الفصل الثاني: المُرافَقَة بعد الحدث “عتاب وتساؤلات”
الخوري لويس سعد،
تأمّل:
بِاسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
سوف نُصلِّي معًا هذا المزمور، الّذي هو عبارة عن صرخةِ مؤمنٍ في قَلبِ الحَدَث، أي في قَلبِ الألم. إنّ هذا المزمور يُعبِّر عن عِتابٍ المؤمِن المتألِّم وعن تساؤلاته، وهذا هو محور حديثنا اليوم. يُوجِّه صاحب المزمور صلاتَه إلى الله قائلاً:
“في يوم ضيقي، التمَستُ الربّ. يَدِي في اللَّيل انبسَطَتْ ولم تَخدَر. رأتْ نفسي التَّعزية. أذكُرُ اللهَ فإنّي أئنُّ. أُناجي نفسي فيُغشى على روحي. أمسَكتُ أجفانَ عينيَّ، انزعجتُ فَلَم أتكلَّم. فكَّرتُ في أيّام القِدَم، السِّنين الدَّهريّة. أذكُرُ تَرَنُّمي في اللَّيل. مع قلبي أُناجي وروحي تبحث: هل إلى الدُّهور يَرفض الربّ ولا يعود للرِّضى بَعد؟ هل انتَهَتْ إلى الأبد رَحمَتَه! انقَطعَتْ كلمتُه إلى دُور فَدُور”.
مِن خلال لقائنا اليوم، نسأل الرُّوح القُدس أن يُعطينا نِعمةَ فَهْمِ صمتِ الله الّذي يهدف إلى نُموِّنا: فمِن خلال صَمتِه، يقول لنا الربّ إنّ كلَّ الأشياء تعمل معًا لِخَير الّذين يُحبُّونَه، أي المدعوِّين بحسب قَصدِه. بارِك يا ربّ لقاءنا، وبارِك كلَّ الحاضرين معنا اليوم كما الغائِبِين. بارِك كلَّ المتألِّمين وكلَّ الّذين خَسرِوا أحبّاءَ إلى قلوبِهم. أعطِنا يا ربّ روحَك القدَّوس، كي نتمكَّن من لَمسِ كلِمَتِك في هذا اللِّقاء، لكَ المجد من الآن وإلى الأبد. آمين.
شرح الفصل الثاني:
في لقائنا الماضي، تَحدَّثنا عن الصِّراع الّذي يعيشه المؤمِن، عندما يتعرَّض لحدَثٍ أليمٍ، وقد قُلنا إنّ هذا الصِّراع ينقسِم إلى ثلاث مراحِل.
المرحلة الأولى، هي إنكار المؤمِن لِحدوث الـمُصاب الّذي ألـمَّ به: فالإنسان كما قُلنا يُحِبّ الحياة ولا يتوقَّع أن يتعرَّض لأمورٍ سيِّئة. فالإنسان يسعى دائمًا في هذه الحياة إلى تحقيق أحلامِه متناسيًا أنّه يعيش في عالمٍ هَشٍّ، في عالمٍ له نهاية، وهذا يعني أنّ الإنسان، كسائر المخلوقات، له أيضًا نهاية، إذ إنّه مخلوقٌ من التّراب وسيَعود إلى التَّراب. غير أنّ الإنسان للأسف، يحاول إبعاد هذه الحقيقة عن تفكيره قَدر الإمكان؛ لذلك، يَعمَدُ إلى إنكار الـمُصاب الأليم ورَفضِه.
بعد مرحلة الإنكار، ينتقل المؤمِن إلى مرحلةٍ جديدة، هي مرحلة الغضب. في هذه المرحلة، يعتبر المتألِّـمُ أنَّ كلَّ النَّاس مِن حولِه أعداءٌ له، ويَصل به الغضب الموجود في داخلِه إلى حدِّ اعتبار الله أيضًا عدوًّا له، إذ يَعتَبر أنّ الله قد ظَلَمه عندما تعرَّض لهذا الحدث الأليم.
في هذه المرحلة، يَعمد الكثيرون إلى الوقوف إلى جانب المتألِّم من خلال السَّعي إلى تبرير الله وإلى تبرير الأحداث الّتي وَقَعتْ؛ وهذا أمرٌ خاطئٌ تمامًا، لأنَّ الإنسان المتألِّم، يحتاج في هذه الأوقات إلى وجود مُرافِقٍ إلى جانبه، كي يتمكَّن من اجتياز هذه المرحلة.
وقد تحدَّثنا أيضًا في لقائنا الماضي عن مواصفات المرافِق ودَورِه، وقد وَضْعنا مبادئَ وأسُسَ المرافقة. وقد قُلنا إنّ على المرافق العَمل على تخفيف ألمَ المـتألِّـم لا المزايدة عليه.كما قُلنا إنّ في لقائه بالمتألِّم، على المرافق التحلِّي بأمورٍ ثلاثة:
- أن يكون أمام هذا الشَّخص المتألِّم بكلِّ لياقته وكلِّ تفكيرِه وذِهنِه، في جسده وفي روح الخدمة الّتي يمتَلِكُها.
- أن يتحلّى بالصَّمت، مُتشبِّهًا بِرَبِّنا يسوع: ففي قلب المحنة، كما يقول صاحب المزمور، لا يعود الإنسان المتألِّم قادرًا على الشُّعور بحضور الربّ. لذلك، نراه يطرح السُّؤال على الربّ قائلاً: يا ربّ، لماذا لا تتكلَّم، لماذا تبقى صامتًا، لا تنطِق بأيّة كلمةٍ، تُخفِّف بها من ألمي وتُعطيني التَّعزية؟
- أن يترك الأحداث تمرُّ، فيَكون حاضرًا وغائبًا في الوقت نفسه. كما نقول باللُّغة العاميّة: “خفيفٌ في حضوره”، منتبهٌ لكلِّ ما يَحدث مع المتألِّم، وممتلئٌ بمشاعر المحبّة والعَطف تجاه المتألِّم، الّذي يرافِقه، من دون أن يُشعِرُه بأيِّ ثِقلٍ.
هذا باختصار ما تكَلَّمنا عنه في لقائنا الأوَّل. وعندما تُرسِل لكم الجماعة موضوعَنا السّابق، يمكنكم الغوص أكثر في كلّ تفاصيله.
إذًا، إخوتي، يقوم دَور المرافِق على خَلق مناخٍ رقيقٍ وخفيفٍ أمام المتألِّم، يسمح لهذا الأخير بالتَّعبير عن كلِّ ما يُخالجِه. وقد سَبق وأشَرنا في لقائنا الماضي، أنّه على المرافِق الإصغاء إلى المتألِّم الذي يقوم بالصُّراخ ومعاتبة الله على ما حَدَث له، من دون الاعتراض على أيّةِ كلمةٍ يسمعها من المتألِّم أو السَّعي إلى إيجاد التَّبريرات؛ فالمتألِّم، في هذه المرحلة، لا ينتظر مِنَّا أجوبةً عن أسئلتِه، فَهو لا يزال في مرحلةٍ تجعل منه إنسانًا غير قادرٍ على قبول أيِّ جوابٍ، حتّى وإن أتاه هذا الجواب من الله نفسِه.
اليوم، سنتكلّم عن المرحلة الثانية، والّـتي تبدأ بعد انتهاء مراسِم الدَّفن وانتهاء مرحلة تقديم واجب العزاء، إذ يذهب الجميع إلى بيوتِهم، ويبقى المتألِّم وحيدًا في بيته، يعيش في الفراغ ويشعر بالعُزلة. عندها، ينتقل المتألّم إلى مرحلة المعاتبة، وَطرح التَّساؤلات. ففي المرحلة الأولى، كان المتألِّم، يشعر بالذّنب، لأنّه كان يظنّ أنّه، بسبب تقصيره أو بسبب ارتكابِه خطأ ما أو بسبب ارتكاب العائلة خطيئةٍ ما، تُوفيّ الشَّخص العزيز على قلبه. في هذه المرحلة أيضًا، يَعتبر المتألِّم أنّ الله قد ظَلَمَه لأنّ المتوفيّ كان شخصًا مؤمِنًا، وكذلك العائلة الّتي كان ينتمي إليها هذا الشَّخص المنتقل من بينِهم. في هذه المرحلة، نلاحظ أنّ الشُّعور بالذَّنب عند المتألِّم لا زال موجودًا ولكنَّ المتألِّم سيَبدأ بالخروج قليلاً من هذا الحدث، إذ يَبدأ بالمعاتبة بِتَحبُّب في بعض الأحيان، وفي أحيانٍ أُخرى، تكون معاتبتُه متَّسمة بالقساوة. هنا، تَجدر الإشارة، إلى أنَّ دَور المرافِق يقوم على الإصغاء إلى كلِّ ما يتلَّفظ به المتألِّم، من دون اعتبار أنّ الكلام موَّجه إليه شخصيًّا حتَّى وإن بَدا ذلك ظاهريًّا.
