الحنين إلى البيت الوالديّ. إنّ تفكير الابن في نمط المعيشة في بيت أبيه كافٍ ليُحرِّك قلبه شوقًا إلى أبيه، ويحثُّه على العودة. إذًا، الرّغبة في العودة إلى ذلك النّوع من الرّفاهيّة والشّوق إلى الوالد وحنانه، هما أحد دوافع تفكير الابن في العودة إلى بيت أبيه.

رابعًا: الالتزام بقرار العودة إلى الآب. إنّ هذا النّص يُعبِّر عن هذه المرحلة مستخدمًا عبارة “أقوم وأمضي إلى أبي”. على الإنسان أن يتَّخذ قرارًا بالعودة إلى الله، وينطلق في تنفيذه، فينال نعمة الغفران على خطاياه، ويتمكّن من الانطلاق من جديد في حياته. إذًا، من الضروريّ الالتزام بمسيرة العودة إلى بيت الآب، لتأمين انطلاقة جديدة وقويّة في الحياة.
إنّ هذا النّص الإنجيليّ يستخدم عبارة “بَعيد”، للدلالة على الخطيئة، فنقرأ مثلاً أنّ الابن سافر إلى بلدٍ “بَعيدٍ”، للإشارة إلى ارتكابه الآثام. وفي مرحلة العودة، نقرأ أنّه حين رأى الآب ابنه آتيًا مِن “بَعيد”. إنّ كلّ هذه العبارات تدلّ على أنّ عينيّ الربّ لا تفارقان المؤمن في هذه الحياة، حتّى حين يكون هذا الأخير في مكانٍ بَعيدٍ عن الله، أي في الخطيئة. إنّ الله ينتظرنا بشوق للعودة إليه، وهو يرانا أينما ذهبنا وابتعدنا عن وجه القدُّوس.

إنّ هذا النَّص يعرِض لنا حالة الآب الّذي هو في حالة خروجٍ دائمٍ صوب الإنسان ليبحث عنه. لقد خرج الأب أوّلاً لملاقاة ابنه الأصغر يوم عودة هذا الأخير من سَفَرِه، كما أنّه خرج لملاقاة ابنه الأكبر لدعوته إلى المشاركة في الاحتفال بعودة أخيه الأصغر. إنّ الأب قد خرج لملاقاة ابنه الأكبر الّذي رفض الدّخول للاحتفال بعودة أخيه، وقد نزع عنه صفة الأخوّة قائلاً لأبيه: “ابنُكَ هذا”. لقد سمح الابن الأكبر لنفسه بتحديد خطيئة أخيه، مع العلم أنّ هذا الأمر ليس من صلاحيّاته، فالنَّص ينقل لنا كلام الابن الأكبر في حواره مع أبيه: “ابنُك هذا الّذي أكل ما لَك …”. لقد حاول الأب بخروجه لملاقاة ابنه الأكبر التخفيف من غضبه قائلاً له: “كلّ ما هو لي هو لكَ”. وهنا نطرح السؤال: هل عاد الابن الأكبر ودخل إلى الاحتفال، أم بقيَ خارج هذا الاحتفال؟ في الحقيقة، إنّ النَّص الإنجيليّ لا يُعطي جوابًا عن هذا السؤال، إذ يعتبر الكاتب الملهم أنّ الأخ الأكبر يمثِّل كلّ مؤمن، وبالتّالي فطريقة تصرُّفه النِّهائية مرتبطة بالمؤمِن بحدِّ ذاته، فهو مَن يُقرِّر إن كان يريد البقاء خارج بيت الآب أم الدّخول إليه. إنّ المؤمن يدخل من جديد إلى هذا البيت الوالديّ حين يتحلّى بروح التّوبة وانسحاق القلب.

إنّ بعض المؤمنين يرفضون العودة إلى الله والتوبة عن أخطائهم لأنّهم يُدركون استعدادهم لتكرار الخطيئة كلّما كانت الظروف مؤاتية لذلك: فالتّلميذ يجد صعوبةً في الامتناع عن الغشّ في الامتحانات لأنّه يعتقد أنّه في ممارسته لهذه الخطيئة ضمانًا لنجاحه الدِّراسيّ. أمّا البعض الآخر فيُعلن عدم معرفته كيفيّة ممارسة هذا السِّر. كما أنّ آخرين يرفضون الاعتراف عند كاهنٍ يَعرفونه حقَّ المعرفة مخافة أن تتغيّر نظرته إليهم بسبب خطاياهم. وآخرون يرفضون الاعتراف عند الكاهن، كونه إنسانًا خاطئًا مثلهم، لذا يُقرِّرون الاعتراف لله مباشرة دون الاستعانة بالكاهن.
على المؤمِن عدم الخوف من التقرّب من سرّ التوبة، أي “سرّ الشِّفاء”، كما تُسمّيه الكنيسة، بل على المؤمن أن يسمح لذاته باختبار رحمة الله وحنانه، فيتشجّع على الاقتراب منه والاعتراف بخطاياه، مهما كانت عظيمة. إنّ الربّ هو طبيب النّفوس والأجساد، أي أنّه قادر على شفائنا من كلّ أمراضنا الروحيّة والنفسيّة، وحتّى الجسديّة. إنّ المؤمِن يحتاج لهذا الشِّفاء، لذا عليه ألّا يتردّد بالوقوف أمام الربّ والإقرار بخطاياه. إنّ الشِّرير ينصب لنا الأفخاخ الّتي تَحُول دون اقترابنا من الربّ مُجدَّدًا، ولذا على المؤمِن الانتباه من الوقوع في فخ التبرير وفي فخ التذنيب. على المؤمِن ألّا يسعى في كلّ مرَّةٍ يتقرَّب فيها من سرّ التّوبة إلى تبرير نفسه أمام الكاهن، بل عليه الاكتفاء بِتسميَة خطاياه لينال الغفران من الربّ بواسطة الكاهن. كما أنّ على المؤمِن تحاشي الوقوع في فخّ تذنيب ذاته، مُلقيًا على الدّوام اللّوم على نفسه، وبالتّالي عدم استطاعته مسامحة ذاته على ما ارتكب من أخطاء. إنَّ ارتكابنا الأخطاء لا يُشير أبدًا إلى نهاية العالم، بل على المسيح أن يكون هو عالمنا وكلّ شيء في حياتنا، فنتوب عن خطايانا، ونتابع مسيرتنا نحوه. إنّ الربّ يسوع ينتظرنا على الدّوام وهو لا يملّ الانتظار، لذا لا نتأخَّرن في العودة إليه واختبار لَمَساته في حياتنا، فنكون شهودَ رحمته وحبّه في هذا العالم. آمين. 

ملاحظة: دُوِّنت العظة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا. 

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp