محاضرة للأب يوحنّا داود،

خادم رعيّة سيّدة العناية – البوشريّة.

“وأمّا ذلك اليومُ أو تلك السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها….” (مر 13: 32-37)

النصّ الإنجيليّ:

“وأمّا ذلك اليومُ أو تلك السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُهما: لا الملائكةُ في السَّماءِ، ولا الابنُ، إلَّا الآب. فاحذَروا واسهَروا، لأنَّكم لا تعلَمونَ متى يَحينُ الوقت. فمَثَلُ ذلك كَمَثَلِ رَجُلٍ سَافرَ وتَركَ بيتَهُ، وفوَّضَ الأمرَ إلى خَدَمِه، كلُّ واحِدٍ وعمَلُه، وأوصى البَّوابَ بالسَّهرِ. فاسهَروا إذًا، لأنَّكم لا تعلَمونَ متى يأتي ربُّ البيت: أَفي الـمساءِ أو في مُنتصَفِ اللّيل أم عِندَ صِياحِ الدِّيكِ أم في الصَّباح، لِئلَّا يأتيَ بَغتَةً فيَجِدَكُم نائِمِين. وما أقولُه لكم أقولُه للنَّاسِ أجمعين: اسهَروا!”(مر 13: 32-37).

التأمّل في النّص الإنجيليّ:

الله معكم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات المشارِكين معنا اليوم،

قَبْل أن نبدأ حديثَنا، سوف نستدعي الرُّوح القدس كي تَحلَّ نِعمتُه علينا، ثمّ سأتلو، على مسامِعكم، صلاةً تُقال في طقسِنا البيزنطي قَبْل قراءة الإنجيل، نطلب فيها إلى الربّ يسوع أن يفتَح أذهاننا لِنَفهم كلِمتَه الإنجيليّة.

“تَبارَك إلهُنا كلَّ حين، الآن وكلَّ أوانٍ، وإلى دَهر الدَّاهرين. آمين.

أيّها الـمَلِك السّماويّ المعزِّي، رُوح الحقّ، الحاضِر في كلِّ مكان، والمالِئ الكُلّ، كَنزُ الصَّالحات وواهبُ الحياة، هلمَّ واسكُن فينا، وطهِّرنا من كلِّ دَنَسٍ، وخلَّص أيّها الصّالح نفوسَنا.

أيّها السّيد الـمُحِبّ البشر، أضِئ قلوبَنا بِصافي نورِ معرفتِكَ الإلهيّة وافتَح عيونَ أذهانِنا لنَفهم تعاليمك الإنجيليّة. ضَعْ فينا خَشيَة وصاياكَ المغبوطة، حتّى إذا دُسنا جميع الشَّهوات الجسديّة نَسيرُ سيرَةً روحيّةً، مُفكِّرين وعامِلِين بكلِّ ما يُرضيك، لأنَّك أنتَ استنارةُ نفوسِنا وأجسادِنا، أيّها المسيح الإله، وإليكَ نَرفَعُ المجد وإلى أبيكَ الأزليّ وروحِك القدّوس الصّالح والـمُحيي، الآن وكلّ أوانٍ وإلى دَهر الدَّاهِرين، آمين.” 

إخوتي الأحبّاء، قَبْل الغَوص في شَرحِ هذا النَّص الإنجيليّ المقدَّس، إليكم لمحةٌ عامّةٌ نَستَذكِرُ فيها مَن هو الإنجيليّ مرقُس. في كُتُبنا المقدَّسة، نلاحظ أنَّ الإنجيل الثَّاني، بعد إنجيل القدِّيس متّى، هو إنجيل القدِّيس مرقس. يُخبرنا سِفر أعمال الرُّسل وكذلك رسائل مار بولس، أنّ الإنجيليّ مرقس هو تلميذ الرَّسول بطرس، وقد رافَقَ أيضًا بولسَ الرّسول في بعض رحلاته التبشيريّة. كتَب الإنجيليّ مرقس إنجيلَه حوالي سنة 70 م.، إلى المسيحيِّين الّذين يعيشون في روما، كما ورَد في سِفر أعمال الرُّسل في الإصحاحَين 12و15، أي قَبْل خراب أورشليم. في بداياتها، ولِـمُدَّةٍ طويلةٍ من الزَّمن، لم تُعطِ الكنيسة أهميّةً كُبرى لإنجيل القدِّيس مرقس، ولكنّها اكتشَفَتْ لاحقًا أهميّته، عندما أدرَكَتْ أنّه أوّل الأناجيل الّتي دُوِّنَت، وأنّ الإنجيليَّين متّى ولوقا قد استندا إليه في كتابة إنجيلَيْهِما. إنّ إنجيل القدِّيس مرقس هو مِن أقصر الأناجيل، فهو يحتوي فقط على ستّة عشر إصحاحًا، في حين أنّ بَقيّة الأناجيل هي أطول منه. في هذا الكِتاب، أراد الإنجيليّ مرقس أن يَكشِف لنا أنّ يسوع هو ابن داود، هو ابن الإنسان، هو ابن الله، هو المسيح، هو الربّ؛ بمعنى آخَر، كَشَفَ لنا الإنجيليّ مرقس في كتابه عن هويّة يسوع، مُجيبًا بِذَلِك عن السّؤال: مَن هو يسوع؟ 

