محاضرة للأب ابراهيم سعد،
من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،
تأمّل في أسبوع الصّلاة من أجل وحدة الكنائس،
اليوم، في هذا الأسبوع الّذي يُسمّى أسبوع الصّلاة من أجل وحدة الكنائس، (لَسْتُم ملزمين بتبنّي ما سأقوله)، في إنجيل يوحنا، في الإصحاح السّابع عشر، نجد صلاة يسوع للآب قبل أن تحين ساعة موته، واسمها الصلاة الكهنوتية، وكأنّ المسيح هو الكاهن في هذه الصلاة، فيقول: “ليكونوا واحداً مثلما نحن واحد” (يو 22:17)، وهنا السؤال يطرح نفسه حول موضوع الوحدة. أوّلاً: لنتكلّم على الوحدة، علينا أن نسأل عن سبب انقسامهم قبل السّؤال عن سبب توحّدهم. ففلسفة الانقسام مبنيّة على أساس دفاع كلّ منهم عن الله. وقد وضعوا نقاطاً اختلفوا حولها في التفكير والطروحات، فاعتبر كلّ منهم بأنّه على حقّ وبأنّه هو وحده يُدافع عن الإيمان المُستقيم، وبالتّالي على الآخر أن يُغيّر رأيه وإلّا أصبح لا ينتمي إليهم، والعكس صحيح. أنا لا أريد مناقشة لأيّ طرف منهم في ما هو محقّ فيه أو مخطئ لأنّني بهذا أصبح مثلهم. أنا ملتزم بتعاليم كنيستي ولكنّني أتكلّم من خلال قراءة لأننّي أريد أن أعرف إن كانت هذه الاختلافات تستحقّ أن نصل إلى ألف سنةٍ، تقريباً، من الانقسام الّذي لا نجد له حلّاً. نتذكّر الوحدة لأسبوعٍ واحدٍ في السّنة فنذكر خلاله الصّلاة والوحدة والمحبّة مرّات لا تُعدّ. هي ثلاث كلمات مؤثّرة جدّاً نجعلها تملّ منّا خلال هذا الأسبوع. ولكن ننساها بقيّة أيّام السّنة فلا نتكلّم إلّا على “هم” و “نحن”.
وأسبوع الوحدة، الواقع بين الثّامن عشر والخامس والعشرين من كانون الثّاني، يأتي قبل عيد الفصح بشهريْن، حيث تعود الاختلافات بين الطّرفيْن في الاحتفال بالعيد- في الوقت نفسه أو في وقتٍ مختلفٍ. هناك خلافات واختلافات في أمورٍ عديدةٍ ولكن، فَلنَضع في ميزانٍ مَن يجمعنا وما يُفرّقنا. هناك فرقٌ بين “مَن” و”ما”. فمن يجمعنا هو المسيح وما يُفرقنا هو أفكارنا عن هذا الموضوع أو ذاك. حتّى لو اقتضى الأمر أن يتطرّق المرء إلى المشكلة المؤلمة فيصبح نتاجها إعادة إحياء لمشهد قايين وهابيل.
لماذا يكون الحلّ في إلغاء أو في خضوع؟ لماذا لا يكون الحلّ في الإختلاف شرط أن يبقى تركيزنا على من يجمعنا. لدى الكنيستيْن الكاثوليكيّة والأرثودكسيّة نقاط واضحة في إيمانهما وهي الثّالوث ويسوع وربوبيّته وناسوته وألوهيّته وكلّ ما ينتج عن هذا الموضوع من مفهوم الأسرار والإنجيل. ما يُفرّقنا هو عصمة البابا، زيادة عبارة “والابن” على دستور الإيمان. وبالمناسبة، المطهر ليس سبباً خلافيّاً للانقسام، فقد أتى ذكره بعد انقسام الكنيسة بوقتٍ طويلٍ كما أنّ الحبل بلا دنس كان عام 1854أيّ أنّ لا شيء قديم. فهل تستحقّ كلّ هذه الأمور أن ننقسم وأن نجعل صلاة المسيح كاذبةً؟ فعندما تطلب أمراً ما الى الله يكون لديك الرّجاء والإيمان بأنّ الله هو الوحيد الّذي يستطيع أن يُحققّ لك ما تريد ولكن عندما تطلب إليه أمراً ولا يستجيب لطلبك يدور في رأسك تساؤل حول هذا الوضع أو تقول بأنّ الله لم يجد الوقت المناسب لتحقيق طلبك، ولكن مشكلتك الحقيقيّة هي عدم استجابة الله لطلبك. وقد طلب يسوع المسيح من الله “ليكونوا واحداً كما نحن” ولكنّ الله لم يستجب بعد لطلبه فأصبح هناك تساؤل حول الله وهنا تكمن الخطورة أيّ أنّ الله لم يستطع عمل ذلك، وقد جعل هذا الأمر صلاة يسوع تفشل على الرّغم من أنّه قال: “كلّ ما تطلبونه يُستجاب لكم”. وتبقى أهمّ صلاة “ليكونوا واحداً كما نحن” إلاّ أنّ الله لم يحقّقها حتى الآن
.
السّؤال الأساسيّ: “ماذا يطلب يسوع ليكونوا واحداً؟” ما معنى الوحدة؟ هل نجحت أم لا؟
وإن لم تنجح فمن هو المسؤول عن عدم نجاحها؟ النّاس هم المسؤولون عن ذلك لأنّهم لم يفهموا طلب يسوع. ففي أحيانٍ كثيرةٍ، كلمة “وحدة” تنطبق على الطّرفيْن أو على أحدهما وهي تعني أنّ واحداً منهما سيتنازل للآخر. أن نتوحّد أيّ أن تصبح هويّتي في خطر، بسبب اتّحادي بك، وهكذا يُصبح من الممكن أن تتعطّل هويّتي، أو يتعطّل ما تُسمّونه هويّة، أو نفوذ أو سلطان أو وجود. ذكرتُ كلماتٍ عديدةً ولكنّني لم أذكر يسوع لأنّه لا خوف عليه، أنتم تستعملونه لتختلفوا. ولكي نفهم معنى “واحداً” في صلاة يسوع علينا أن نفهم ما يليها “كما نحن” بمعنى أنّ الآب والابن واحدٌ. لم يذب الابن ولا الآب، ولم تضِعْ هويّة أحد بسبب الوحدة بينهما، لأنّ لا أحد منهما يشعر بعقدة النّقص، هما كاملان والإنسان الكامل هو الإنسان البسيط، أمّا الإنسان النّاقص فهو الإنسان المعقّد لأنّه، في أيّة لحظة، يُمكن أن ينتبه لما هو موجود عند غيره وناقص عنده، فيعتبر نفسَه ناقصاً. والحلّ يكمن في إلغاء الآخر كي لا يظهر ما هو موجود عنده، أو إخضاعه كي يصبح ملكه. كلّ منّا معنيّ ومسؤول. وحين يقول الرّبّ يسوع “ليكونوا واحداً كما نحن” علينا أن نعرف معنى “نحن واحد” بمعنى أنّه كلّ ما هو لي هو لكَ وكلّ ما هو لكَ هو لي. فالإتّحاد لا يعني أنّي إذا اعتمدتُ رأيكَ سنصبح واحداً.
إذ لا اتّحاد بمعنى أنّ كلماتي تصبح كلماتك، وبالتالي لا يُمكنكم فهم الاتّحاد من خلال وحدة العقيدة ووحدة الفلسفة ووحدة الفكر. يجب أن يُفهم الاتّحاد انطلاقاً من كلمة “نحن” الّتي قالها يسوع. “نحن” أيّ الآب والابن. ولن نستطيع أن نفهم كلمة “نحن” إلّا من خلال قاموس واحد وهو المحبّة فقط. رجلٌ وامرأةٌ يُحبّان بعضهما، يقولان إنّهما واحدٌ انطلاقاً من الحبّ الّذي يجمع بينهما لا لأنّهما يتبنّيان الأفكار نفسها حول موضوعٍ مُعيّنٍ. لذلك يُمكن التّكلّم على الوحدانيّة في إطار الحبّ فقط. إذاً صلاة يسوع إلى الآب “ليكونوا واحداً كما نحن” هي بمثابة طلب الى الله أن يزرع فيهم الحبّ، فعندما يُصبحون مُطعّمين بالحبّ أي (حبّ الآب والابن) سيعرفون كيف يكونون واحداً. ولأنّنا لم نفهم بعد مفهوم الوحدة، انقسمنا، ولأنّنا لم نفهم بعد مفهوم الحبّ في الإنجيل، تخاصمنا. إذاً لقد بدأت انطلاقة الحوار الكَنَسيّ بشكلٍ خاطئ، هذا هو رأيي، ولكنّني لا أُجبر أحداً على الالتزام به. لقد بدأوا الحوار على أساس ما قاله كلّ منهم ومناقشة الفكرة لمعرفة من هو على حقّ، لذلك لم يتوصلوا إلى نتيجةٍ لأنّهم لم يرتكزوا على أساس المحبّة. وكلّ حبّ من إنسانٍ إلى آخر هو حبٌّ إلهيٌّ نزل عليك بطريقةٍ ما. إذاً النّقاش الّذي دام سنين طويلةٍ ولم ينتهِ، سببه أنّهم انطلقوا من أساس اختلافهم في الآراء. والمشكلة، هنا، تكمن في استعمال كلمة “محبّة” التي أصبحت مُبتذلةً، لأنّ النّاس لا يسمعونك، باعتبار أنّ هذا الكلام عن المحبّة ضربٌ من الشّعر، على هذا النّقاش أن ينتهي لأنّنا نُحبّ بعضنا، فلا حاجة إلى الإتّفاق إن كنتَ تُحبّ، إذاً المشكلة الأساسيّة هي في الانطلاقة.