في هذه المرحلة، يبدأ الشَّخص المتألِّم بِطَرح تساؤلاتٍ كثيرة، ويُعاتِب نفسه في بعض الأحيان قائلاً إنّه لو تكلَّم مع هذا الشَّخص الّذي توفِّي قبل حدوث ذلك الـمُصاب له، لَكان مِن شأن ذلك أن يؤخِّر أو يمنع حدوث ما حَدَث، أو لو كان الشَّخص المتوفِّي قد أصغى إلى إرشادات الشَّخص المتألِّم وانتبه لِصحتَّه لما كان المرَض قد تمكَّن منه. هنا، للأسف، يَعمَد الكثيرون من المرافِقين إلى اعتبار ذواتِهم أصحاب اختصاص في هذا المجال، إذ يعتبرون أنّ المطلوب منهم الإجابة عن تساؤلات المتألِّم، ويَشعرون بالافتخار عندما يتمكَّنون من إيجاد الأجوبة المطلوبة.
إخوتي، نحن لا نعرف ما هي حاجة المتألِّم في العُمق، لذلك نحن لا نستطيع أن نؤكِّد بأنَّ إجاباتِنا عن تساؤلاته كانت في الحقيقة نافعةً له، فكلّ إنسانٍ له فرادته ومِيزَتَه الخاصّة؛ وبالتّالي ما قد يكون مَصدَر تعزيةٍ لمتألِّمٍ، قد لا يكون كذلك بالنِّسبة إلى متألِّمٍ آخر. إنّ متألِّمًا قد يَسمَع منِّي كلمةَ تعزية فينال التعزية؛ في حين أنّ آخَرًا قد يسمَع منِّي الكلمة نفسَها، فيشعر بالكراهيّة تجاهي بسبب تلك الكلمة ويَكرَه الله بسببِها.
إخوتي، على المرافِق أن يتحلَّى بِنَوعٍ من التَّمييز، فيتمكَّن من الانتباه للوقت الّذي فيه يحتاج الشَّخص المتألِّم الّذي يُرافِقه إلى كلمةِ تعزية. إنّ ربَّنا يسوع، بواسِطة رُوحِه القدُّوس، هو الّذي يَضَع الكلام على فَم الـمُرافِق ليَتَفوّه به فيتعزَّى المحزون، كما أنّ الرُّوح نفسَه هو الّذي يطلب إلى الـمُرافِق المحافظة على الصَّمت، إذ إنَّ الرُّوح وحده قادرٌ على معرفة حاجةِ كلّ محزونٍ.
في هذه المرحلة، يبدأ المتألِّم بالقيام بمساومات ومعاهدات، وهذه تُشكِّل المرحلة الأولى من العِتاب والتَّساؤلات. في هذه المرحلة، يناجي المتألِّم الربّ قائلاً له: لماذا لم تختَرني أنا بَدَلاً مِن الشَّخص المتوفِّي؟ فأنا هو الإنسان الخاطئ، في حين أنّ الشَّخص المتوفيّ (أخي أو ابني، أو زوجي أو أمّي،….) لم يتركْكَ يومًا، وهو كان دائمَ الاتِّكال عليكَ. في هذه المرحلة أيضًا، قد نسمع المتألِّم يناجي الربّ قائلاً له: إنّه كان على استعداد ليَتعذَّب ويَعيش مَطهره على الأرض، شَرطَ ألّا يُصيب الشَّخص المتوفيّ مكروهًا. كما قد نسمع المتألِّم يقول للرّبّ: لماذا يا ربّ، أفقَدَتني هذا الشَّخص المتوفيّ في حين أنّ الحياة ما زالت أمامه؟. نسمَع هذا الكلام على لِسان المتألِّم حين يكون المتوفِّي لا يزال شابًا وفي كامل صحَّته. إخوتي، أمورٌ كثيرةٌ قد تصدُر عن فَم المتألِّم، تبدو لنا وكأنَّ المتألِّم يقوم بِعَمليّة “شراء وبَيع” مع الربّ، أي كأنَّه يقوم بِمُساوماتٍ مع الربّ. وبالطَّبع في هذه المرحلة، يَبقى الربُّ صامتًا، لا يتفوَّه بأيّةِ كلمةٍ. في هذه المرحلة، يكون الله في حالةِ تَفهُّمٍ للمتألّم، إذ يشعر بالألم الّذي أصاب الإنسان الحزين على فقدان أحد أحبّائه.