إنّ النَّص الّذي سَنَتأمّل فيه اليوم، هو نصٌّ مأخوذٌ من الإصحاح الثّالث عشر من إنجيل القدِّيس مرقس، وهو في الحقيقة خاتمةُ هذا الإصحاح. إنّ هذا الإصحاح هو كِناية عن خُطبةٍ ألقاها الربّ يسوع على جبل الزَّيتون، الـمُقابِل لِهَيكل أورشليم؛ وقد كانت هذه الخُطبَة جوابًا عن سؤالٍ طَرحَه بطرس ويوحنا ويعقوب وأندراوس على الربّ يسوع على انفرادٍ،  هو: “قُل لنا متى يكون هذا؟ وما العلامة إذا أَوشَكَ هذا كُلَّه أن يتمّ؟”. هنا، نتساءل عمّا كان هؤلاء التّلاميذ يسألون الربّ. في العودة إلى الآيات الأُولى من هذا الإصحاح، يُخبِرنا القدِّيس مرقس أنّه حين كان الربُّ خارجًا مِن هيكل أورشليم، أشار إليه أحد التّلاميذ إلى أعمِدة الهيكل مُركِّزًا على عظمته؛ فما كان من الربّ إلّا أن قال لهذا التِّلميذ إنّه لن يبقى في هذا الهيكل حجرٌ على حجرٍ. ثمّ تابع الربّ يسوع طريقَه إلى جبل الزَّيتون، فانفرَد به التّلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس، وسألوه عن الوقت الّذي سيَتِمُّ فيه خراب الهيكل. ما أهميّة هذا السّؤال بالنِّسبة إلى الرُّسل؟ إنّ هذا السّؤال مهمٌّ جدًّا، بالنِّسبة إلى الرُّسل، لِسَببٍ بسيطٍ جدًّا، وهو أنّ هَدْمَ الهيكل أو انهياره، بالنِّسبة إلى اليهود، يَدُلّ على نهاية العالم. وبالتّالي، بالنِّسبة إلى الرُّسل، إذا كان الربُّ يسوع يَعلَم متى سيُهدَم هيكلُ أورشليم، فإنّه حتمًا يَعلَم متى تكون نهاية العالَم. لذلك، إذا عُدنا إلى القِسم الأوّل من هذا الإصحاح، نَكتَشِف أنّ الربّ يسوع قد أخبَر الرُّسلَ عن العلامات الّتي تُشير إلى نهاية هذا العالَم. وفي هذا الإطار، نُشير إلى أنّ الإنجيليّ متّى قد ذَكَر أيضًا حديثًا للربّ حول هذه العلامات، ولكن بِشَكلٍ موَّسعٍ أكثر.

إنّ الخُطبَة التي نتناولها نحن اليوم في هذا النّص الإنجيليّ، يَبدأُها الربّ يسوع بِعبارة: “احذَروا”، ويَختِمُها بعبارة “اسهروا”. مِن خلال هذا النَّص، يحاول الإنجيليّ مرقس أن يقول لنا إنّنا نعيش في الأزمنة الأخيرة. وهنا نطرح السُّؤال على أنفسِنا: ماذا تعني عبارة “الأزمنة الأخيرة”؟ في ظلّ هذه الظروف الصّعبة، الّتي نعيشها اليوم في عالمِنا، كُثُرٌ يقولون إنّها نهاية الأزمنة؛ غير أنّ الأزمنةَ الأخيرة، إيمانيًّا، قد بدأتْ مُنذُ زمنٍ بَعيدٍ، مِن اليوم الّذي فيه تَجسَّدَ المسيح، فالكِتاب المقدَّس يقول لنا إنّه “لـمّا تمَّ مِلء الأزمنة، أرسل الله ابنَه مولودًا من امرأة”(غل 4: 4). إذًا، إنّ الأزمنة الأخيرة بدأتْ بِتَجسُّد المسيح وهي ستَكتَمِل بِرُجوعِه الثّاني المجيد. ونحن، كمؤمِنِين، نُعبِّر عن هذا الإيمان، في كلِّ ذبيحةٍ إلهيّةٍ، حين نتلو قانون الإيمان مُعلِنِين أنّ الربّ “سيأتي أيضًا بمجدٍ عظيم ليَدين الأحياء والأموات”. في سِفر أعمال الرُّسل، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنّ الربّ، بَعدَ قيامته من الموت، وقَبْل صعوده إلى السّماء، أخبَر تلاميذَه بأنّه سيأتي ثانيةً. وفي هذا الجزء من الخُطبَة الّذي نتناوله اليوم في إنجيل مرقس، يُخبرنا الربّ يسوع عن كيفيّة الاستعداد لاستقباله عند مجيئه الثاني. إنّ الاستعداد لمجيء الربّ يتحقّق من خلال العبارة الأخيرة في هذه الخُطبة وهي: “اسهروا”.

