محاضرة للأب ابراهيم سعد، 

تنشئة حول”لاهوت الموت والقيامة”،

الموت والشهادة في رسائل القدّيس اغناطيوس، 

عاش القدّيس اغناطيوس الانطاكي في القرن الأوّل واستشهد في أواخره، وكان الأسقف الأوّل على كنيسة أنطاكيا بعد القدّيس بولس الرسول. ‏وهو يدعو نفسه “العامل الإله” أو “المتوشّح بالله”، أي صفته: حامل. طُلِب إليه التّوجّه إلى روما، وهذا حدثٌ ذو أهميّة كبرى.

بعث برسائل إلى كنائس عدّة لكي يبقى على علاقةٍ بها بالتّوجيه والإرشاد، ويصحّح من خلال الرّسائل الأخطاء المرتكبة في الكنائس، كما فعل من قبله بطرس وبولس، وتركّز كلامه على وحدة الكنيسة، وعن أنموذج الأسقف المثالي ومركزه في الكنيسة؛ فالشّماس يكون قد بلغ اللاّهوى، والخوري يبلغ الاستنارة، والمطران يبلغ التّألّه. وكلمة الله دائماً، فوق الإنسان، تعليماً وتنفيذاً، وإغناطيوس، حامل الإله، علّم ونفّذ تعاليم الله، هو حامل الإله، وطلب من تلاميذه أن يمسحوه بنعمة الصّبر وطول الأناة، ولطالما تاق إلى بلوغ الكمال في المسيح، حتى وهو ذاهبٌ للموت من أجل اسمه. وقد أبَت المحبّة عليه أن يسكتَ على الخطيئة، وراح يحثّهم على الانسجام مع فكر الله في السّلوك، لأنّ المسيح، حياتنا الملازمة لنا، هو فكرُ الله، وكلّ الأساقفة (المعلّمين) في أقاصي الدّنيا هم في فكر المسيح.ولم يقل القدّيس هذا الكلام، وهو جالسٌ على مكتبه يعظ النّاس، بل قاله في كامل هدوء الذّاهب إلى الموت من دون أن يهزّه هذا الأخير، ودخل في “حالة الحياة”.
ويقول في مكان آخر: “صلّوا ولا تملّوا من أجل النّاس لأنّ فيهم رجاء التّوبة، فيعودوا إلى الله”، وهو لم يقطع الامل من أيّ من النّاس؛ ” علّموهم على الأقلّ بالمَثَل، فيكون لكم ذلك؛ إن غضبوا فكونوا وُدعاء، إن تجبّروا فكونوا متواضعين، إن جدّفوا صلّوا لهم، إن جدّفوا، فاثبتوا على الإيمان… آخوهم باللّطف، اقتدوا بالرّب، فمَن كان مثله ضحيّة ظلم؟ مَن عُرّي مثله؟ … لا تتشبّهوا بالشّيطان بل بكلّ نقاوة، أقيموا في الجسد والرّوح مثل المسيح؛ قال هذا، وذهب إلى الاستشهاد.

أمّا الفرق بين المنتحر والشّهيد، أنّ الأوّل يقوده الكره للحياة إلى الموت، أمّا الثّاني فيقوده حبّ الحياة للموت. والشّهادة لا تُطلب بل تجرّه إليها الشهادة لكلمة الله، والإيمان به. والأوّل لا مضمون لموته، أمّا الثّاني فمضمون موتِه هو شهادتُه لكلمة الرّب. وقد ذهب القدّيس اغناطيوس إلى الموت كالمدعوّ إلى عشاءٍ، كان هو مُعدّه، على حدّ ما نستنتجه من رسالته إلى أهل روما، على أنّه مُدانٌ وفي خطر وسيموت، بينما هم آمنون وأحياء، وعلى أنّهم طريقه إلى الشّهادة التي ستُثمر في حياتهم، وستقوى الكنيسة عبرها، ولن تذهب سدى.
ويقول: “الإيمان هو مبدأ الحياة، والمحبّة غاية الحياة والإثنان معاً هما الله، وما عداهما وسائل تؤدّي إلى كمال الإنسان”؛ أي أنّ الله قد خلق الإنسان ليحبّ الإنسان الآخر.
وهو لا يعظ كأساتذة اللاّهوت لكي يمضي الوقت، بل تكلّم بدموعه، كراع للرّعيّة، وبالكلام الخارج من فمه وبالحبر على الورق، وبالدّم في الشّهادة.
وقبل أن يُطلعنا الأب سعد على طريقة استشهاد القدّيس اغناطيوس، مهّد بقول هذا الأخير: ” لكلّ شيء نهاية، وأمامنا اثنان: الحياة والموت، وكلّ يذهب إلى مكان؛ وهناك نوعان من الانتقاد: انتقاد للّه، وانتقاد للعالم؛ ولكلّ منهما طابع خاصّ: لغير المؤمن طابع العالم، وللمؤمن القائم على المحبّة، طابع الله…إذاً بملء إرادتنا وبدافع نعمته، ان نموت معه، فحياته ليست فينا بل تصير فينا…
وشرح الأب سعد ما كتب القدّيس اغناطيوس إلى كنيسة روما وهو ذاهبٌ إلى الموت، إذ تحدّث عن أنّ لا سلطان إلاّ في المحبّة، وطلب من النّاس أن يترأّفوا به، ومن الله أن يسمح له برؤية وجوهه الكثيرة… راجياً إيّاهم الاّ يتعلّقوا بجسده فيضطر إلى العمل على الشّهادة من جديد، ويطلب إلى الله أن يتقبّل شهادته، التي يذهب من خلالها إلى الموت بملء إرادته…ويقول إنّه يُطحن تحت أنياب الأسود ليصبح خبزاً نقيّاً للمسيح، ويطلب إليهم أن يلاطفوا الأسود حتّى تقوم بعملها كما يجب…وأن يبتهلوا إلى المسيح بعد تواريه عنهم حتى يصبح، بفضل الأسود ضحيّة إلهه… وراح من شدّه توقه إلى المسيح، يطلب ألاّ ترأف به الأسود وألاّ تهابه كما هابَت القدّيسين قبله، بل أن تكون رشيقةٌ في سحقه حتّى يسرع إلى المسيح، إذ أنّ لا سحق عظام ولا تمزيق أعضاء يبعدني عن المسيح…ويطلب إليهم، هو عاشق الشّهادة ألاّ يروه من خلا ل هذا الجسد فيحزنوا، وأن يتركوه يتألّم ليبيّنوا عن حبّهم إيّاه لا عن كرههم له بإبعاده عن الألم…
وكلّ ما سبق، وإن دلّ فقد دلّ على أنّ حياة القدّيس اغناطيوس الانطاكي في رسالة آخر صفحاتها التي تحمل كلّ مغزاها، هي الشّهادة… فكلّ أمانة للمسيح فيها من الموت أحد أوجهه، وكلّ تحدٍّ يواجهنا في الحياة فيه موتٌ وإخلاصٌ للمسيح وخلاص به، أو فيه حياةٌ ماديّة وخيانةٌ للمسيح وموتٌ بعيد عنه.
وختم الأب سعد كلامه بأنّ لا فهم للإنجيل من دون عيش الأخرويّة أي التّفكير بالآخرة وبالحساب، لأنّ الحياة مليئة بالتّحدّيات التي تبعدك أو تقرّبك من المسيح، وخيار آخرتك المتجلّي في أبهى صور الحريّة أمام الخطيئة، بين يديك.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ مِنْ قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp