الرياضة السنويّة 2024 بعنوان: “إنّ كلّ ما طَلبْتم من الآب بِاسمي يُعطِيكم” (يو 16: 23)
المركز الرّوحيّ – زوق مكايل، كسروان.
عظة القدّاس الإلهيّ: “”إنجيل الابن الضّال”
الخوري جوزف سلوم،
ها نحن في أحد الابن الشَّاطر، وهو الأحد الّذي يُشير إلى أنّنا قد أصبَحنا في منتصف الصّوم، الّذي تَتَّبِعُه الكنيسة الكاثوليكيّة. إنّ الهدف من وَضِع هذا الإنجيل في منتصَف الصَّوم، هو تشديد المؤمن على متابعة صَومه، إذ قد لا يملك الإنسان نَفَسًا طويلاً لمتابعة هذا الاختبار وقَطف ثِماره.
إنّ هذا المقطع الإنجيليّ هو مأخوذ من إنجيل لوقا 15. وفي هذا الإصحاح، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنَّ يسوع قد دَخل إلى بيت أحد الفرِّيسيِّين وقد آكل مع الخطأة الموجودين هناك. إنّ هذا التصرُّف الّذي قام به يسوع لم يُعجِب الفرِّيسيِّين، فتَذَمَّروا منه؛ ولكنَّ يسوع لم يتجاوَب مع تَذَمُّرِهم. أمّا نحن، فإنّنا حين نتعرَّض للأذيّة من أحدهم، لا نَسكُت عن الأذيّة بل نسعى إلى ردِّها مضاعفةً. إنَّ الربَّ يسوع قد ردَّ على تَذمُّر الفرِّيسيِّين من خلال إعطائه ثلاثة أمثلة، مِن شأنها أن تُعطيهم الجواب على تَذَمُّرِهم. في المثَل الأوَّل، أخبَرَنا الربُّ يسوع عن راعٍ يملك مئة خروف، وعندما أضاع هذا الرَّاعي خروفًا ترَك التِّسعة والتِّسعين خروفًا بحثًا عن الضَّال، وعندما وَجَده فَرِح به جدًّا. في الـمَثلَ الثّاني، أخبرنا يسوع عن امرأةٍ فلسطينيّة تملِك عشرة دراهم قدَّمها لها أبوها هديّةَ زفافِها، وعندما أضاعت دِرهمًا منها، قامت بكَنَس البيت بحثًا عن هذا الدِّرهم. فهذه الدَّراهم لها قيمة ليست ماديّة فقط بالنِّسبة إلى تِلك المرأة بل أيضًا قيمةً معنويّة، لأنّها إنّها هديّة عُرسِها. إنَّ هذه المرأة، ككُلِّ النِّساء تبحث في التَّفاصيل، وقد بَحثَتْ عن هذا الدِّرهَم في كلِّ زوايا البيت حتّى وجدته، وعندما وَجدته فَرِحت به، وفَرِح معها جيرانها، وكلّ المحيطين بها. وها هو الربُّ يسوع يُعطي الآن الـمَثل الثّالث، وهو مَثل الابن الشَّاطر. إنّ هذه الأمثلة الثّلاثة أعطاها الربُّ جوابًا للفرِّيسيِّين عن تَذَمُّرِهم من دون الدُّخول معهم في جِدالٍ عقيم. إنّ عالَمَنا اليوم، مليءٌ بالنَّاس الّذين يبحثون عن مشاكل الآخرين ليست لمساعدتهم على حلِّها، إنَّما للتدَّخل في ما لا يعنيهم. إخوتي، أدعوكم إلى عدم الرَّدِ على هذه الفئة من النَّاس بأذيّتها كما تفعل معكم، بل اسعوا إلى إيجاد طُرُقٍ أُخرى للرَّد عليهم من خلال الصَّمت أو غيرها، كما فَعَل يسوع مع الفرِّيسيِّين.
كم هو جميل هذا المثَل، مَثل الابن الضَّال، الّذي يتكلَّم على أبٍ طَلَب إليه ابنَه إعطاءه حِصَّته مِن الميراث. نلاحظ في هذا النَّص، غياب الأمّ، لأسبابٍ نَجهلُها. هذا الأمر يدَفعنا إلى طَرح السُّؤال: تُرى لو كانت الأُمُّ موجودةً، هل كان الابن الأصغر تَرَكَ البيت الوالديّ؟! إنّ طَلب الابن الأصغَر من أبيه، هو مخالِفٌ للقانون، لأنَّه كان على الابن انتظارَ موتَ أبيه ليُطالِب بالميراث. وعلى الرُّغم مِن أنّ طَلبَ الابن الأصغر مخالِفٌ للقانون إلّا أنّ أباه لم يُعارِضه. إنّ عبارة “بعد أيّامٍ قليلة”، الّتي وَرَدَت في هذا النَّصَّ، تُشير إلى أنَّ هذا الابن قد أعلَن لأبيه عن رغبتِه في السَّفر، لذا قام الأب بِبَيع بعض الأراضي لتأمين المال لابنه الأصغر. فلو كان الابن الأصغر يريد البقاء في البَلد نفسِه، لَكان الأب قد قسَم أراضيه بالتَّساوي بين وَلَديه، فالميراث في ذلك الزَّمان كانَ عبارة عن أراضٍ وبيوت وممتلكاتٍ محدودة، وبالتّالي كان حَصرُ الميراث أمرًا في غاية السُّهولة ليس كما هي الحال اليوم.
إنّ الابن الأصغر قد سافر إلى مكانٍ بعيد. في هذا النَّص، نكتشف مع هذا الابن، كم هو مزعجٌ العيش بَعيدًا عن الأحبّاء. هذا ما نختبرُه عندما نقع في الخطيئة، فَهي تجعلنا نعيش في مكانٍ بعيدٍ عن الله. ولكن على الرُّغم من ابتعادنا عن الله، إلّا أن الله يبقى قريبًا منّا، وينتظر عودَتنا، تمامًا كما فَعل هذا الأب في هذا النَّصَّ مع ابنه الّذي سافَر بعيدًا، إذ يقول لنا الإنجيليّ: “لـمّا رآه آتيًا من بَعيد”. إخوتي، ما مِن مكانٍ بعيدٍ بالنِّسبة إلى الله، فعلى الرُّغم من أنّ الخطيئة تأخذنا إلى مكانٍ بعيد عن الله، غير أنّ عينَيه تبقيان مُصوَّبتَين علينا، لأنّه ينتظر عودَتنا إليه. في النَّصَّين السَّابِقَين لهذا المقطع الإنجيليّ، نلاحظ أنّ يسوع كان يدخل إلى بيوت أُناسٍ خطأة ويُجالِسُهم ويأكل معهم؛ أمَّا هنا، فنلاحظ أنّه ذهب هو إليهم ليَبحث عنهم ولم ينتَظِر عودَتهم إليه.
في هذا النَّص، تَمَّ ذِكر ثلاث حيوانات: الخنزير، العِجل المسمَّن، والجَدي. إنّ الخنزير هو علامة نجاسة، فَهو رمز لاختبار الخطيئة. العِجل المسمَّن هو علامة فَرَح، فَهو يرمز إلى كيفيّة احتفالِنا. الجَديّ هو الحيوان الّذي كان الابن الأكبر يتمنَّى الحصول عليه من أبيه ليتناوَلُه مع أصدقائه. إنّ الجَدي هو الّذي يقول عنه الإنجيليّ متّى إنّه يقف إلى الشَّمال، فَهو يرمز إلى الابتعاد عن الله. إنّ الجَدي يرمز إلى الأخ الأكبر الّذي رَفَضَ الدُّخول إلى البيت للمشاركة في فرحة أبيه بعودة أخيه. إنّ اختبار الابن الأكبر نعيشه عندما لا نَقبل بالخطيئة ولا بعودة الخاطئ. إخوتي، إنّ هذا النَّصّ الإنجيليّ لا يُخبرنا عن كيفيّة صَرف الابن الأصغر لأمواله، في حين أنَّ أخاه الأكبر قد جَزَم أنّ أخاه قد صَرَف ماله مع الزَّواني. إخوتي، علينا الانتباه كي لا يُصيبنا ما أصاب الأخ الأكبر إذ حَكم على أخيه. فلنسعَ إلى الترَّوي في الحُكم على بعضنا البعض. من خلال تصرُّفه مع أخيه الأصغر، نلاحظ قساوة قلب الأخ الأكبر، وروح الفرِّيسيّة المتملكة في داخِله.
عندما قرَّر الابن الأصغر العودة إلى بيت أبيه، قام بتحضير الكلام الذي يريد قولَه له، فالنَّصّ الإنجيليّ يُخبرنا أنّ الابن الأصغر أراد أن يقول لأبيه عند رؤيته له: “قد خطئتُ إلى السّماء وإليك، ولستُ مستحقًّا أن أُدعى لك ابنًا. واعتبرني كأحد أُجرائِكَ”. عندما وصل الابن الأصغر إلى بيت أبيه، رآه أبوه من بعيد، فهرَع إليه وقبَّله، وبالتّالي لم يتمكَّن الابن الأصغر مِن قَول ما كان يريد قوَله لأبيه. من شدَة فَرَحِه بعودة ابنه، لم يسمح الأب لابنه، بأن يُعبِّر عن توبته. ونلاحظ في النَّص أنَّ الابن الأصغر لم يُكمِل قَول كلَّ ما كان قد حضَّره، فالإنجيليّ يتوقَّف عند عبارة: “لستُ مستَحقًّا أن أُدعى لك ابنًا”. وتترافق هذه العبارة مع ثلاث نقاط للإشارة إلى أنّ الحديث قد تمَّ قَطعه من الأب، لأنّ الأب قد سامَح ابنه مُسبَقًا حتّى قبل أن يَعترَف الابن الأصغر بخطيئته. إنّ تصرُّف الأب مع ابنه الأصغر يَعكس لنا رحمة الله وغفرانه لنا.
في إطار التَّحضير لهذه الرِّياضة، كنتُ أقرأ بعض الشُّروحات حول عبارة :”قبَّله في عنقه طويلاً”. إنّ القُبلة في العُنق لا يُعطيها السِّيِّد لِعَبده، إنّما الأب لابنه، فالقُبلة في العنق تُشير إلى العلاقة الحميمة الّتي تَجمع بين هذين الشَّخصَّين واتِّحادهما ببعضهما البعض. إخوتي، إنّ الحيوانات تُذبح من عنقِها ولكن مِن الأمام، أمّا الإنسان فَيُذبَح من العنق من الخَلف، لأنَّ في الخلف تُوجد كلّ الشَّرايين. إذًا، على الرُّغم مِن أنّ هذا الابن كان يستحقُّ الذَّبح نتيجة الخطيئة الّتي ارتكبها إلّا أنّ أباه قرَّر التَّعبير له عن محبَّته له من خلال تقبيله في المكان الّذي كان عليه ذَبحه. وبالتّالي، من خلال هذه القُبلة في العنق، أراد الأب أن يُعبِّر لابنه عن رغبته في بناء عهدٍ جديد معه. كم هو رائع ما قام به هذا الأب! لقد غفر لابنه الخاطئ وعِوَضَ معاقبته أقام احتفالاً تعبيرًا عن فَرَحه بعودة ابنه إلى بيته الوالِديّ. عندما نعود إلى الله، يحتفل بعودتنا إليه، ويغفر لنا إساءاتنا، ويُلبِسُنا الحِذاء والخاتم كما فَعل هذا الأب مع ابنه. للحِذاء أهميّةٌ كُبرى في الكِتاب المقدَّس: عندما ظهر الربُّ لموسى، طَلَب منه أن يَخلع نَعلَيه مِن رِجليه لأنّ المكان مُقدَّس. في القديم، كان على كلِّ ضَيفٍ أن يَخلَع حِذاءه عند الباب، لأنَّ دُخولَه إلى البيت منتَعِلاً الحِذاء تُشير إلى رغبته في السَّيطرة على هذا البيت والاستيلاء عليه. عاد هذا الابن إلى بيت أبيه من دون حِذاء، لأنَّه يعتبر نفسه ضيفًا فيه، غير أنّ الأب قد ألبسَه الحِذاء ليقول له إنّه قد أصبح من جديد صاحب هذا البيت، وبالتّالي شريكًا لأبيه. إخوتي، لا تقبَلوا بأن تكونوا ضيوفًا في بيت أبيكم! تخلَّوا عن كلّ استعمال حريّتكم بطريقةٍ خاطئة، إذ لأنَّها تقودكم إلى تجارب كثيرة وبالتّالي إلى الابتعاد عن البيت الوالِديّ.
أخيرًا، أودُّ أن أَطرَح عليكم سؤالاً: بِرَأيكم، هل عاد الابن الأكبر ودخل إلى البيت؟ إنّ الإنجيل لا يقول لنا إنَّه دَخل أم لا؛ وهذه هي الحقيقة لأنَّ لا أحد يعلم ما الّذي حدث مع هذا الابن الأكبر.
إخوتي، لا يمكننا قراءة الإنجيل من دون الدُّخول فيه؛ فكلّ نَصّ إنجيليّ يرمز إلينا. وبالتّالي في هذا النَّصَّ، إنّ الأخ الأكبر يرمز إلينا، وعلينا بالتَّالي اتِّخاذ القرار الـمُناسِب: هل نبقى في الخارج أم نَدخل إلى البيت للمشاركة في فَرحة عودة أخينا؟ إذا قررتم الدُّخول، فهذا يعني أنَّه عليكم القبول بعودة إخوتكم.
هذا هو دَورُنا! لا تَبقوا في الخارج واقبلوا عودة إخوتكم، فنحتفل ونعيّد، لأنّ كلّ إنسانٍ خاطئ كان “ميتًا فعاش وضالاً فَوُجِد” (لو 15: 32). آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت المحاضرة بأمانةٍ من قِبَلنا.