الفصل الثالث: المُرافَقَة في ضوء الحدث “عتبة العبور إلى النّور”
الخوري لويس سعد،
تأمّل:
في هذا اللِّقاء، سوف نصلِّي معًا، المزمور القائل (31):
“عليكَ يا ربّ تَوّكلتُ. لا تَدَعْني أخزى مدى الدَّهر. بِعَدلِكَ نَجِّني، أمِل إليَّ أُذُنَكَ، سريعًا أنقِذني. كُن لي صَخرَةَ حِصنٍ، بيتَ مَلجئٍ لتَخليصي، لأنَّ صخرَتي ومَعقَلي أنتَ. مِن أجل اسمِكَ تَهديني وتقودُني. أخرِجني مِن الشَّبكة الّتي خبَّؤها لي، لأنَّكَ أنتَ حِصني. في يَدِك أستودِع روحي، فَدَيتَني يا ربّ، إله الحقّ. أبغضتَ الّذين يُراعون أباطيل كاذبة.
أمّا أنا، فعلى الربِّ تَوّكلتُ. أبتهجُ وأفرَح برَحمتِكَ لأنَّكَ نَظَرتَ إلى مَذلَّتي، وعرَفتَ في الشدائد نفسي، ولم تَحبِسني في يدِ العدّو، بل أقمتَ في الرُّحبِ رِجلَيَّ. إرحمني يا ربّ، لأنِّي في ضيق. خسَفتْ مِن الغمِّ عَينَيّ، نفسي وبَطني، لأنّ حياتي قد فَنِيَت بالحزن، وسِنيني بالتَّنهُّد. ضَعُفتُ بشقاوة قوَّتي، وبَلِيَت عِظامي”.
مع صاحب المزمور، نقول للربّ: يكفينا أن يَرِّفَ روحَك القدُّوس على قلوبنا، لِيَمسح دموعَنا ويُعطينا نَسَمةَ حياةٍ من جديد.
المجد للآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحِد، آمين.
شرح الفصل الثالث:
اليوم، سنَعتبر أنّ هذا المتألِّم قد انفتح على الآخَرين، إذ لاحَظنا تفاعُلَه معنا، فهو قد تجاوبَ معنا لأنَّه أخبرَنا عمَّن زاره في الفترة الأخيرة، ولكنّه كلّما تكلَّم ذَرَف الدُّموع. هنا، نُدرِك أنّ الحياة بدأت بالعودة إلى طبيعتها عند هذا الشَّخص المتألِّم.
في المرحلة الثالثة، على الـمُرافِق متابعة طَرحِ الأسئلة على المتألِّم بِهَدف معرفة كيف أمضى هذا المتألِّم يومه. في هذه المرحلة، على الـمُرافِق أن يُعيد المتألِّم إلى الحدث الأليم، ولكن لا ليُلقي الضّوء على الأمور السّلبيّة فيه، إنّما لإلقاء الضَّوء على الأمور الإيجابيّة الّتي حصلَتْ مع المتألِّم، على الرُّغم من هذا الحدث الأليم. على الـمُرافِق أن يسعى إلى إعادة المتألِّم إلى يوم الحَدَث، انطلاقًا من اليوم. على الـمُرافِق أن يسأل المتألِّم عن كيفيّة إمضائه هذا اليوم، ثمّ يعود به إلى الوراء، وصولاً إلى ذلك اليوم الحزين. مِن خلال حديثه مع الـمُرافِق، سيتمكَّن المتألِّم من اكتشاف الأمور الإيجابيّة الّتي حصلَتْ معه، وسيُلاحِظ التَّغيير الّذي طرأ على حياته، على الرُّغم مِن الحدث الأليم، وسيكتشِف أنّه تمكَّن مِن تَخطِّي مرحلة الحُزن والدَّفن.
إنّ الـمُرافِق يشعر بالطمأنينة لحالة المتألِّم، عندما يُلاحِظ أنّ هذا الأخير قد أصبح قادرًا على رؤية “فيلمِ حياته”، بطريقةٍ مترابطةٍ ومُتَسلسِلةٍ من يوم الحدث إلى اليوم. عندها، يتحقَّق في المتألِّم قولَ الربِّ يسوع إلى الرَّسول بطرس: “أُدخُل إلى العمق” (لو 5: 5)، بعدما تَعب بُطرس وسائر الرُّسل، مِن الصَّيد طوال اللِّيل دون جدوى. هذا هو دَور الـمُرافِق في هذه المرحلة، أن يساعد المتألِّم على استرجاع الحدث، لرؤية الإيجابيّات فيه.