يحصل الانقسام عندما تجهلون جوهر الإنجيل وهو المحبّة، لأنّكم انطلقتم بشكلٍ خاطئ وبالتّالي لن تحصل الوحدة لأنّهم لن يوقفوا الحوار حولها، وكأنّهم يُتاجرون بها من خلال المؤتمرات ومآدب الغداء والعشاء وعدسات الكاميرا. لقد بدأت الصّلاة من أجل الوحدة منذ خمس وستّين عاماً وهم ما زالوا يبحثون في الحوار، وفي بعض الأحيان يقولون إنّ الحوار قد تأزّم بسبب أفكار ومُعتقدات شخصيّة. فبعد مرور مئات السنين، اتّفقوا في أحد المؤتمرات على عدم الالتباس، أيّ أنّ الكاثوليكيّ لا يصبح أرثوذكسيّاً والعكس صحيح، ويختمون بأنّ الجوّ كان إيجابيّاً. وينسون المسيح على الصّليب وهو يتألّم، إلى حدّ أنّ لا وقت لديهم لكي يدفنوه.
وبهذا نجعل كلمة “محبّة” زينة بسبب هذا التّمثيل لأنّ الانطلاقة الأساسيّة هي العقائد. فإذا أتينا بمُسلمٍ وحاولنا أن نجعله يؤمن بالمسيح من خلال العقائد فهو لن يؤمن، أمّا إذا أتينا به وحدّثناه عن محبّة المسيح فهو حتماً سيؤمن به وسيقبل بالإنجيل. أنا لا أعني بأنّ العقائد غير صالحة ولكن عليك أن تتكلّم عليها انطلاقاً من حبّ المسيح. ففكرة الصّعود الإلهيّ وفكرة التّجسّد، أيّ أنّ ابن الله صار إنساناً هي الّتي تخلق لدى الأديان الأخرى مشكلةً، لأنّه من المستحيل أن يكون لله ابناً ويتجسّد. ولكن إذا انطلقنا من السّؤال “لماذا أصبح إنساناً؟” ذلك من حقيقة حبّ الله للنّاس الّذي لا يُريد الابتعاد عنهم ويشاركهم إلى حدّ تخلّيه عن عرشه. وعندما نتكلّم على الصّعود الإلهيّ أيّ عندما جلس يسوع الإنسان عن يمين الآب هذا يعني أنّ جزءاً منك أصبح “فوق” عند الآب بسبب الحبّ. وهكذا نكون لا نصنع ديناً ولا نتكلّم على الدّين المسيحيّ بل على المسيح والإنجيل. فحين يكون أخوك بحاجةٍ الى المساعدة، عليك أن تُسرع لإنقاذه من دون التّأخّر وبعدها تناقشه لأنّ هناك أفضليّة يُحدّدها حبّك لا أنتَ. إذاً هناك ما هو أعلى منك ومنه وهو الالتزام بحبّ المسيح أو عدمه. لذلك، عليهم أن يبتعدوا عن هذه الخلافات والاختلافات بتحضيرهم لمؤتمرات حول فهم حبّ المسيح وليس لمؤتمرات حول الوحدة.