إخوتي، فلنبدأ الآن تفسيرَ هذا النَّص الإنجيليّ آيةً تِلوَ آيةٍ. في الآية الأولى مِن هذا النَّص، يقول لنا الربّ يسوع: “وأمّا ذلك اليومُ أو تلك السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُهما: لا الملائكةُ في السَّماءِ، ولا الابنُ، إلَّا الآب”. عند سماعِنا عبارة “أمّا ذلك اليوم أو تلك السّاعة”، نُدرِك تمامًا أنّ الربّ يُكلِّمنا على مجيئه الثاني؛ ومِن المؤكَّد أنّه حين يُكلِّمنا الربّ على الوقت فإنّه يَقصِد وقتَ الله الّذي لا يُشبِه توقيتنا البشريّ، تمامًا كما أنّ أفكارَ الربّ وطُرقَه لا تُشبِه أفكارنا نحن البشر ولا طُرُقَنا. لذلك، فإنّ القدِّيس بطرس في رسالته الثانية، يقول لنا: إنّ “يومًا واحدًا عند الربّ كألفِ سنةٍ، وأنَّ ألفَ سنةٍ هي كيَومٍ واحدٍ” (2 بط 3: 8). وبالتّالي، مِن هذا المنطلق، يريد الربّ أن يقول لنا إنّه من الصّعب علينا نحن البشر معرِفةَ اليوم أو السّاعة اللَّذين سيتمّ فيهما مجيئه الثاني لأنّ الوقت البشريّ مختلفٌ عن الوقت الأبديّ، وقت الله الذي هو خارج الزّمن. فعلى سبيل المثال، إذ قال لنا الربّ إنّ مجيئَه الثاني سيَتِمّ سنة 2022، هنا يُطرَح السُّؤال: بِحَسب أيِّ زمنٍ سيتمّ ذلك: أبِحَسب زمنِ الله، الّذي هو اللّازَمَن، أم بحسَب زمنِ البشر؟ في التّاريخ البشريّ، نستطيع تحديد الوقت قائلِين إنّ هذا الأمر أو ذاك، تَمّ أو سَيَتمُّ، في هذا اليوم من هذا الشَهر من هذه السّنة؛ غير أنّنا لا نستطيع تحديد الوقت عند الله، لذا مِن الصَّعب على الربّ إعطاءنا تاريخًا زمنيًّا ليوم مجيئه الثاني. إخوتي، هناك حكمةٌ في عدم إعطاء الربّ توقيتًا زمنيًّا ليوم مجيئه، لأنّه لو أدَركْنا، على سبيل المثال، إنّه سيأتي بَعدَ عَشرة آلاف سنة، فإنّنا سنُمضي الوقت إلى حين مجيئه في الكسل وعدم التوبة وعدم الجهاد الرُّوحيّ، معتقدين أنّ يوم مجيء الربّ لا يزال بعيدًا، وبالتّالي الوقت لا يزال بعيدًا لإعلان توبتنا وللعودة إلى الربّ. إخوتي، إنّ عدم معرفَتنا ليوم مجيء الربّ هو الّذي يجعلنا في حالةٍ من اليقظة الدائمة أي في حالةٍ من الاستعداد الدائم للتوبة والجِهاد الرُّوحيّ. إذًا، لم يكن هدفُ يسوع، مِن هذه الخِطبة، أن يُحدِّد لنا ساعة مجيئه الثاني، إنّما أن يُخبرنا عن كيفيّة الاستعداد لملاقاته في ذلك اليوم.

يتابع الربّ حديثه عن يوم مجيئه الثاني، فَيُخبرُنا أنّ الملائكةَ لا تعرف هذا الوقت. وإذا طَرَحْنا السُّؤال: لماذا الملائكة لا تعرف هذا الوقت؟ الجواب هو أنَّ الملائكة هي كائناتٌ مخلوقةٌ؛ وإذا عُدنا إلى الكتاب المقدَّس، نَجِدُ أنّ الملائكة هُي مُرسَلَةٌ مِن قِبَل الله إلى البشر. فعلى سبيل المِثال، في العهد الجديد، نتذكَّر أنَّ الملاك هو الّذي بَشَّر العذراء مريم بالحَبَل الإلهيّ، والملاك أيضًا هو الّذي خاطَب يوسف في الحُلم. كذلك أيضًا، في العهد القديم، نَجد أنّ الربَّ قد أرسَل ملائكتَه إلى البشر من أجل إيصال رسالةٍ معيّنةٍ لهم، فالملائكة هي خادمةٌ لله. وبالتّالي، مِن الطبيعيّ جدًّا ومِن المؤكَّد ألّا تكون الملائكة على معرفة بالوقت الّذي سيَتِمّ فيه المجيء الثاني، فهذا الوقت لا يعرِفه أحد إلّا الله وحده. قد يكون من السّهل علينا أن نفهم أنّ الملائكة هي مِثلَنا لا تعرِف يوم مجيء الربّ الثاني، لكن مِن الصَّعب علينا أن نَقبَل أنّ الربّ يسوع نفسَه لا يعرِف ذلك اليوم، يوم مجيئه الثّاني. فإذا عُدنا إلى كلمات الكِتاب المقدَّس، نَجِد أنّ الربّ يَعلَم مَتى سيَكون يوم مجيئه الثاني. سوف نستَذكر معًا بعض كلمات الربّ الّتي تؤكِّد لنا معرِفته بتاريخ ذلك اليوم:

  • في إنجيل القدِّيس متّى، نقرأ كلام الربّ هذا: “قد سلَّمني أبي كلَّ شيءٍ، فما من أحدٍ يعرف الابن إلّا الآب، وما مِن أحدٍ يعرف الآب إلّا الابن، ومَن شاء الابن أن يكشف له ذلك” (متى11: 27).
  • وفي إنجيل القدِّيس يوحنّا، يستفيض الربّ في الحديث عن علاقته مع الآب، فيقول لنا: ” أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ” (يو 14: 10). وهذا يعني أنّ الآب لا يُخفي شيئًا عن الابن. وبالتّالي، ومِن هذا المنطلق، نَطرح السُّؤال على ذواتِنا قائلِين: إذا كان الابن يسوع يعلَم كلَّ شيءٍ، لماذا لم يُخبرنا عن ساعةِ مجيئه الثاني؟ الجواب بسيطٌ جدًا، وهو أنّه، إذا كانت إرادة الله الآب ألّا يعرِفَ البشر بِتَوقيتَ مجيءَ ابنه الثاني، فإنّ الربّ يسوع، انطلاقًا من طاعته الكاملة لأبيه السّماويّ، لن يُخبرَنا عن تلك السّاعة. وفي هذا الإطار، يُخبرنا الكتاب المقدَّس أنّ الربّ يسوع قد أطاع أباه حتى الموت، موتَ الصَّليب. فَكم بالحريّ مَن أطاع حتّى الموت، موتَ الصّليب، أن يُطيع أباه في كلّ الأمور ومِنها ألّا يُطلِعنا على وقت مجيئه! إخوتي، إنّ هذا النَّفي الّذي كان يستخدمه الربّ يسوع عندما كان التّلاميذ يسألونه عن يوم مجيئه الثاني، لا يعني أبدًا أنّه لا يعرف متى سيتمّ ذلك. حين كنتُ أُحَضِّر هذا النَّص استعدادًا لهذا اللِّقاء، تذكَّرتُ أمرًا أعيشه مع تلاميذي، وهو أنّه حين يَقترب وقت الامتحان، يبدأ تلاميذي بالإكثار من طرح الأسئلة في محاولة منهم لمعرفة أسئلة الامتحان، فيكون جوابي لهم بكلِّ بساطة إنّي لا أعرف ما إذا كان هذا الدَّرس أو ذاك مشمولاً في الامتحان، وذلك ليس لأنِّي لا أعرف الأسئلة الّتي وَضَعتُها للامتحان، إنّما كي أحفِّزهم على دراسة كلِّ ما هو مطلوبٌ إليهم للإمتحان، فيكونوا على استعدادٍ تامٍ له. لم تكن هذه الـمَرَّة الأولى الّتي فيها يسأل الرُّسلُ الربَّ عن توقيت نهاية العالَم وعن العلامات الّتي تدلّ على اقتراب ذلك اليوم، والدّليل هو كلام الربّ بوضوحٍ وبإسهابٍ على تلك العلامات في الكِتاب المقدَّس من دون أن يَذكر التوقيت؛ فالهدَف هو حثُّهم على الاستعداد لذلك اليوم وعدم التكاسل.

في الآية 33 من هذا النَّص، يقول لنا الربّ يسوع: “احذَروا واسهَروا، لأنَّكم لا تعلَمونَ متى يَحينُ الوقت”. في هذه الآية، سنتوقّف أوّلاً عند عبارة “احذروا”، لنَفهَم معنى هذه الكلمة في العمق. إخوتي، إنّ الشّخص الحَذِر، هو الشَّخص المنتَبِه لما يَدور حولِه، فيتمكَّن مِن تمييز ما هو صالح ممّا هو غير صالح. إذًا، الشَّخص الحَذِر هو الشَّخص الّذي لا يسمح لكلِّ ما نعيشه من ضجّةٍ وتشتُّتٍ وسطحيّةٍ في عالمِنا اليوم، من التأثير والسيطرة عليه. إخوتي، على الرُّغم من كلِّ ما نمرّ به في هذا العالم، نحن مدعوّون إلى الحَذَر، فنتمكّن من المحافظة على دَعوتِنا وهويِّتنا، فنكون مستعدِّين لمجيء الربّ الثّاني. إنّ الشَّخص الحَذِر هو الّذي لا يغرق في اللّامبالاة، الّتي تجتاح عالمِنا اليوم. إنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ ووسائل الإعلام تقدِّمان لنا بشكلٍّ يوميٍّ آلاف الصُّوَر لضحايا الإجرام والقَتل الّذي يشهده العالم، فننظر إليها غير مُبالِين لِما يحصل مع إخوتنا البشر الّذين يعيشون في أماكنَ متفرِّقةٍ في هذا العالم. إنّ هذه اللامبالاة تجاه الآخَرين مِن شأنها أن تُحوِّل قلوبَنا الّتي هي من لَحمٍ ودَم إلى قلوبٍ من حجرٍ. وهنا نَطرح السُّؤال: مِمَّ علينا الحَذَر والانتباه، إذا ماتَ قلبُنا؟ في هذا الإطار، يقول لنا الكتاب المقدَّس إنّ الربّ سَيَنزعُ مِنَّا القلبَ الحَجَر ويُعطينا بدلاً منه قلبًا مِن لحمٍ ودَمٍ، أي قلبًا قادِرًا على الإحساس مع الآخَرين، فيتعاطف معهم. إنّ الشَّخص الحَذِر هو الشَّخص الّذي يسهَر. 

هنا، نطرَح السُّؤال: ماذا معنى عبارة “أن يسهر الإنسان”؟ في مفهومنا البشريّ، لا أحد يسهر في النَّهار، فالسّهر يكون في اللَّيل. وبالتّالي، عندما يسهر الإنسان، فهذا يعني أنّه مستيقظٌ وليس نائمًا. أمّا في مفهومنا الرُّوحيّ، فالسَّهر يعني اليقظة أي الحَذَر. وبالتّالي، كما أنّ الجنديّ يكون على “أَهُبَّة الاستعداد” لمواجهة أيّ عنصرٍ مفاجئ في أثناء مناوبته في السّهر، كذلك على المؤمِن الّذي يسهر منتظرًا مجيء الربّ أن يكون مستعدًّا لذلك اليوم. للأسف، في الكثير من الأحيان، نعتقد، نحن المؤمِنون، أنّ السَّهر ليوم مجيء الربّ الثاني يقتصر على عيش بعض التقويّات كتلاوة المسابح، أو بعض فروض الصّلاة، أو قراءة نصٍّ إنجيليّ والـتأمّل فيه. إخوتي، إنّ كلَّ ما نقوم به من تقويّات هو صالحٌ ومهمٌّ، ولكنّه ليس كافيًا، لأنَّه علينا الاستعداد لملاقاة الربّ في يوم مجيئه الثاني مِن خلال كلّ عملٍ نقوم به في حياتنا اليوميّة، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا. من هذا المنطلَق، يدعونا الربّ في هذا الإنجيل إلى السّهر بانتظار يوم مجيئه، متسلِّحين بالحَذَر، لأنّ عدوَّنا يتربَّص بنا، ليفتُكَ بنا. إنّ الكِتاب المقدَّس يُطلِق على هذا العدوّ المتربِّص بالمؤمِنِين أسماء عِدَّة منها الحيّة، كما يُسميِّه أيضًا الشِّرير أو الشَّيطان. إنّ الحيّة تمتلك حكمةً لأنَّها تقوم بِتَرصُّد فريستها بحذَرٍ وهدوءٍ قَبْل أن تقترب منها وتَلسَعها. إذًا، إخوتي، علينا السَّهر إلى يوم مجيء الربّ متسلِّحين بالحذَر كي لا يتمكَّن عدوّنا من إغراقِنا في الخطيئة، فيُباغِتنا يوم الربّ فَنكون عندها غير مستعدِّين لاستقبال هذا السِّيد العائد إلينا ثانيةً.

وهنا، نتساءل: كيف لنا نحن البشر، أن نبقى في حالةٍ من اليقظة الرُّوحيّة، رُغم كلّ الصُّعوبات الّتي تُواجِهُنا في هذه الحياة؟ بمعنى آخر: ما هي المعوِّقات الّتي تُعيق عمليّة السَّهر الرُّوحيّ عند المؤمِن في انتظاره ليوم مجيء الربّ؟

مِن الأمور الّتي تُعيق عمليّة السَّهر الرُّوحيّ عند المؤمِن هي انغماسه في محبّة العالم. فالإنسان الّذي يسمح لمحبّة العالَم بأن تُسيطر عليه لن يعود باستطاعه السّهر ليوم مجيء الربّ الثّاني. في هذا الإطار، يُعبِّر الربَّ عن وَجعه العميق نتيجة انجرارِ شعبه وراء أمورٍ كثيرةٍ تُبعِده عنه، هو الإله الحقيقيّ، قائلًا في سِفر إرميا: “تَرَكوني أنا ينبوع المياه الحيّة ليَحفروا لأنفسهم آبارًا مشقَّقةً”(إر2: 13). إنّ البئر المشقَّقة لا تستطيع ضَبط المياه في داخلها. 

للأسف، في عالمنا اليوم، كثيرةٌ هي الآبار المشقّقة الّتي تجذب المؤمنِين إليها فيغرقون فيها. في هذا الإطار، يُخبرنا الإنجيلي يوحنّا، أنّ الربّ يسوع قد صلّى إلى الله الآب من أجلنا قائلاً: “لا أسألُكَ أن تُخرجهم من العالَم، ولكن أن تحفظهم من الشِّرير. هُم في العالَم، ولكنَّهم ليسوا من العالَم”(يو 17: 15). إنّ كلام الربّ يسوع في هذا النَّص الإنجيليّ، وفي نصّ صلاته الأخيرة من أجلنا في إنجيل يوحنّا، يدفعنا إلى طَرح السّؤال على ذواتنا: أيّهما نختار: هل نختار محبّة العالَم، أم نختار محبّة المسيح؟ إخوتي، كما أنّ الظلّمة لا يمكنها أن تمتزج مع النَّور، كذلك لا يمكننا المزج بين محبّة العالم ومحبّة المسيح؛ وبالتّالي علينا الاختيار ما بين العيش في النَّور أو العيش في الظلمة.

ومِن الأمور، أيضًا، الّتي تعيق عمليّة السّهر الرّوحيّ عند المؤمن، هي المال. إنّ كلّ الملتَزِمين يُدرِكون صعوبةَ الظروف الاقتصاديّة الّتي نعيشها في لبنان، لذلك نجد أنّ قِسمًا كبيرًا منهم أصبحوا يَعملون في أكثرِ من وظيفةٍ لتأمين احتياجاتهم واحتياجات عائلاتهم، حتّى بات من الصّعب عليهم المشاركة في القداديس خصوصًا يوم الأحد. إخوتي، بالطّبع، أنا لستُ ضدَّ عمل المؤمِنين لِتأمين احتياجاتِهم الأرضيّة؛ ولكن ما أرغب في قولِه لكم هو أنّه إضافة إلى اهتمامنا بتأمين تلك الاحتياجات الأرضيّة، علينا ألّا ننسى أنَّ حاجتنا الأساسيّة والأهمّ بالنَّسبة إلينا، يجب أن يكون العمل على خلاص نفوسِنا. 

للأسف، في عالمنا اليوم، نقوم باستبدالِ هذه الحاجة الأساسيّة لخلاص النَّفس بمحبّة المال والسَّعي إلى إِدِّخاره في هذه الحياة. انظروا إخوتي، إلى ما حصل بنا، عندما اِدَّخرنا المال في البنوك سابقًا، وبِتنا اليوم غير قادرين على الحصول عليها نتيجة ما نعيشه في لبنان، لا بل أكثر من ذلك فنحن نجَهل مصيره. في هذا الإطار، يُنبِّهنا الربَّ يسوع في نصوصٍ عديدةٍ مِن الكِتاب المقدَّس إلى ضرورة الانتباه لِمَكانة المال في حياتنا قائلاً لنا: “لا يستطيع أحدٌ أن يَخدُم ربَّين، لأنّه إمّا أن يُبغِض الواحد ويُحبّ الآخَر”(متى 6: 24). في الكثير من الأحيان، يَجذُبنا المال فيتحوّل إلى عائقٍ يمنعنا من السَّهر على حياتنا الرُّوحيّة، وبالتَّالي يجعلنا غير مستعدِّين لملاقاة الربّ عند مجيئه الثاني. 

وأيضًا من الأمور الّتي تعيق عمليّة السّهر الرُوحيّ في انتظارنا لمجيء الربّ هي الكسل. إنّ الكسلَ خطيئةٌ لأنّه يعني أنّ الإنسان هو غير حاضرٍ، وغير مستعدّ. فالتِّلميذ الكسول هو التِّلميذ الّذي يذهب إلى الامتحان وهو غيرَ مستعدٍّ للإجابة عن الأسئلة الّتي ستُطرَح عليه، فيَرسُب. هذه هي مشكلتنا اليوم على المستوى الرُّوحيّ. وهذا ما يُعبِّر عنه الرَّسول بولس في رسالته إلى أهل رومة، إذ يقول: “إنَّكم عارفون الوقت. إنّها الآن ساعةٌ لنستيقظ من النَّوم. فإنّ خلاصَنا الآن أقرب ممّا كان حين آمنَّا. قد تناهى اللّيل وتقارب النَّهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النُّور”(روم 13: 11- 12). إخوتي، إنّنا في الأزمنة الأخيرة، واليوم هي ساعةُ الاستيقاظ من النَّوم والاستعداد ليوم مجيء الربّ. للأسف، في عالَمِنا اليوم، نلاحظ أنّ الشّباب يفكِّرون أنّ الوقت ما زال مُبَكِّرًا للتَّوبة وللعيش في حياة الصّلاة والتَّقوى، كما يعيش أجدادهم الّذين لا تفارق المسابح أيديهم. هنا، أريد أن أقول للشَّبيبة أحبّائي، إنّ الإنسان لا يعرف متى تأتي السّاعة. وأُضيف: طوبى للإنسان الّذي يستطيع معرفة ساعته، فإنّي أقول له إِذهب وافعل ما تشاء، فالوقت سيكون متاحًا لك للتَّوبة قَبل أن تَحين ساعتُكَ. 

ومِن الأمور الّتي قد تُعيق عمليّة سَهَرِنا الرُّوحيّ لملاقاة الربّ في يوم مجيئه الثاني، هي اهتمامُنا الزائد بالأمور الدُّنيويّة والغرق فيها. للأسف، في الكثير من الأحيان، ينجح الشّيطان في دَفعنا إلى الإفراط في التفكير في كيفيّة تأمين الـمَلبس والطَّعام لنا ولأولادنا، متناسِين كلام الله الّذي يدعونا إلى الثقة به لأنّه سيهتمّ بنا،كما يفعل مع زنابق الحقل وطيور السّماء اللَّتين لا تعمل ولا تتعب وهو يقوتها، فنحن لسنا أفَضل منها. إنّ كلام الربّ هذا عن اهتمامه بجميع مخلوقاته من شأنه أن يُذكِّرنا بأنّنا لسنا وحدنا في هذا العالم وأنّ لدينا ربًّا يهتمّ بنا. عندما نقول أنّ لدينا إلهًا، فهذا لا يعني أنّ إلهَنا هو سيِّدٌ جبّارٌ فقط، بل هو أيضًا إلهٌ أبٌ؛ فالأب لا يستطيع أن يُعطي ابنه حجرًا إذ طلب منه هذا الأخير سمكةً. وبالتّالي، إن كُنّا نحن الأشرار لا نؤذي أولادنا، فَكَم بالأحرى أبانا السّماويّ الَّذي يهتمّ بنا. إخوتي، إنّ كلام الربّ في هذا النَّص يبعث فينا الرَّجاء، كما أنّ هذا النَّص الإنجيليّ يدعونا إلى إعادة النَّظر في طريقة عيشِنا، وَسَط هذه الأزمات الّتي تعترض حياتنا، فنكتشِف إن كانت هذه الأزمات الّتي نعيشها قد نجحت في إغراقِنا في الاهتمام الزائد بالأمور الدّنيويّة، أم أنّها جعلتنا نثق بعناية الله لنا؛ ونكتشِف ما إذا كانت هذه الأزمات قد نجحت في جَعلِنا نركض وراء المال لِجَمعه أم أنّها دَفعتنا إلى محبّة الله، ونكتشف إن كانت هذه الأزمات قد نجحت في إغراقنا في خطيئة الكسل، أم أنّها دَفعتنا إلى الجهاد الرُّوحيّ والتوبة. إنّ هذا النَّص الإنجيليّ يشكِّل دعوةً لنا لإعادة النَّظر في حياتنا كي لا يُباغتنا “ذلك اليوم أو تلك السّاعة”، فنكون غير مستعدِّين لملاقاة الربّ في يوم مجيئه الثاني.

في هذا النَّص الإنجيلي، يُعطينا الربّ يسوع مَثَلاً عن رَجُلٍ سافر وترك بيته بين أيدي خَدمه، وقد أعطى كلَّ واحدٍ منهم عملاً يقوم به بِحَسب موهِبَتِه، وأوصى البّواب بالسّهر. وإذا طَرحنا السّؤال على ذواتِنا: مَن هو هذا الرَّجل الّذي سافر؟ بالطّبع، إنّ الربّ هنا يُكلِّمنا على نفسه، هو الّذي بعد قيامته من الموت، صَعِد إلى السّماء وقد وَعدنا بالعودة مجدّدًا مرّةً ثانية. إنّ البيت الّذي يُكلِّمنا عليه الربّ هو الكنيسة؛ والخَدَم هُم جماعة المؤمِنين. إنّ كلّ واحدٍ منّا قد أُعطيَ موهبةً من الله كي يستخدمها في هذه الحياة ويخدم من خلالها الآخَرين. فالموهبة هي عَملٌ من الله أُعطيَ للإنسان مِن أجل اكتمال جسد الكنيسة، إذ على أعضاء الكنيسة أن يتشاركوا في عمل هذا الجسد. إنّ الـمُلفِت في هذا النَّص، هو أنّ الربّ قد وَضَع بوابًا للسّهر على بيته وسكّانه. إنّ المقصود بالبَّواب في هذا النَّص هُم رُعاة الكنيسة أي الكهنة الّذين تَقع على عاتِقهم عمليّة السَّهر على إخوتهم المؤمِنِين وتنبيهِهم إلى مجيء الربّ الثاني. هنا، نَطرح السّؤال: لماذا هذا التمييز؟ لماذا الخَدَم يعملون داخل البيت، كلٌّ بحسب موهبته، والبّواب يقف عند الباب لأجل السَّهر؟ إخوتي، إنّ الّذين يعملون داخل البيت لن يتمكَّنوا من مراقبة الخارج بِكُلِّ بساطة. لذلك، هناك ضرورة لوجود بوَّاب يقف عند الباب للسّهر على الموجودين في الدَّاخل. إذًا، إنّ دَور الرُّعاة يكمن في السَّهر على عمل أبناء الكنيسة. إخوتي، لكلِّ واحدٍ دَوره في هذه الكنيسة وعليه العمل فيها بِحَسب الموهبة الّتي أُعطيَت له من الله. وفي هذا الـمَثَل، يُخبرنا الربّ يسوع عن أربعة أقسام للَّيل. كان الرُّومان يقسمون اللَّيل إلى أربعة أقسام، أمّا اليهود فكانوا يقسمونه إلى ثلاثة أقسام. وما يَلفُت نَظَرنا أيضًا في هذا النَّص هو أنّ عودة هذا الرَّجل مِن السَّفر ستَكون في اللَّيل، ومِن المعلوم أنّه في ذلك الزَّمان، كانت الطرقات غير آمنة للسَّفر ليلاً بسبب وجود قطّاعين للطُرق، وعدم وجود كهرباء، وبالتّالي، كان هناك خوفٌ من التَّنقل ليلاً منفردًا. 

هنا، نجد من الضَّرورة أن نُشير إلى أنّ اللَّيل، عند اليَهود، يُشير إلى عالم الظّلمة والشَّر. وبالتّالي، فإنّ مجيء الربّ سيكون نورًا يُضيء هذا العالم الـمُظلم. من هنا، نفهم قول الكِتاب المقدَّس: إنّ الّذين هُم في الظلام أشرَق عليهم نورٌ عظيمٌ. إنّ هذا النُّور هو نور الربّ يسوع الآتي إلى العالم ليُنير كلَّ إنسان. في العهد الجديد، اللّيل يُشير إلى عالـمِنا الحاضر، الّذي فيه نحن البشر ننتظر مجيء الربّ. في قلب هذه الظلمة، كيف ننتظر؟ نحن ننتظر بحسب نور يسوع، فنحن لا يمكننا أن ننتظر خارج هذا النُّور. لذلك، نحن ننظر من خلال هذا النُّور إلى ذاك اليوم الّذي هو يوم المجيء الثاني للربّ.