لذا، نجد أنّ الربَّ يَقف إلى جانب هذا الإنسان المحزون بطريقةٍ خفيفةٍ جدًّا، حتّى إنّه يصعب على الإنسان المتألِّم الشُّعور بحضور الربّ. في هذه المرحلة، يحمل الربُّ الإنسانَ المتألِّم بين يَدَيه وينتظِر من هذا الأخير أن يَفتَح بابًا له أو فسحةً ولو صغيرةً، ليتمكَّن من الدُّخول إلى أعماقه ليَسكُبَ من خلال روحه القدُّوس تعزياته السّماويّة على قلبه. ولكن في الوقت نفسه، يعود المتألِّم لِيَعيش الشُّعور بالذّنب، ويُعيد المرحلة الأُولى، ويقول إنّنا جميعنا خطأة، والبعض يذهب إلى حدِّ الاعتبار والمجاهرة بأنّ “دعساتِنا على الأرض خطيئةٌ”، وأنّنا نستحقّ ما يحدث معنا، إذ إنّنا مقصِّرين جدًّا تجاه ربِّنا، وأنّه قد أُصِبنا بهذا المصاب بسبب تقصيرنا في الماضي وبسبب خطيئة ارتكبناها، أو بسبب فِعلِ محبّةٍ لم نَقُم به. ويبدأ المتألِّم يَرمي الاتِّهامات والمسؤوليّات على نفسه، مسؤوليّاتٍ لا علاقةَ له بها ولا هي حقيقِيَّة، إذ لم يكن يومًا حزنَنا أو فقدانَنا لأيِّ شخصٍ حبيبٍ على قلبِنا، عبارة عن قصاص أو عقاب أو تأديب من الربّ لنا.
في ظلّ هذه الأجواء الّتي تعتري المتألِّم، على الـمُرافِق اللُّجوء إلى استعمال واحدٍ من هَذَين السِّلاحَين:
- السِّلاح الأوّل، هو: الأسئلة المفتوحة: وإليكم إخوتي، مِثالاً بسيطًا يوضِح لكم ما أقول: فَلنَعتَبِر أنّ هذا الشَّخص المتألِّم قال لِمرافقِه: أنتَ قُل لي، أليس مِن “الحَرام” أن يموت هذا الشَّخص؟ هنا، على المرافق أن يُعيد طَرح السُّؤال على المتألِّم: ما هو مفهوم “الحَرام” بالنِّسبة إليكَ؟ إذ بِتِلكَ الطريقة يُساعد الـمُرافِقُ الشَّخصَ المتألِّمَ على التفكير في كلِّ كَلِمةٍ يتلَّفظ بها. إنّ دَور المرافِق لا يقوم على إعطاء أجوبةٍ للمتألِّم عن التساؤلات الّتي يطرَحها أمامه، إنّما يقوم على مساعدة هذا الأخير كي يَجد هو بنَفسِه الأجوبة عن كلّ تساؤلاته، وبالتّالي يكون المرافِق قد أفسَح في المجال أمام الرُّوح القدس ليُعطي المتألِّم الأجوبة الّتي يَبحَثُ عنها.
- عندما يقوم أحدٌ مِنّا، نحن الحاضرين اليوم، بِدَور المرافِق لِشَخصٍ متألِّمٍ، سيتفاجأ هذا المرافِق عندما يلاحظ أنّ المتألِّم في هذه المرحلة هو الّذي يَطرَح الأسئلة بِصوتٍ عالٍ وهو الّذي يُعطي الأجوبة عن تساؤلاته، كما أنَّ المتألِّم نفسَه سيتفاجأ من الأجوبة والتَّعزيات الّتي يتفوَّه بها، إذ لا يَدري مِن أين أتَت. هنا، إخوتي، يَظهر دَور الرُّوح القدس في قلب هذا الشَّخص المتألِّم. وهنا، يكون المرافِقُ قد أدرَك أنّ يَدَيه فارِغتان ولكنّه سَمح للربّ بأن يقوم بِعَمِله في حياة هذا المتألِّم. إذًا، على المرافِق أن يَطرح الأسئلة على المتألِّم للاستفهام منه عمّا يريد التَّعبير عنه من خلال هذه الكلمة أو هذه الحرَكة الّتي قام بها. وذلك لأنّ كلّ تعبيرٍ يَصدر عن هذا الإنسان المتألِّم الحزين، هو في الحقيقةِ وَجعٌ لا يستطيع أحدٌ مِنّا مشاركتَه فيه أو حَملِه عنه أو الشُعور بقوَّته. إخوتي، لا يحقّ لنا القَول للشَّخص الحزين: أنا “أعرِف” وَجعَك.
- نحن لا نستطيع أن نَعرِف وَجَعَه، نحن نستطيع أن نرى وَجعه، وأن نَسمع صَرخَتَه، إذ إنّنا موجودون بالقرب منه، ونشاهد كلّ ما يحدث معه. إنّ دَور الـمُرافِق هنا، يقوم على طَرح السُّؤال التّالي على المتألِّم: أخبِرني أنتَ ما مدى وجعك؟ وذلك بِهَدَف مساعدته على إخراج وجعِه، لأنَّ كلّ ما يبقى في داخِل الإنسان المتألِّم يتآكَلُه فيَهترِئ هذا الأخير مِنَ الدَّاخل. إذًا، إنّ الهدف مِن أسئلتِنا المفتوحة هو مساعدة المتألِّم كي يكون هو سيِّد الحديث أكان بتساؤلاتِه، أو بالأجوبة الّتي يحصل عليها.
- السِّلاح الثّاني هو إعادة الصِّياغة: إنّ أيّةَ كلمةٍ تَصدر عن فَم المتألِّم، تَفرِض على الـمُرافِق أن يطَرح السّؤال على المتألِّم بشأنها ليَعرِف ما الّذي يَقصِد بها، قائلاً له: ماذا الّذي قَصَدته بقَولِك، على سبيل المِثال، إنّك يائِس أو نادم؟ عندما يُعيد الـمُرافِق صياغة هذه الكلمة الّتي تفوَّه بها المتألِّم، يُساعد هذا الأخير على الدُّخول إلى المعنى الأعمق للكلمة الّتي قالها. على سبيل المِثال، عندما يقول المتألِّم إنّه لا يملِك “جلادة” أو المروءة للقيام بهذا العمل، على الـمُرافِق أن يَطرح عليه السُّؤال ما الّذي يَقصِده بهذه الكلمة؟ فيقول لنا المتألِّم على سبيل المِثال إنّه يشعر بالإرهاق والتَّعب الجسديّ، لذا لا يرغب في القيام بهذا العمل أو ذاك. هنا، على الـمُرافِق أن يسأل المتألِّم عن الأسباب الّتي أدَّت إلى شعوره بهذا التَّعب. هنا، قد يقول لنا المتألِّم إنّه يشعر بالتَّعب لأنَّه عَمِلَ طوال النَّهار في المنزل أو بسبب تفكيره المتواصِل في ما حدَثَ معه. عندما يُعطينا المتألِّم سببًا لشعوره بالتَّعب، نكون قد نَجَحنا في مساعدته على إخراج كلّ تساؤلاته وكلّ مخاوفه المستقبليّة إلى العَلن.