والآن، ننتقل إلى المرحلة الرابعة، الّتي فيها يقوم الـمُرافِق بِاستنباط حياة المتألِّم الرّوحيّة. في هذه المرحلة، على الـمُرافِق أن يسأل المتألِّم عن مدى قُدرته على الصّلاة على الرُّغم من حزنه، قائلاً له: هل تمكَّنتَ من الصّلاة خلال هذه الفترة؟ هَل تمكَّنتَ مِن المشاركة في القدَّاس الإلهيّ؟ على الـمُرافِق أن يُعطي الإنسان المتألِّم الحقَّ في عدم شعور هذا الأخير بالرَّغبة في الصّلاة، إذ لا يجوز للمُرافِق المزايدة على المتألِّم قائلاً له إنّ فترة الحُزن قد وَلَّت، وقد آن الأوان للعودة إلى الحياة الطبيعة، وخصوصًا إلى المشاركة في الاحتفالات الكنسيّة، نظرًا إلى أنَّه، أي المتألِّم، شخصٌ مؤمِنٌ.
في هذه المرحلة، قد يُخبرِنا المتألِّم أنّه شاهد قدّاسًا على التِّلفاز، أو أنّه حاول تلاوةَ بيتٍ من المسبحة عند سماعه لها على الرَّاديو، أو أنّه أمسَك بمسبحةِ فقيدِه وقام بِتلاوة بيتٍ منها، غير أنّه عَجِز عن إكمالها حتّى النِّهاية؛ وأنّ كلّ ذلك أشعَرَه بالرَّاحة. إنّ الهدَف من استنباط حياة المتألِّم الرُّوحيّة هو معرفة مدى استعداد هذا الأخير للانفتاح مجدَّدًا على الله وإعادة العلاقة معه. إنّ دَور الـمُرافق يقوم على مَعرفة العَراقيلِ التّي تمنعُ الشَّخص المـتألِّم مِن فَتح الباب أمام الربّ، لإعادة العلاقة به، وإعادة العلاقة مع مَريم. قد يُخبرنا المتألِّم أنّه كانت لديه الرَّغبة في المشاركة في القدَّاس، ولكن ما إنْ تذكَّر مُصيبته حتّى شَعر بالتَّعب والإرهاق، فتَراجع عن الذّهاب إلى الكنيسة وبَقِي في البيت. هنا، على الـمُرافِق أن يسأل المتألِّم عن سبب شعوره بهذا التَّعب والإرهاق، ليَعرف ما إذا كان هذا الإرهاق هو حقٌّ مشروعٌ له إذ إنّه ناتجٌ، على سبيل المِثال، عن اهتمام هذا الأخير بِمَنزله، أو أنّه عائدٌ إلى سببٍ آخر. من خلال طرحِه هذه الأسئلة على المتألِّم، يُساهِم الـمُرافقِ في فَتح الباب للرُّوح القدس ليتمكَّن من الدُّخول إلى الفراغات الموجودة في حياة المـتألِّم لِيَملأها من روحه ويُشعِل قلبَه بالإيمان من جديد. عندما يُخبرنا المتألِّم أنّه يحاول الصّلاة وأنّه نَجح في القيام بِذَلِك في بعض الأحيان، وأنّه أَخفَقَ في أحيانٍ أُخرى، علينا الشّعور بالرّاحة لحالته، والعمل معه على الغوص في العُمق.
في هذه المرحلة، نستطيع القيام، بما تقوم به السّيدة جانيت، وهو أن نَعرُض عليه أن يشاركنا في الصّلاة مِن خلال تلاوة صلاةٍ معيّنة معنا بِصَوتٍ مرتَفِعٍ. وإذا قَبِلَ المتألِّم بأن يشاركنا في صلاةٍ معيّنة، علينا أن نسأله عمّا شعرَ به عندما صلَّى معنا، مشِّجعين إيّاه على المثابرة على القيام بِذَلك. هنا، على الـمُرافِق الاكتفاء بما قام به المتألِّم في أثناء الصّلاة من دون الطلب إليه المزيد من الالتزامات الكنسيّة، كالمشاركة في القدّاسات أو غيرها، كي لا يشعر هذا الأخير من جديد بالاختناق. إنّ شعور المتألِّم بالرَّاحة والسّلام في أثناء تلاوته الصّلاة معنا، سيَدفعه إلى طرح السّؤال علينا حول مواعيد بعض الاجتماعات الكنسيّة. هنا، علينا تزويده بمواعيد تلك اللِقاءات، داعين إيّاه للمشاركة فيها عندما يرغب في ذلك.
بعد تواصُلِنا مع المتألِّم ومشاركتَه الصّلاة، ننتقل إلى المرحلة الخامسة وهي: طَرح السّؤال على المتألِّم لمعرفة نظرته إلى الأمور بعد مرور فترة من الوقت على الحدث الأليم، وذلك بهدف مساعدته على تجاوز حزنه. إنّ الحاضرين معنا اليوم، الّذين اختبروا الحزن، يُدرِكون تمامًا أنّ صُوَرًا كثيرةً تتبادر إلى مخيّلة الـمَحزون، تُصَوِّر له كلّ ما يخاف من حدوثه، أو العكس، أي كلّ ما يتمنّى حدوثه. بعد شعور المتألِّم بالرَّاحة عند صلاته معنا، نسأله عن رؤيته للأمور، من حوله. عندها، سيُخبرنا المتألِّم عن كلّ الصُّوَر الّتي تتبادَر إلى ذهنه، وهنا علينا أن نكون مُصغِيين إليه إلى أقصى الحدود، وكأنّ كلّ ما في داخِلنا هو عبارة عن “قلبٍ على شكلِ أُذُن”.
عندما يَتَشتَّت أحدنا في الصّلاة وينجح في طرد الأفكار الّتي تراود ذهنه، سيتمكَّن من الوصول إلى الهدف في صلاته أو تأمِّله، كذلك علينا الإصغاء إلى المتألِّم بشكلٍ فاعلٍ طارِدين كلّ استرسالٍ في أفكارنا. في أثناء إصغائه للمتألِّم، على الـمُرافِق أن يُميِّز بعض الكلمات الـمُهمِّة الّتي قد يسمعها من المتألّـِم والتَّشديد عليها. إخوتي، إنّ الرُّوح القدس هو الّذي يساعد الـمُرافِق على معرفة تلك الكلمات، فيتمكَّن هذا الأخير من تكرارها على المـتألّـِم والتَّشديد عليها. إليكم مِثالاً توضيحيًّا لِما أقول: قد يقول لنا المتألِّم إنّه تذكَّر مُصيبَته وهي لن يعود باستطاعته رؤية والدته مُجدَّدًا، عندما ذهب إلى السُّوق وسمِعَ فتاةً تنادي والدتها قائلةً: “أين أنتِ يا أُمِّي؟”. وعندما عاد إلى منزله، وفتَح الباب، رأى صورة والدته، فنادها: “أين أنتِ يا أمِّي؟”.
هنا، على المرافِق أن يُشدِّد على كلمة “أُمِّي”، فيقول للمتألِّم: كم هو جميلٌ أنّ انتقال والدتَكَ إلى السَّماء، لم يمنعكَ من مناداتِها بعبارة “أمِّي”. هنا، على الـمُرافِق أن يلفت انتباه المتألِّم إلى أنّه لا زال باستطاعته أن ينادي والدته بعبارة “أمِّي”، فهي الآن في السّماء، وهي لا زالت قادرة على سماعه والاستجابة لصوته، لأنّها بالقُرب مِنه. إنّ مِثل تلك الكلمات تُشكِّل نوعًا من السَّكاكر “bonbon” للمتألِّم. غالبًا، ما لا ينتبه المتألِّـم للعبارات الّتي تَصدر عنه، لذا، على المرافِق التَّشديد على بعض الكلمات الّتي من شأنها أن تبَعثَ التَّعزية والرَّاحة والسّلام في نفس المتألِّـم.
بالطَّبع، يحتاج المرافق إلى نعمة التمييز، ليتمكَّن من القيام بهذا الدَّور؛ وهذه النِّعمة يكتسبها مع الخبرة. في هذا اللِّقاء، أجِد نفسي أستِخدم عباراتٍ سمِعتُها منكم في اللِّقاءات السّابقة، وها أنا بَدل أن أكون معلِّمًا لكم، أجِد نفسي أتعلّم منكم. في ما يختَّص بمسألة التَّمييز، أودّ تذكيركم بمشاركة إحدى الحاضرات معنا في اللِّقاءات السّابقة، والّتي أخبرتنا أنّه على أثر فقدانها لابنها، وجدَتْ أنّ الجميع يُحاربونها، لأنَّهم عاتَبوها وحمَّلوها مسؤوليّة موت ابنها، ولكنّها شعرت بالتعزية والفرح حين سمعَتْ كلمةً من إحدى النِّساء اللَّواتي جئن إليها لتقديم العزاء لها بوفاة ابنها.
إنّ هذه المرأة قد انتقلَتْ مباشرةً، على أثر هذا الحدث الأليم، من المرحلة الأولى من الحزن إلى المرحلة الثالثة دُفعةً واحدة. وقد ذَكرَتْ هذه المرأة المتألِّمة أنّ الّتي رافقتها في فترة الألم، كانت الوحيدة الّتي وقفَتْ إلى جانبها في تلك الفترة.كذلك نحن، عندما نقوم بِمرافقة أحد المتألِّمين، علينا الانتباه لهذه الكلمات الّتي يستطيع الربّ من خلالها إعطاء الرَّجاء للمتألِّم وتغيير نفسيّته بكاملها. إذا وجَدْنا أنَّ ملامح وجه المتألِّم قد تغيَّرت، أي أنّه لم يَعد عابسًا، بل إنّ أسارير وجهه بدأت تَظهر، وعيونه لم تَعد مُغلقةً من شِدَّة الحُزن، بل بدأتْ تنفتِح، وأنّ رأسه لم يَعُد منحنيًا بل مرفوعًا، فَذَلِك دليلٌ على وجود تغيير في حياة هذا الشَّخص، منذ دخولنا إلى حياته حتّى اليوم. إنّ إدراكَنا لمدى أهميّة مرافقتنا لهذا الشَّخص المتألِّم، مِن شأنه أن يُعزِّزَ ثِقتَنا بِنَفسِنا بأنَّه يمكننا الذَّهاب إلى ما هو أبعد من ذلك.
في المرحلة السّادسة، علينا التوقّف عن الصّمت، واللُّجوء إلى الغزارة في الكلام في سبيل فَتح الأبواب على كلّ الصُّعُد. في هذه المرحلة، علينا كمُرافِقين، المبادرة إلى طرح الأفكار على المتألِّم، قائلين له، على سبيل الـمِثال: ما رأيك في ما يحدث مِن حولِك في الأوضاع الاقتصاديّة أو في الحياة الاجتماعيّة أو في الحياة الإنسانيّة؟ علينا السّماح للمتألِّم بأن يُعطي رأيه في كافّة نَواحي الحياة الّتي تدور مِن حوله، فالإنسان المتألِّـم هو كسائر البشر لديه اهتمامات وهواجِس؛ ولكن علينا الانتباه لضرورةِ إدخال الفِكر الإيجابيّ إلى كلِّ حديثٍ حول النَّواحي الحياتيّة. إليكم مِثالاً على ذلك: إذا كان المتألِّم يُعبِّر عن إشمئزاره من الأوضاع الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة والإنسانيّة الّتي يَـمُرُّ بها البلد، نقوم بمداخلة في هذا الحديث مفادها أنّ البَلد كان منذ القِدَم على هذه الحال، فقد مرَّت أيّامٌ سوداء على هذه البلاد تفوق هذه الأيّام سوادًا، ولكنّها الحمد لله قد زالَت، وتحسنَّت بعدها الأحوال، إذ ما مِن ضيقة تدوم، ولا بُدَّ لها من أن تُفرَج.
بهذه الطريقة، سنتمَّكن من إخراج كلّ السِّيناريوهات السَّوداويّة من مخيِّلة المتألِّم. من خلال طَلبِنا من المتألِّـم إبداء الرأي في المواضيع الحياتيّة، نُساعده على ملء الفراغ في حياته النَّاتج عن فقدانه للشَّخص المتوفي. في اللِّقاء الماضي، ساعدنا المتألِّـم على إفراغ مشاعره السلبيّة؛ وفي هذا اللِّقاء، نساعده على تحمُّل مسؤوليّة الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة الّتي يعيشها من خلال الطلب إليه إبداء الرأي في كلّ ما يَدور مِن حولِه، ممّا يُساهِم في حثِّه على العودة إلى حياته العمليّة، وإلى علاقاته الاجتماعيّة. في هذه المرحلة، علينا أن نشعر كمُرافِقين أنّنا أصبحنا والمتألِّـم على المستوى نفسه، قادِريَن على رؤية الأمور بِشَكلٍ منطقيّ، إذ أصبحنا معًا نتعاتب ونتعاطف، ونسعى إلى رؤية الإيجابيّات، في كلّ ما يدور حولَنا، طامِحين معًا إلى مستقبلٍ مليءٍ بالخير والبركات.
في المرحلة السابعة، نبدأ بـ “عرض البِضاعة الخاصّة بنا”: وهذا يعني أنّه في هذه المرحلة، أصبح باستطاعتنا التودَّد إلى الشَّخص المتألِّم على مستوى العلاقة الشَّخصيّة، فنُعبِّر عن رغبتنا في تمضية المزيد من الوقت معه إذا كان الوقت يسمح بِذَلِك، وعن تعلُّقِنا به وعن محبّتنا له. في هذه المرحلة، علينا أن نُشعِر الشَّخص المتألِّـم بأنَّنا إخوَة وأحبّاء، أي أنّه أصبح جزءًا من حياتنا، مُبدِين رغبتِنا في استمرار هذه العلاقة؛ ليس كما لو كان مريضًا مع طبيب قد عالجه من حزنه وتَعاطَف معه طيلة فترة الحزن، وقد انتهى الآن وقت العلاج.
إنَّ التعبير عن مشاعرنا تِلك مِن شأنها أن تساعِد المتألِّـم على القبول بِفِكرة الانضمام إلى لجماعة الّـتي ننتمي إليها، إذ بدأ بالامتنان لنا لمساعدته على تخطّي مرحلة حزنه، لأنَّنا لم نتركه وحيدًا في مِحنته. حين يشعر الشَّخص المتألِّـم بالامتنان لنا، سَيَشعر بالتّالي بالامتنان لله، فيشكر الله على وجود أشخاص قربه في هذه الظروف الصّعبة الّتي مرَّت عليه: من إخوته أوّلاً، ومن هذه الجماعة الّتي حضنَتْه ولم تتركه. في هذه المرحلة، إخوتي، نستطيع أن نَعرِض على الشَّخص المتألِّـم الانضمام إلى جماعتنا وإخباره بأنّنا كجماعة استعَدْنا نشاطنا، وأنّ لقاءاتنا تتمّ في هذا المكان وفي هذا الزَّمان، وبالتّالي سنكون فرِحِين لوجوده معنا، متى أراد الانضمام إلينا.
إخوتي، إليكم ملاحظة هامّة في هذه المراحل. علينا أن نكون واقعيين مع المتألِّـم، متجنِّبين كلّ تمثيل. فعلى الرُّغم من انتقائنا لكلامنا في أثناء حديثنا مع المتألِّم، وتسلُّحنا بالرَّجاء والثِّقة، إلّا أنّه علينا عدم المبالغة في ذلك، لأنّنا نبقى بَشَرًا، وعندما نتعرَّض لِمحنةٍ ما، في حياتنا اليوميّة، لا نتوقَّف عن النَّحيب. وبالتّالي، على لسان حالنا الطبيعيّ أن يكون حاضرًا في كلّ حديثنا مع المتألِّـم، فنُعبِّر مَثلاً عن غضبنا وانزعاجنا من قيادة أحد الأشخاص، الّذي اعترض طريقنا في أثناء القيادة، ممّا كان سيُؤدِّي إلى موتٍ حتميّ. إخوتي، علينا التصرّف بطريقةٍ طبيعيّة أمام المتألِّـم، فنُعبِّر عن حقِّنا في الامتعاض ممّا يحصل حولِنا، والتّبرير لذواتِنا في بعض الأحيان، من دون إعطاء تبريرات طوباويّة، فيَشعر كلّ مَن يسمَعنا بأنّنا ملائكة لا بَشَر. إخوتي، علينا إقامة توازن في كلامنا، إذ علينا ألا نتكلَّم بتشاؤمٍ مُطلَق أمام المتألِّـم، فالمتألِّـم يحتاج إلى مَن يَسنده ويرفعه وينتشله لا إلى مَن يُساهم في بقائه في حزنه.
الآن، علينا أن نفتح الباب أمام المتألِّـم للوصول إلى المرحلة الرابعة. في بداية لقائنا اليوم، قُلنا إنّه في هذه المرحلة الّتي نتكلَّم عنها، نَشعر وكأنّ المتألِّـم يقف على عتبةِ نفقٍ مُظلم في بدايته ومُنير في آخِره. في ختام لقائنا مع المتألِّـم، علينا أن نُلَمِّح للمتألِّـم عن وجود هذا الضَّوء، كي يتمكَّن هذا الأخير من فَتح بابٍ للِّقاء الرَّابع. في المرحلة الرابعة، سيَعود المرافق إلى صمته، الّذي تكلَّمنا عنه في المرحلة الأولى، لأنّ المتألِّـم في هذه المرحلة، سيبدأ بالحديث عن اختباره على ضوء الماضي والحاضر والمستقبل. إخوتي، إنّ دَور الـمُرافِق، كما قُلنا، يقوم على مساعدة المتألِّـم على رؤية الحدث الأليم بالكامِل، كي يتمكَّن هذا الأخير من لَمسِ حُبِّ الله له الّذي كان معه قَبل الحدث، وبَقي معه في الحدث، وسيستمرّ معه إلى ما بعد الحدث، إلى اللَّحظة الّتي فيها ينقل إلينا خبرته.
كيف نُلمِّح للمتألِّـم إلى هذا الضَّوء؟ من خلال الطلب إليه أن يُفكِّر في كلّ ما مرَّ به خلال هذا الحدث الأليم، لمعرفة الأمور الّتي يمكنه الحديث عنها، أي أنّه علينا مساعدته على تَذَكُّر كلّ الأحداث والأوقات الّتي تَلمَّسَ فيها تعزيةً من الربِّ له، وشَعر فيها بالأمان. كما علينا مساعدته على تَذكُّر الأحداث والأوقات الّتي شَعر فيها بالمسؤوليّة، خلال هذا الحدث الأليم. كما علينا مساعدته على تحديد الأوقات الّتي شَعر فيها بأنّ الحِمل أصبَح ثقيلاً عليه، ولكنّه على الرُّغم من ذَلِك ما زال صامِدًا.
إذًا، إنّ دَور الـمُرافِق يَقوم على أن يساعد الشَّخص المـتألِّـم على تلَّمُس اجتيازه للحدث الأليم، وانتقاله من مرحلةٍ تَحمِلُ الرَّقم صِفر إلى مرحلة تَحمِلُ الرَّقم عشرة. وإن لم نتمكَّن من ذلك، فهذا يعني أنّنا فشِلنا في إعطائه شهادةً على إيماننا. إذًا، علينا مساعدة الشَّخص المتألِّم كي يتمكَّن من رؤية كلّ الحدث، مِن خلال الإضاءة على بطولته في اجتيازه، بِغَضّ النَّظر عن الحالة الّتي كان فيها حين اجتاز هذه المرحلة الأليمة، أكان قد اجتازها، مجروحًا أو زَاحفًا أو هَاربًا خائفًا من آخرٍ يلحق به. إذًا، علينا، كمُرافِقين، أن نَدُلَّ المتألِّـم إلى الضَّوء الموجود في آخر النَّفق، والّذي ما زال بعيدًا، ولكن أصبح بإمكاننا رؤيته إذ تمكَّن المتألِّـم من اجتياز حُزنه.
ها نحن انتهينا من هذا اللِّقاء، ونحن على عتبة القيامة، الّتي ستكون موضوع حديثنا القادم.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ مِن قِبَلنا.