لقد أجبتُ، سابقاً، عن سؤال “من يجمعنا؟” المسيح، ولكنّي الآن أعود عن هذه الإجابة. “من يجمعنا؟” نحن نختلف حول تفسيرنا للمسيح. صحيح أنّ المسيح يجمعنا والإنجيل هو واحد ولكن القراءة مختلفة. فلنبحث عمّا يجمعنا من دون الاختلاف في تفسيره: إذا قلنا إنّ المحبّة هي الّتي تجمعنا، نقع في مشكلةٍ ثانية لأنّ مفهومنا للمحبّة يبدأ بفلسفة. الوجه الآخر للمسيح الّذي يجمعنا هو الفقير فلا اختلاف حول تفسير كلمة ” فقير”. إلاّ أننا لم نجد مؤسّسة كَنَسِيّة مُشتركة تحت إشراف إدارةٍ موّحدة تهتمّ بالفقير.
إذا كنتم لا تُريدون أن يجمعكم المسيح لأنّكم على اختلاف حول تفسير النّصوص، فاعتمدوا الفقير ليجمعكم، فهو لم يُذكر في أيّ نصّ لأنه لا يملك المال. إذاً توحّدوا على الفقير وبخاصّةٍ في هذه المرحلة التي تبرز فيها الأزمة. من يجمعكم هو واحد: المسيح، الفقير، الأمر سيّان، لأنّ المسيح قال: ” هذا الفقير هو دينونتكم على الأرض”. هكذا قال يسوع في إنجيل متّى “كنتُ جائعاً وعطشاناً… ولم تُساعدوني أو كنتُ جائعاً… وساعدتموني فإذا فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فَبي قد فعلتم”. وإذا كنتم غير قادرين على أن تتوحّدوا على العقائد أو على القربان أو على وجود المطهر أو عدمه فتوحّدوا على الفقير. وبهذا تصيرون كنيسة المسيح. “الّذين أعطيتَهم لي” يقول المسيح لله عن الرّسل الاثنَيْ عشر، واحدٌ منهم كان خائناً وهو يهوذا.
في هذا الأسبوع – أسبوع الوحدة، اذهبوا واقترحوا على رعاياكم أن تبتدعوا أسبوعاً آخر وتُسمّونه “أسبوع الكيلو” فتجمعون الطّعام وتوزّعونه على الفقراء وبهذا تتمّ الوحدة.
الوحدة مبنيّة على المحبّة الّتي تنبثق من الأمّ والأب وهكذا تكون العائلة موحّدة. كلّ حديث عن الوحدة والانقسام والكنيسة المنقسمة بجُرأة وبتواضع، يظهر بأنّ المرء يعترف بأنّه أخطأ، ولم يُحبّ كما أراده المسيح أن يُحبّ.
والدّليل على ذلك، مثلاً، هو حين انقسمت كنيسة الرّوم الارثوذكس وكنيسة السّريان الارثوذكس عام 451 قبل أن تنقسم الكنيستان الكاثوليكيّة والارثوذكسية عام 1054. اختلفوا على دفاعهم عن يسوع المسيح فهو ذو طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة وهاتان الطّبيعتان تصنعان مشيئتيْن، الأولى إلهيّة والثّانية إنسانيّة وهذه الأخيرة خاضعة للمشيئة الإلهيّة. هنا وقع الخلاف: هل لكلّ طبيعة مشيئة أو للطّبيعتيْن مشيئة واحدة؟ في القرن العشرين أيّ بعد 1500 عام من الخلاف، التقى بطريركا الرّوم الارثوذكس والسّريان الارثوذكس ، وهما صديقان، وقرّرا أن يُوحّدا الطّائفتيْن معتبريْن أنّ الخلاف الّذي وقع لفظيٌّ. لقد سهّلا الوحدة لأنّهما أَحَبّا بعضهما. إذاً العودة دائماً هي إلى المسيح أو إلى الفقير. وإذا أردتَ أن تكون أكثر وعياً ويقظةً، حتّى لو لم يكن المسيح والفقير موجوديْن، تكون أنتَ المسيح أو الفقير كي تتّحِد بالآخر. وهكذا تكون انطلاقة الأعياد كلّها، بدءاً من عيد الميلاد وصولاً إلى الفصح حين ظهر يسوع قائماً من بين الأموات إمّا بُستانيّاً أو غريباً والاثنان هما صورة عن الفقير. إذاً المسيح القائم تراه في الفقير والمسيح المولود تراه في الفقير. من هنا، في أسبوع الوحدة، نُصلّي من أجل وحدة الكنائس: عودوا إلى الله. “لأنكم عندما تبتعدون عنّي ستتوهون، وكي لا تتوهوا عودوا إليّ”.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.