- هنا، أودّ أن أقول لكم إنّ الـمُرافِق قد يجد صعوبةً في المحافظة على صمته إذ قد يسارِع إلى إعطاء المتألِّم أجوبةً عن تساؤلات هذا الأخير، فبالنِّسبة إلى الـمُرافِق قد يكون الأوان قد آن ليَخرج المتألِّم مِن حزنه بعد مرور أكثر من أربعين يومًا على وفاة الشَّخص العزيز، وأنَّ الوقت قد حان ليبدأ المتألِّم برؤية ما قَبل الحَدث وما بَعدَه. ففي هذه المرحلة، يكون المتألِّم قد تجاوز مرحلة الإنكار للحدث، وأصبح الآن في مرحلة الإدراك لِحقيقة ما حَدَث. إذًا، إخوتي، على الـمُرافِق أن يستعمل الصَّمت، عندما لا يكون السّؤال المطروح من قِبَل المتألِّم موَّجهًا بطريقة مباشرة إلى الـمُرافِق؛ وأن يستعمل الأسئلة المفتوحة على التساؤلات المطروحة من قِبَل المحزون.
- وبالتَّالي، بهذه الطريقة، يكون الـمُرافِق كالحاضر الغائب في حياة هذا الشَّخص المتألِّم. هنا، أريد أن أُعطي ملاحظةً وهي أنّه على الرُّغم من استعداد الـمُرافِق وجهوزيّته لمساعدة المتألِّم، قد يتفاجأ بأنّ المتألِّم لا زال صامتًا لا يتفوّه بأيّة كلمة، أي أنَّه لا يُعبِّر عمّا في داخِله. في هذه الحالة، على الـمُرافِق أن يبادِر إلى طَرح الأسئلة. والسّؤال الأوّل مِن قِبل الـمُرافِق للشَّخص المـتألِّم، يكون: أخبِرني ما الّذي شَعرتَ به، عندما أخبروك بما حَصَل؟ إنّ المتألِّم الصَّامت، الّذي لا يُخرِج التساؤلات والعِتاب وشعوره بالذَّنب من داخِله، يكون قد سَمح للحزن بأن يتآكَله من الدَّاخِل. في هذه الحالة، على الـمُرافِق أن يكسِر الصّمت، من خلال مبادرته إلى طَرح الأسئلة على المحزون، لأنّ محافظته على الصّمت لا فائدة منها للمتألِّم الصّامت.
- ولكن، في هذه المرحلة، على الـمُرافِق عدم إعطاء الحزين، أجوبةً عن التساؤلات الّتي يحاول الـمُرافِق إخراجَها من المتألِّم. إنّ مَهمَّة الـمُرافِق هنا، تقوم على أن يُعيد المتألِّم الصّامت إلى الحدث، طارحًا هذه الأسئلة عليه: ما الذي شعرتَ به عندما وَصَلك نبأ الوفاة؟ ما الذي تَبادَر إلى ذِهنِك؟ مَن أخبرتَ أوّلاً بهذا المصاب؟ فكما أنّ الإنسان الّذي تعرَّض للتسمُّم بسبب تناوِله طعامًا فاسدًا، تكون معالجته من خلال مساعدته على إخراج الطَّعام الفاسد من داخله، كذلك أيضًا المتألِّم، فهو لن يشعر بالرَّاحة إلّا إذا أخرَج إلى العَلن كلّ ما يَدور في داخلِه. إنّ المتألِّم يكون في حالةٍ خَطِرةٍ جدًّا، إذ أبقى كلّ مشاعره السّيئة في داخله. فإذا لم يتمكَّن المتألِّم من إخراج كلّ ما في داخله، فهذا يعني أنّه علينا عدم ترك هذا الحزين وحيدًا وتكثيف الاهتمام به. إنّ المؤمِن الذي يَعمل على مرافقة أخيه المتألِّم، يسعى إلى إرضاء الله من خلال خدمته هذه. لذا، علينا أن نكون على ثقة بأنّ الربَّ سيأتي سريعًا لنَجدة ضُعفنا، وسيَضع على شِفاهنا الكلمة المناسبة ويمنحنا الطريقة المناسبة لإيصالها إلى الشَّخص المتألِّم، ليتمكَّن هذا الأخير من اجتياز هذا الألم. شُكرًا لإصغائكم.
- ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلنا.