محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

من المرشدين الروحيّين لجماعتنا الرسوليّة،

 “اذكرني يا ربّ متى جئتَ في ملكوتك” (لو 42:23) 

يعرف الأسبوع الأخير من حياة الرب يسوع بالأسبوع العظيم، وبخاصة عندما كان على الصليب ومحاطا بالمجرمين، إذ كان هناك لص مصلوب عن يمينه والآخر عن يساره. وشعار جماعتنا هو ذاتها الصرخة التي اتجه بها لص اليمين إلى يسوع عندما كان على الصليب، ولكن ما يهمنا نحن فعلا ليس الصرخة وحسب، بل الجواب الذي صدر من فم يسوع.

«26 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ أَمْسَكُوا سِمْعَانَ، رَجُلاً قَيْرَوَانِيًّا كَانَ آتِيًا مِنَ الْحَقْلِ، وَوَضَعُوا عَلَيْهِ الصَّلِيبَ لِيَحْمِلَهُ خَلْفَ يَسُوعَ. 27 وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ.28 فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ،29 لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ!30 حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا!31 لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟» 32 وَجَاءُوا أَيْضًا بِاثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلاَ مَعَهُ. 33 وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى «جُمْجُمَةَ» صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ. 34 فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ اقْتَرَعُوا عَلَيْهَا. 35 وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ
اللهِ!». 36 وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاً، 37 قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ!». 38 وَكَانَ عُنْوَانٌ مَكْتُوبٌ فَوْقَهُ بِأَحْرُفٍ يُونَانِيَّةٍ وَرُومَانِيَّةٍ وَعِبْرَانِيَّةٍ: «هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ». 39 وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!»40 فَأجَابَ الآخَرُ وَانْتَهَرَهُ قَائِلاً: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟
41 أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». 42 ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». 43 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»».

نلاحظ في البداية، عندما حمل يسوع الصّليب أن شخصًا قد ساعده، وكان يدعى “سمعان” تماما كـ
“سمعان – بطرس” الذي لم يكمل الدّرب مع يسوع. أما إنجيل يوحنا، فيخبرنا أن شخصا واحدا قد بقي مع يسوع ولم يذكر اسمه، وهو الرسول يوحنا نفسه، وعدم ذكر اسمه على الرغم من أنه الوحيد الذي وصل مع يسوع دليل على أنّ الطريق مفتوح للجميع، لكلّ من يريد أن يكمل الدرب مع الربّ يسوع.

وسمعان “القيرواني” ليس بالضرورة أن يكون من مدينة “قيروان” في ليبيا، فالأمر أعمق من هذا بكثير. يسوع كان صاعداً إلى “الجمجمة”، والجمجمة باليونانية تعني “Kranion”….. وكأنه يريد أن يقول أن سمعان القيرواني هو الذي يقبل أن يرافق يسوع حتى الموت، لأن سمعان بطرس ادّعى أنه لن يسمح لأحد بأن يمسّ يسوع، أو يقتله، فأجابه يسوع “اذهب ورائي يا شيطان”، لأنه اتخذ موقف الشيطان. وموقف الشيطان في الإنجيل، هو محاولته المستمرة لإيجاد ثغرة أو حجة تمنع يسوع من إطاعة أبيه، وعندما قال بطرس بأنه لن يسمح بموت يسوع، كان وكأنه يطلب منه أن يتوقف عن طاعة الآب، كما الشيطان، لذا طلب منه يسوع أن يبقى خلفه ويحتمي به لأنه لن يتمكن من الاحتمال. أما سمعان القيرواني الغريب فقد قبل أن يكملَ حتى النهاية عندما خاف بطرس وتراجع. وهنا ندركُ أولا، أن أحدا لا يتمتع بامتياز أن يكون رفيق يسوع، بل هو قرار شخصي يعبر عنه موقفنا.

وصعدوا إلى الجمجمة، وربما قد أطلقت عليها هذه التسمية نسبة لعدد الناس الذين حصدت أرواحهم فيها، وكأنها ساحة الاعدام والموت. وأخذوا مع يسوع لصَّين، مذنبَين، مجرمَين، بالرغم من وجود لص ثالث مجرم كان يتوجب صلبه واسمه باراباس. وباراباس كان زعيم لمجموعة مسلحة عند اليهود أرادت أن تقوم بثورة ضد النظام الحاكم، لتطرد الرومان وبالتالي يتحول الحكم إلى حكم ذاتي، لأنهم يظنون أن وعد الله لهم هو بأن تحكم اليهودية ما بين النهرين. واسم باراباس بالعبرية والآرامية هو “بر أبفا”، و”بر” تعني الابن، و”أبفا” تعني الآب، أي ابن الآب. إذا لدينا باراباس “ابن الآب”، ويسوع ابن الآب، وهو الوحيد الذي يحق له أن ينادي الله بـ “أبفا”. وكان لدى اليهود الخيار فاختاروا “ابن الآب” اللّص، الذي أراد ملكوتاً على شاكلة البشر. أما يسوع فقد دعا إلى ملكوت لا صورة له ولا وصف. اختار الناس “بر أبفا” واختاروا صلب يسوع. والصلب لا يعني القتل، بل يعني ميتة العار، ميتة العبد لأن العبد هو من كان يصلب في الامبراطورية الرومانية، أما الحر فلا يصلب حتى لو كان مجرما. فبولس الرسول لم يصلب لأنه صاحب هوية رومانية لا يعذَّب يل يقطع رأسه ليموت بسرعة، أما بطرس فصلب لأنه يهودي وهو بمثابة عبد عند الرومان.

وصلب مجرمين مع يسوع يذكرنا بقول ورد في العهد القديم: “وأحصي مع الأثمة”. ففي بداية المشهد إذا، يحاكم يسوع كمجرم بين مجرمين “قتلا”، ولكن “أمام الله” كيف يمكن ليسوع أن يدفع أجرة خطيئة لم يرتكبها؟ فالموت أجرة الخطيئة، ومن هنا نفهم موقف يسوع في الجثسمانية، عندما قال لأبيه: “إن أمكن أن تعبر عني هذه الكأس”، ليس خوفا من الموت، بل لأنه لم يتقبل أن يقف وقفة المتهم أمام أبيه لشدة صدقه وطاعته وإخلاصه للآب. فالموت يعني أنه خاطئ، وهو يريد أن يعفيه الآب من الوقوف أمامه كمذنب، إلا أنه مع ذلك خاضع لمشيئة الآب إن كانت هذه هي. فيسوع إذا لم يخف الموت بل رفض الوقوف كمذنبٍ أمام أبيه الذي سرّ به بحسب الإنجيل.
فالمشهد الأول إذا مشهد غير منطقيّ وغير مقبول، ولكن يسوع قبل بغير المنطقي وغير المقبول حبا بالبشرية، وهذا أمر لا يمكن للعقل البشري أن يفسره لذا علينا أن نقبل به فقط، ويبقى السؤال أنقبله أم لا؟

وعندما صلبوا لصَّين واحد عن يمين يسوع والآخر عن يساره، أحدهما قبل والآخر لم يقبل، إلا أن الذي لم يقبل لم يشتم يسوع، بل قال له: ” إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا”، وهذا ما قاله كل من اليهود، وبطرس – بطريقة مختلفة – والشيطان عندما جرب يسوع بعد اعتماده في نهر الأردن “إن كنت أنت المسيح ابن الله…”. والشيان ترك يسوع بعد تلك التجربة إلى حين، وهذا “الحين” كان عند الصلب، فيسوع كان قادراً على النزول عن الصليب، ولص اليسار طلب منه أن يخلّصهم ويخلّص نفسه، إلا أن يسوع لم يجبه. أما لص اليمين فقد أجاب اللّص الآخر مؤكداً أن هذه هي النتيجة الطبيعية لكلّ الأفعال التي قاما بها، أما يسوع فلم يخطئ، وهذا الاعتراف من “لص” هو أهم كلام لاهوتي في الإنجيل لأنه من حيث لا يدري كشف حقيقة الابن البار الذي أطاع الآب حتى الموت، موت الصليب، دون أن يخطئ. وقال له: “اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ”، وكان من المفترض أن يكون جواب يسوع: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْمَلَكوت”، لأنه طلب أن يكون في الملكوت، إلا أن يسوع أجابه: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ”، ولكن لماذا؟

آدم وحواء كانوا في الفردوس قبل السقوط، وبالتالي فإن يسوع يبرر اللّص من الخطيئة، ويخبره بأنه في عينيه بار، ويعيده إلى الفردوس حيث كان سيدا ولم يكن عبدا، وبالتالي فإن يسوع بهذا القول حرر اللص من عبوديته وجعله سيد حتى لو كان مقيّد اليدَين على الصّليب. حرره من الخطيئة، وإذ حرر من الخطيئة أصبح “آدمي” أي كآدم قبل الخطيئة، وبالتالي بات في معية يسوع أينما ذهب، وقد قالها يسوع ليوحنا: “حيث أكون أنا، فهناك يكون خادمي”، وبالتالي أقام يسوع علاقة بينه وبين اللّص لأنه طلب الرّحمة.

إذا، في الوقت الذي تتلقى في كل الناس ورقة نعي على باب الموت، تلقى لص اليمين المشرف على الموت دعوة عرس، لأنه سيذهب إلى العرس الأبديّ. وهذا أيضا أمر غير مقبول أو معقول “عقليا”. ولكنَّ يسوع طلب من أبيه أن يغفر للذين قتلوه “لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون”، فكم بالحري هذا اللص؟ فالرحمة إذا لم تبدأ مع هذا اللّص، بل مع المجرمين الذين لم يتوبوا أيضا. وهذا لا يعني أن من لا يتوب ينال الغفران هكذا، إلا أنه يظهر لنا موقف يسوع الذي حكم عليه بالموت، والله الآب يعرف أنه بلا عيب، وبذلك كانت كلّ الخطيئة ستعاقب، فيقف يسوع أمام الله ويغطي البشر قائلا لأبيه: “هم لا يعرفون ماذا يفعلون” وبالتالي يطلب منه أن يمحي ذنبهم هذا. حدث كل هذا عندما كان يسوع على الصليب يواجه الموت، وبالتالي لا يمكن أن نذهب إلى الموت ونحن لدينا أية خطيئة نحملها على شخص آذانا، أي نُغفَر ونَغفِر.

إذا قول: “اذكرني يا ربّ متى جئت في ملكوتك” هو اعتراف أولا بملكية يسوع، إذ لا وجود لممكلة بدون ملك، وإلا بطل عنها لفظ “مملكة”، وأهمية المملكة تكمن بوجود الملك، وبنوعية الملك، إن كان ضعيفا، فهي ضعيفة، وإن كان ثابتًا فهي ثابتة. واللص اعترف بيسوع ملكا بالرغم من أنه كان يموت على الصليب، وهو بالتالي نطق بكلمات لا يصوغ النطق بها، وهي اعترافه بملكية الرب بالرغم من إشرافه على الموت، اعترف بملكية الرب وهو لا يعطي حكم ولا يتفوه بكلمة. وهذا ينقلنا إلى ميلاد يسوع، عندما اعترف المجوس الغرباء بولادة الملك، بالرغم من أنه مجرد طفل صغير، والمولود لا يكون ملكا حتى لو كان ابن ملك، بل أميرًا. واعترافهم بمولود ملك يعني أن المملكة أصلا لم يكن فيها ملك إذ لا يجوز وجود ملكَين على رأس مملكة واحدة. والمولود هو رمز الضعف أيضًا، أي أن يسوع كان ضعيف ومع ذلك اعترفوا به ملكاً، في الوقت الذي قرّر كل من كانوا ينتظرون الملك قتله. من انتظروا ملكوته قرروا إلغاء ملكوتهن ومن رأوا ضعفه اعترفوا به ملكا! “إن أفكاري ليست كأفكاركم، وطرقي ليست كطرقكم، كبعد المشرق عن المغرب هكذا طرقي بعيدة عن طرقكم وأفكاري بعيدة عن أفكاركم يقول الرب”.
يقول الربّ يسوع: “الحقّ الحقّ أقول لكم…”، و”الحقّ” تعني “آمين”، وعادة “آمين” تقال في نهاية الصّلاة كخاتم لها وليس في بداية الكلام، إلا يسوع يختم كلامه في البداية وليس في النهاية.

“الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ”. وكلمة “اليوم” التي تُردَّد كثيرا في الليتورجيا: “اليوم علق على خشبة”، “اليوم يولد من البتول”، “اليوم يوم القيامة”، تدلنا على أننا لا نقيم تذكار لما حدث منذ أفي عام، بل أننا نعلن موقفاً مفاده أننا دخلنا في هذه الحالة، وبتنا جزءا منها، وبالتالي تحولت الحالة إلى “يومنا” الذي نعيشه. عندما نقول “اليوم” نحن لا نتذكر، بل ندخل في هذا “اليوم”، وبالتالي يكون هذا عيدنا وليس عيد القيامة، أو عيد الميلاد، لأننا دخلنا فيه بقبولنا لربوبية يسوع وملكيته وعظمته تماما كما قبلها اللص. واللص ليس مجرما أكثر من غيره، بل هو خاطئ كالجميع وعلى حافة الموت، هو مثلنا من حيث الاهتراء البشري نتيجة للخطايا والأهواء، ونحن لدينا امتياز وحيد على هذا اللص وهو أنه بامكاننا أن نقول هذا الكلام ونحن لسنا على الصليب، بكامل قوتنا وأثناء حياتنا اليومية وليس ثناء مواجهتنا للموت، وهذه هي النعمة. ولكن للأسف هذه النعمة لا تدوم لأننا ننساها مباشرة، كما نسي بطرس نعمة مشيه على المياه، إذ لم يكن البحر بحرا عندما كان يتجه بنظره نحو يسوع ولكن بمجرد أن أشاح بنظره عن يسوع عاد البحر بحرا يؤدي إلى الغرق، فالنعمة إذا لا تدوم. وهناك رحمة كبيرة حصلنا عليها من الله، وهي قدرتنا على النسيان، لأننا إن كنا نحن ننسى يمكننا بالتالي أن نفهم أن الله أيضا ينسى، كما نسي على الصليب كل ما فعله هذا اللّص.

ولكن من أين لنا أن نعرف أن الله ينسى؟! جاء في الإصحاح 31 من سفر إرميا: « 31«هَا أَيَّامٌ مُقْبِلَةٌ»، يَقُولُ الرَّبُّ أَقْطَعُ فِيهَا عَهْداً جَدِيداً مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا، 32 لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي أَبْرَمْتُهُ مَع آبَائِهِمْ، يوم أَخَذْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فَنَقَضُوا عَهْدِي، لِذَلِكَ أَهْمَلْتُهُمْ. 33 وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أُبْرِمُهُ مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ»، يَقُولُ الرَّبُّ: «سَأَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَوَاخِلِهِمْ، وَأُدَوِّنُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. 34 وَلاَ يَحُضُّ فِي مَا بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ إِلَهَكَ لأَنَّهُمْ جَمِيعاً سَيَعْرِفُونَنِي، مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، لأَنِّي سَأَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ مِنْ بَعْدُ.»»

إذا قال الربّ “سيعرفونني”، أي بعد أن يقوم الربّ بفعل معين وهذا الفعل هو أنه سيصفح عن خطايانا ولا يذكرها من بعد. أي ان ارتكب أحدنا خطية وعاد إلى الرب بالتوبة، ثم عاود ارتكاب خطيئة جديدة وتاب من بعدها من جديد، ينسى الرب أنه هو نفسه الذي ارتكب الخطيئة الأولى، ولا يحاسبه عليها. بل أكثر من ذلك، بمجرد قدومنا إلى الربّ تائبين، فإنه يغفر لنا خطايانا وينساها حتى قبل أن نعترف في سر الاعتراف. وهنا يبرز سؤال: “لماذا نعترف عندها إذا؟” في مثل الابن الضال قبل أن يعترف الابن بخطيته لأبيه، قبله الأب على عنقه وسامحه، إلا أننا نعترف لأن الرب قد غفر خطايانا ونحن لا نقبل إلا أن نعترف بربوبيته كاللص، ولكي نعترف بربوبيته علينا أن ننكر الآلهة الأخرى قبلها وهذه الآلهة هي خطايانا. فنحن إذا نعترف لأننا عدنا وعرفنا الله لأنه غفر لنا خطايانا، ولأننا سننكر الآلهة التي عرقلت مسيرتنا نحو الله. نحن لا نعترف بالخطية بل ننكرها. ولا يجب أن يحضر أحد منا ليعترف وهو على يقين أنه سيعود إلى الخطيئة بعد الاعتراف، بل يجب أن يكون متخذا لقرار بأنه لن يرتكب الخطايا مجددا في حياته، وإلا عليه أن يركز على توبته أكثر. وفي سر الاعتراف، يأتي المعترف إلى الكنيسة والكاهن، أي إلى الناس الذين يفرحون به لمجرد عودته دون أية مصلحة أخرى، ويعترف أمام الله والكنيسة بربوبية يسوع وينكر آلهته أي خطاياه، وهذا أيضا سر المعمودية، والفرق أنه في المعمودية هناك ماء العماد، أما في الاعتراف فهناك ماء “الدمع”، أي معمودية الدموع. فعمليا في سر الاعتراف نقول نحن: “اليوم قال لي الرب أنني أنا أيضا سأكون معه في الفردوس لأنه سينظر لي كنظرته لآدم قبل أن يخطئ” وبالتالي نعود أسياد، ولسنا عبيد لأي إله أو خطية من بعد، حتى أننا لسنا عبيدًا للّه بل أبناء له، أي يرفعنا الرب من مستوى العبودية إلى مستوى اعترافه بأبوّته لنا وبنوتنا له، لذا يحقّ لنا أن نصرخ كصرخة يسوع: “أبّا… أبانا الذي في السموات…”. ونحن عمليا نردد الصّلاة الربية في الكنيسة قبل المناولة، لذا يحق لنا من بعدها أن نقترب ونشترك في مائدة أبينا ونأكل معه في المناولة.

فالقداس الإلهيّ إذًا، هو دخول أحدنا محملا بآلهة أخرى تتسلط عليه، فيسمع كلام الإنجيل ويوزَّع عليه هذا الكلام، كلام الله أثناء العظة، فيقرر أن يدخل بنوة الله ويقبلها، فيحين الوقت بعدها ليأكل من مائدة أبناء الرب لا من مائدة العبيد الذين لا يأكلون على مائدة السيد. أي يطعمنا الرب من مائدته، وهذه المائدة هي ذاتها تلك التي سنجلس عليها في العرس السماوي. إذا في القداس الإلهي يمنحنا الله “دعوة إلى العرس” لا تنتهي صلاحيتها، وتبدأ فرحتنا من تلك اللحظة لأننا أيقنا أننا سنشارك في العرس السماوي طالما أننا نحافظ على الدعوة التي حصلنا عليها ولا نضيعها. 

وللأسف، نحن نخرج من القداس وننسى كل ما حدث في الداخل، ونعود لنتخبط في هذه الدنيا حتى موعد نعمة الرب التي تدخلنا في قداس جديد، وهكذا دواليك. لذا فإن أي قداس لا يشبه قداسا آخر، إذ علينا أن نركز في كل مرة على رحمة ربنا لنا لأنه في كل مرة يرحمنا من جديد. علينا أن نركز على أن سيد القصر يقرر أن يصرخ وينادي العبيد الذين في الخارج ليدخلوا ويأكلوا مع ابنه على مائدة واحدة دون أن يتخوف من تبلدنا واعتبار أنفسنا “من أهل البيت” وهذا ما نقوم به فعلا، وتكبر على الله الذ لا يطلب منا شيئا. أما اللص فقد قال: “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك” أي قرر أن يقبل أن يكون على مائدة الآب، وأن يقبل فقط دون أن يقوم بأي أمر آخر.

إذًا الحياة الروحيّة في الكنيسة ليست جهاد روحيّ، بل هي اللاجهاد، وقبول عطية الله وعدم إضاعتها. وإذا كنا أصلا نخرج من جرن المعمودية أبناء للّه، فلماذا نجاهد لنصبح أبناءه؟ نحن لا نزال نتصرفُ بحسب عقلية العبد، لذا نحلمُ بالبنوّة. كلُّ ما يتطلبه الأمر هو يقظة روحيّة، يقظة لحقيقة أننا أبناء الله، لأننا عندها فقط نعي أننا لسنا في حاجة لأن نقوم بأي فعل لأن الميراث كلَّه لنا أصلاً، وإلا نكون جهلة: “يا أحمق، الليلة تؤخذ نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون؟”، “اطلبوا أولا ملكوت الله وبرَّه وكلُ شيءٍ يزُاد لكم” “اذكرني في ملكوتك”، آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp