الرياضة السنويّة 2015 بعنوان: “ما بالكم خائفِين هكذا؟ كيف لا إيمانَ لكم؟ (مر 40:4)
دار سيّدة البير – بقنايا، المتن.
الموضوع: “لكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم” (يو 33:16)
الأب ابراهيم سعد،
عنوان موضوع اليوم هو الجملة الأخيرة من الإصحاح السّادس عشر من إنجيل يوحنّا، بعد خِطابٍ وداعيّ يبدأ من الإصحاح الثّالث عشر: “قال الرّبّ يسوع: ثِقوا قد غَلَبْتُ العالم”. هي الآية الأخيرة الّتي قالها وهو يُودّع تلاميذه قبل الذّهاب إلى الموت، كما أنّه صلّى الصّلاة الكهنوتيّة الّتي يُصلّيها كاهنٌ يُقدّم الذّبيحة.
كيف يُمكن للربّ يسوع أن يقول لِتلاميذه أن يثقوا بأنّه قد غَلَبَ العالم وهو ذاهِبٌ ليُرينا مشهد الضّعف والهَوان؟ يُخبِرون كيف أخذوه وجَلَدوه وصلبوه وقتلوه عُرياناً، إذاً صورة الضّعف موجودة في الربّ يسوع. فعندما يقول “قد غَلَبْتُ”، وهو فعل حدث في الماضي، من البديهيّ أن نرى تلك الغلبة إلّا أنّنا لم نرَ يسوع غالِباً بل مغلوباً.
فكرة الغَلَبَة تعني أنّه كان هناك معركة أو حرب وبالتّالي يجب أن يكون هناك عدوّ، ولكن لا وجود هنا، لهذه الأسُس الثلاث. لا عدوّ ولا معركة، فكيف حصلت الغلبة؟
سأذكر سبع جملٍ من سفر الرّؤيا. كاتِب سفر الرّؤيا هو نفسه، بِحسب التّقليد الكَنسيّ، كاتِب إنجيل يوحنّا.
الجملة الأولى هي الآية السّابعة من الإصحاح الثّاني: “مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، مَن يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة الّتي في وسط فردوس الله” (شجرة الحياة هي الشّجرة الّتي مُنِعَ آدم من أن يأكل منها).
الجملة الثّانية هي: “مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، مَن يغلب فلا يؤذيه الموت الثّاني”.
الجملة الثّالثة: “مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس، فسأعطيه أن يأكل من المنّ المخفيّ (تذكّروا عندما أكل الشّعب اليهوديّ، في الصّحراء، المنّ الّذي لا يصلح أكله في اليوم التّالي لإمكانية موت آكِلِهِ) وأعطيه حَصاةً بيضاء (أيّ حجراً)، وعلى الحَصاة اسم جديد مكتوب لا يعرفه أحد غير الّذي يأخذه”.
الجملة الرّابعة: “مَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النّهاية سأعطيه سلطاناً على الأمم فيرعاها بقضيب من حديد، مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس”.
الجملة الخامسة: “مَن يغلب فذلك سيلبس ثياباً بيضاً ولن أمحوَ اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته، مَن له أذن فَلْيَسمع ما يقوله الرّوح للكنائس”.
الجملة السّادسة: “مَن يغلب سأجعله عموداً في هيكل إلهي (الهيكل مبنيٌّ على أعمدة إذاً هيكل إلهي سيُبنى عليك) ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتبُ عليه اسم إلهي، واسم مدينة إلهي، أورشليم الجديدة النّازلة من السّماء من عند إلهي، واسمي الجديد. مَن له أذن فَلْيسمع ما يقوله الرّوح للكنائس”
الجملة السّابعة: “مَن يغلب سأعطيه أن يجلس معي في عرشي (أيّ العرش الّذي يجلس عليه الآب) كما غلبْتُ أنا أيضاً وجلستُ مع أبي في عرشه”.
سبع جمل تتضمّن “مَن يغلب” والرّقم 7 هو رمز الكَمال. إذاً في النّهاية، الغلبة تعني “كما غلبتُ أنا”. ويبقى السّؤال “كيف غلبَ؟” هنا نعود إلى عنوان موضوعنا “ثقوا قد غلبتُ العالم”.
ثلاثة أنواع للغلبة: الأوّل هو عندما تنتصر في المعركة، وليس من الضّروريّ أن تكون قد كسرتَ عدوّك. أمّا الثّاني فهو أنّك تربح عندما لا يكسرك عدوّك. والنّوع الثّالث من أنواع الغلبة هو عندما تبقى صامِداً ولا تسمح لعدوّك بأن يجعلك تحت رعايته وحكمه، فبهذا تكون قد غلبته. وتُضاعف غلبتك إذا استطعتَ أن تجعله تحت حكمك.
النأي بالنّفس، في الإنجيل، أمرٌ سلبيٌّ، لا تستطيع أن تقف على الحِياد في الإنجيل فهو موقف سلبيّ لأنّك أنتَ لستَ معه. لذلك عليك أن تكون إمّا مع الله وإمّا مع الشّيطان.
والسّؤال الأساسيّ “كيف غَلَبَ يسوع؟” أوّلاً، تجربة يسوع في البريّة حيث لم يستطع الشّيطان أن يجعله تحت حكمه فغلبه، بمعنى آخر، رفض يسوع أن يقبل بأيّ شيءٍ يُعطيه إيّاه الشّيْطان حتّى ممالك العالم. لقد رفض أن يأخذ أيّ سلطان يأتيه من غير الله لأنّه، بالنّسبة إليه، شيْطانيّ. كلّ مساومة على حساب العلاقة بينه وبين أبيه هي شيْطانيّة. لذلك في تجربة يسوع في البريّة، كانت أجوبته، لثلاث مرّات، من الكتاب المقدّس من سفر تثنية الاشتراع أيّ من فم الله. عندما قال له الشّيطان: “حَوّل الحجارة إلى خبز إذا كنتَ أنتَ ابن الله” أيّ أنتَ غالِب وقادر على تحويل الحجارة إلى خبز فتأكل، لأنّه كان جائعاً.
أجابه يسوع من سفر تثنية الاشتراع: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله”. أيّ أنا قادِر وأستطيع أن أُظهِر قدرتي ولا أفعل. “وجاع أخيراً بعد أربعين يوماً” هو لم يصم بل جاع. والفرق بينهما أنّه خلال الصّوم، الإنسان يتوقّف عن الطّعام إراديّاً، أمّا يسوع، في الإنجيل، فلم يتوقّف عن الطّعام بل كان في البريّة حيث هو مجبرٌ على ألّا يأكل. إذاً لا أحد يصوم كما صام يسوع. لقد اقتيد بالرّوح إلى البريّة بِحسب إنجيل مرقس أيّ رُغماً عنه. ذهب إلى البريّة ولمّا جاع أيّ واجَهَ الموت حَضَرَ الشّيْطان في لحظة مواجهة يسوع للموت بسبب عدم الأكل. عندها طلب إليه أن يُحوّل الحجارة إلى خبز، فرفض، ولكن، لو كان ذلك الصّوت من عند الله لَكان فعل ذلك. هذا يُذكّركم بآدم الأوّل وحوّاء الّلذيْن سمعا اقتراح الأفعى وهي حيوانٌ لا يسمع، ولاحظتم، في سفر الرّؤيا، جملة “مَن له أذنان فَلْيسمع”. أن تكون الأفعى لا تسمع يعني أّنّ كلّ مَن لا يسمع كلمة الله لا إمكانيّة له لأن يتوب.
لذلك عندما أمسك أحد تلاميذ يسوع سيفاً وقطع أذن أحدهم، أوقفه يسوع وأعاد أذن الآخر إلى مكانها قائلاً إنّ تلميذه يمنعه من سماع كلمة الله لكي يتوب في حين أنّه يُبشّر مع المسيح، إذاً بفعلته هذه ناقض نفسه. وهذا كان وثنيّاً يُريد القبض على يسوع فأعاد إليه أذنه كي يسمع.إذاً كان يسوع قادِراً، في ذلك الوقت، على أن يجلب اثنتيْ عشرة مجموعة من الملائكة لكي تمنعهم من أخذه ليصلبوه، ولكن لأنّه سمع كلام أبيه لم يقاوم.
ولغاية الآن، لم نرَ أين هي الغلبة. أين ظهرت غلبة يسوع؟ بحسب التّقليد الإنجيليّ، يسوع غلب على الصّليب وليس في القيامة، فهي نتيجة طبيعيّة للغلبة الّتي تمّت على الصّليب الّذي هو، بدوره، نتيجة طبيعيّة للحبّ. إذاً هو واضح أنّ أيّ حبّ نتيجته هي الصّليب. نتيجة الحبّ هي الّذي يُحِبّ وليس الّذي يُحَبّ.مّن يُحبّ يسند رأسه إلى صليب ومّن يُحَبّ يأخذ كلّ ما ينتج عن هذا الحبّ فيفرح. نحن نقول “افرحوا وتهلّلوا المسيح قام”.
لا كلام لنا على الصّليب من حيث الألم بحدّ ذاته، فالله لا يُقدّس الألم بل المُتألّم، كما أنّه لا يُحبّ الفقر بل الفقير، ولا يُحبّ الموت بل المائت. انتبهوا كي لا يصبح ديننا دين يأس وفلسفة يونانيّة هدفها العذاب والوجع. ولكن، مَن يُحبّ يُعطي، وكلّما كَبُر حبّك كَبُر عطاؤك فتعبّر عن حبّك الكبير بعطاء أكبر. وعندما يصل حبّك إلى المطلق سيكون عطاؤك إلى المطلق، والعطاء المطلق هو حياتك. لذلك النتيجة الطّبيعية للحبّ هي أن تصبح حياتك ملك الآخر، كما تقول الأم تيريزا: “العطاء الموجع”، لأنّ المسيح أحَبَّ حتّى المُنتهى وكان لا بدّ من أن تكون نتيجة حبّه الطّبيعيّة هي الموت الّذي أتى إلى يسوع عن الطّريق المحبوب، وهذا هو ما يؤلم. لذلك في الصّليب صورة الوجع لأنّه بدأ بالحبّ. قال يسوع: “مَن أراد أن يتبعني فَلْيحمل صليبه” والصّليب ليس الألم بل الحبّ الّذي اتّخذته نهجاً بسبب اتّباعك للمسيح، لأنّ الله محبّة.
هناك نتيجة أخرى للحبّ وهي العبوديّة، فكلّ حبّ حقيقيّ فيه عبوديّة إراديّة، طوعيّة مثل حبّ الأمّ لابنها أو حبّ الحبيب لحبيبته. إذاً الحبّ يأخذ منحى العبوديّة أيّ الضّعف. هنا، تذكّروا الله الّذي، منذ الأزل، خالِق الدّنيا، جالِس على العرش السّماويّ، بسبب حبّه ينزل على الأرض ليصير إنساناً ضعيفاً مثلي، يُشاركني اللّحم والعظم، لكن من دون الخطيئة.لم يرتكب يسوع الخطيئة لأنّه ليس بحاجة إلى شيء أمّا نحن فنرتكب الخطيئة لأنّ لدينا وَهْم الحاجة، نحتاج فنسعى إلى تحقيق هذه الحاجة والوسائل لذلك هي المشكلة. يسوع ليس بحاجة إلى شيء إلّا كلمة الله الّتي تخرج من فمه إلى أذنَيْه فيكتفي يسوع الإنسان بذلك. إذاً في الحبّ ضعفٌ ولكنّ الضّعف الإراديّ هو أعظم صورة عن القوّة. وهكذا صنع يسوع.
هذا الربّ “يسوع” الّذي تعبدونه وتتغنّوْن به وتحتفلون بكلّ أعياده، هذا الّذي ارتضى، بسبب حبّه، أن يكون ضعيفاً حتى أنّه قَبِلَ بِلَطْمَة من أحدٍ، لا قيمة له، فقط لأنّه يُحبّه. هذا الحبّ أوْصَلَ الربّ يسوع إلى أن يقبل بأن يرفضه الّذين يُحبّهم، ومّن رفضه لم يكتفِ بالعداوة بل قرّر أن يُلغيَهُ لأنّه حين رآه فُضح رفضه له. لقد ألغاه بذكاء فصلبه، لأنّ الربّ يسوع جعل نفسه عبداً له لأنّه يُحبّه، كما يُصلب العبيد. وعلى الصّليب تحوّل هذا المصلوب إلى عريس لِعروس خائنة هي البشريّة الّتي رفضت حبّه إلاّ أنّه تزوّجها. ظهر الدّم من جنبه إضافةً إلى المياه وهذا يعني أنّه عندما يتمّ الزّواج يجب أن يُثمر حياةً. حصل الزّواج بين المسيح وكنيسته على الصّليب، هنا الغلبة وهنا الانتصار لأنّه كان من المفترض أن ينتهي ذكراه بعد قتله. فإذا به يصنع خليقةً جديدةً في المكان نفسه حيث الموت، على الصّليب. ولأنّ هناك حياة، كان لا بدّ للمسيح من أن يظهر قائماً من بين الأموات؛ وقام المسيح من بين الأموات. عندما ذهبْنَ إلى قبره قال لَهُنَّ الّذي أخبرهم أنّ المسيح قام: “أنتنّ تطلبْنَ يسوع النّاصريّ المصلوب؟ قد قام ليس هو ههنا” أي أنتنّ تشعرنَ بالحنين إلى الوضع البشريّ في الوقت الّذي أصبح فيه يسوع على العرش السّماويّ.
إذاً الجمل السّبعة من سفر الرّؤيا الّتي تتضمّن “مَن يغلب كما غلبتُ أنا” تعني أنّه مَن يُحبّ كما أنا أُحبّ يصل إلى العرش أي يصبح وريث الله. يسوع هو وريث الله الوحيد وأنتَ تُصبح مثله إذا غلبتَ أي إذا لم تسمح للشّيْطان والعالم أن يجعلوك تحت حكمهم، كما فعل القدّيسون من قبلنا. وإذا لم تتعلّم لغة العالم وبقيت كلمة الله في أذنك وبالتّالي في نطقك، أنتَ غلبتَ.
إذا كان ما تُعانيه من الحبّ ينتج عنه حياةً للآخر وإن سرى الموت فيك، تكون أنتَ قد غلبتَ. هكذا حصل مع يسوع ومع الرّسل. وكما يقول بولس الرّسول: “الموت يسري فينا والحياة فيكم”. ولكن بعد أن تقبل بهذا الحبّ وتفرح به ستُصبح مُحِبّاً تلقائيّاً عندما تنتبه إلى حبّ الله لك، وعندما تصبح مُحِبّاً تكون مُتّجِهاً إلى الصّليب ولكن بعد الصّليب هناك القيامة. الصّليب هو الّذي يوصِلك إلى القيامة ولا ينتج عنه الوجع بل الحبّ.
أنتم تقتربون من عيد الفصح، من الأسبوع العظيم الّذي يكشف الله فيه عن كلّ ما هو مُخبّأ. كان يُخفي فقط أنّه هو الكائن المُحبّ، هو المحبّة الكاملة، هو الأب، وقد كشف ذلك على الصّليب.
إذا ضرب إنسانٌ قويٌّ آخرَ ضعيفاً وبقي بجبروته لا قيمة لقول الضّعيف إنّه سامحه بينما إذا الضّعيف سبّب الأذى للقويّ وهذا الأخير يستطيع أن يُدافع عن نفسه لكنّه لم يفعل بل سامحه، فالقويّ هو الّذي يغفر. وبالتّالي إذا غفر القويّ سيكون غفرانه قويّاً.
قال يسوع، وهو على الصّليب: “اغفر لهم” بسبب قوّة حبّه لِمَن قتله، فكان على الله ألّا يقبل بما فعلوه بوحيده إلّا أنّ الربّ يسوع أضاف: “لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. يقول بولس الرّسول في كورنثوس 15: “أين شوكتك يا موت؟ أين غَلَبَتُكَ يا جحيم؟ قام المسيح”.
ملاحظة : دُوّنَ الموضوع من قبلنا بتصرّف