هنا قد يقول البعض: أبتِ، أنتم تطلبون منّا السَّهر. فَهل السَّهر هو أمرٌ سَهلٌ؟ بالطّبع، لا! مِن المؤكَّد أنّ السّهر ليس بالأمر السّهل. ولكن، هنا، أريد أن أُذكِّركم بأهميّة دور الرُّوح القدس. قَبْل آلامه الخلاصيّة، أَخبَر الربُّ يسوع الرُّسلَ، في إنجيل يوحنّا، عن أهميّة الرُّوح القدس، قائلًا لهم: إنّه سيُذكِّرهم بكلّ ما قاله الربّ لهم، وهو سيُعزِّيهم وسيُدافع عنهم في كلّ مِحنةٍ سيتعرَّضون لها. هنا، أودُّ أن أقول إنّني لا أعلم مدى علاقتكم بالرُّوح القدس، ومعرفتكم بأهميّة دَورِه في حياتكم. إذا أحسستُم بالضُّعف والحزن، وعدم القدرة على مواصلة السّهر، أُطلبوا الرُوح القدس فهو الّذي سيُعطيكم القوّة ويبدِّد كلّ حزنٍ في داخلكم ويعطيكم الشَّجاعة لمواصلة السّهر إلى يوم مجيء الربّ. إنّ الرُّوح القدس هو روح الله، ولا شيءَ في هذا العالم يستطيع أن يغلبَه. إخوتي، من الضروريّ جدًا أن نَعيَ نحن المؤمِنون: ماذا يعني أن نكون أبناءً لله. إنّنا أمام خيارَين، لا ثالث لهما: إمّا أن نكون أبناءً لله، وإمّا أن نكون أبناء لهذا العالم. فإذا أردنا أن نكون من أبناء العالم، فهذا يعني أنّنا غارقون في الظلمة ونخاف الخروج إلى النُّور. وفي هذا الإطار، يقول لنا الكِتاب المقدَّس: ” كُلَّ مَن يَعمَل السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، ولا يَأتي إلى النُّورِ لِئَلّا تُوَبَّخَ أعمالُهُ. وأمّا مَن يَفعَل الحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللهِ مَعْمُولَةٌ” (يو 3: 20-21). إخوتي، منذ يوم معموديّتنا، أصبحنا من أبناء النَّور ونسلك في النُّور. إخوتي الأحبّاء، إنّ السَّهر ليس بالأمر السّهل لأنّه يتطلَّب منّا جهادًا مستمرًّا، فنَحن اليوم، كما كلّ الآباء والأجداد الّذين سبقونا، موجودون في معركة هذه الحياة، تمامًا كما الجنود في ساحة القتال، وبالتّالي علينا الجِهاد لا التّكاسل، كما أنّه علينا التزوّد بكافة الأسلحة اللازمة لمحاربة عدوِّنا المتربِّص بنا. في هذا الإطار، يقول لنا القدِّيس بولس إنّه علينا ألّا ننسى أن نُسلِّح أنفسَنا بأسلحِة البِرّ والإيمان ونرتدي خوذة الخلاص، فنكون مستعدِّين لذلك اليوم.

إخوتي، علينا على الدَّوام أن نطرح السّؤال على ذواتِنا: كيف نتحضَّر لملاقاة وجه المسيح الآتي في المجيء الثاني؟ إنّ الاستعداد لهذا المجيء يتطلّب منّا جهادًا مستمرًّا، كما يتطلّب منّا توبةً مستديمة. إنّ التّوبة المستديمة هي العودة إلى أحضان الله بعد غرقِنا في الظلمة من خلال سرّ التوبة. والاستعداد لمجيء الربّ يكون أيضًا من خلال القيام بأعمال الرّحمة وأعمال المحبّة تجاه الآخَرين. إخوتي، في إيماننا المسيحيّ، ننتظر حدثًا عظيمًا، وهو عودة المسيح. ماذا ننتظر سوى ذلك؟ التجسّد؟ التجسُّد قد تمّ، وهل ننتظر الفِداء؟ الفِداء قد تمّ بموت المسيح وقيامته من بين الأموات. هل ننتظر حلول الرُّوح القدس؟ الرُّوح القدس قد أُعطيناه. هل ننتظر أن نكون كنيسة؟ أصبحنا كنيسة. ماذا ننتظر بعد؟ استنادًا إلى قانون الإيمان، نحن ما زِلنا في انتظار حدثٍ واحدٍ، وهو عودة المسيح. وهنا يُطرح السُّؤال: كيف نستعدّ لتلك العودة؟ لقد أعطانا الربّ يسوع سابقًا كلّ العلامات الّتي تدلّ على مجيئه الثاني، وما علينا إلّا كما قال لنا الربّ في هذا النَّص الإنجيليّ: “احذروا واسهروا”. إنّ عيش الحَذَر والسَّهر هما أمران في غاية الصُّعوبة، فنحن لا نستطيع عيشهما من دون مؤازرة الرُّوح القدس لنا، فهو الّذي سيُعطينا كلّ القوّة الّتي نحتاج إليها  كي نكون مستعدِّين لملاقاة الربّ في يوم مجيئه الثاني. آمين. 

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِن قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp