“جماعةٌ مختارةٌ من الله”
عظة للخوري جوزف سلوم، خادم كنيسة مار فوقا- غادير.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي الأحبّاء، نحتفل اليوم معًا، في الذِّكرى السَنويّة الثّالثة عشرة لانطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، تحت نَظَرِ الربّ الـمُعَلَّق على الصّليب. إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، ترمز إلى الجماعة المسيحيّة، الواقفة عند أقدام الصَّليب، طالبةً من الربِّ على مِثال لصّ اليمين، أن يذكرها حين يأتي في ملكوته.
لا بُدَّ لنا في الذكرى الثّالثة عشرة لتأسيس جماعة “أذكرني في ملكوتك”، من العودة إلى بدايات نشأة هذه الجماعة.
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك” هي جماعةٌ مختارةٌ من الله. لقد دعا الربُّ مؤمِنِين إلى تلبية رغبة قلبه، فزرع كلمته في قلوبهم، فأصغوا إليها ولبّوها، فكانت انطلاقة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، رسالة الرَّجاء والتعزية في كنيستنا ومجتمعنا.
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هي جماعةٌ مختارةٌ من الله، أي أنَّ الله قد دعاها لرسالة محدَّدة، ولذا هو ينتظر جوابها على ندائه لها، فكان الجواب على ثلاثة مستويات: أوّلاً، مِن قِبَل الّذين سَمعوا صوت الربّ، وقد لبّى هؤلاء نداء الربِّ لهم إذ انطلقوا في تأسيس هذه الجماعة، وتكرَّسوا لخدمة الصّلاة من أجل الرّاقدين.
ثانيًا، على مستوى الكنيسة، فأعطت الكنيسة بركَتها لهذه الجماعة. ثالثًا: على المستوى الفرديّ، إذ على كلِّ مؤمِن أن يُعطي جوابه الخاصّ على هذه الجماعة، فيُعبِّر عن تجاوبه مع هذه الدَّعوة الإلهيّة للكنيسة بقوله “نعم”، لرسالة هذه الجماعة معتمدًا نهجها ورسالتها في مسيرته الإيمانيّة.
إنَّ جماعة “أُذكرني في ملكوتك”، هي جماعةُ رجاء، في قلب عالمٍ مليءٍ بعلامات الموت واليأس والإحباط، وخاصّة عندما يقرع جرحُ الموت، باب عائلاتنا وبيوتنا. وهُنا نكتشف أهميّة هذه الجماعة الّتي تُذَكِّرنا بحقيقة إيمانيّة أساسيّة، وهي إيماننا بقيامة الموتى.
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هي جماعة “مُخلَّصين”، إذ يُدرِك كلّ فردٍ من أفراد هذه الجماعة تعاليم الربِّ يسوع وتعاليم كنيسته المقدَّسة، فيَعي أنَّه مخلَّصٌ بواسطة يسوع المسيح، ولذا يجد نفسه مدعوًّا الاجتهاد في السَّير وَفقَ مشيئة الله في حياته اليوميّة، تعبيرًا على قبوله الخلاص. وهنا يُطرَح السؤال: ما نفعُ كلّ ما يقوم به المؤمِن مِن أعمال رحمة وصلوات، إن لم يكن على يقين بأنَّه سينال الخلاص؟ إخوتي، على كلِّ مؤمِنٍ أن يسعى أوّلاً إلى تحقيق خلاصِه، قَبل حثِّ الآخَرين على القبول بخلاص الآخَرين.
إذًا، إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هي “جماعة رجاء”، ثمّ “جماعة مخلَّصين”، وبالتّالي يُدرِك كلُّ مؤمِنٍ ينتمي إلى هذه الجماعة سرّ الفداء الّذي قام به الربّ من أجل خلاص البشر، أي موت الربّ وقيامته الّتي أفاضَ الربُّ من خلالها على المؤمِنِين فيض مراحمه، فجعلَهم أهلاً للخلاص.
إنّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، هي جماعة شراكة. إنَّ الشراكة لا تكون فقط على مستوى الأفراد إذ يعيشون كعائلةٍ واحدة، أو على مستوى انتشار الجماعة في كافة أقطار المسكونة، بل تكون شراكة الجماعة الحقيقيّة مع الربّ من خلال ذِكر أفرادها للموتى المؤمِنِين في صلاتهم. إنَّ سرّ الشراكة مع موتانا لا ينتهي، حتَّى بعد مرور زمنٍ طويلٍ على انتقال أحبَّائنا مِن هذه الأرض. إنَّ شراكتنا مع أمواتنا لا تستند على العاطفة الّتي نكنّها لهم، ولا على واجباتنا تجاههم، بل تستند على رابط الحبّ الّذي يجمعنا بهم.
إنَّ هذه الشراكة لا نحياها فقط مع موتانا، بل نحياها أيضًا مع الربّ، ومع إخوتنا الأحياء في هذا العالم، وبخاصّة الفقراء منهم، أي اللِّعازَرِيين. وهنا لا أقصد الجماعة الرُّهبانيّة، إنّما أقصد كلّ “لِعازر” في هذا العالم، لِعازر الّذي أخبرنا عنه إنجيل لوقا (لو16: 19-31)، إذ قال فيه إنّه كان مَرمِيًا على باب الغنيّ. إنَّنا ننال كلَّ مفهوم الخلاص، من خلال كلّ “لِعازر” جالسٍ على باب بيتنا، حين نسعى إلى مساعَدته. فنَحنُ، إذًا، في شراكة مع كلِّ فقيرٍ، وكلّ متألِّم، مع كلّ “لعازر”.
إنّ رسالة هذه الجماعة هي “رسالة شفاء وتعزية”. إنّها رسالة شفاءٍ، إذ ننال الشِّفاء من أحزاننا بفعل الرُّوح القدس، الّذي يتكلَّم فينا، ويلمس قلوبنا ويشفيها من أحزانها. إنّ غياب أحبّائنا، يُسبِّب لنا حزنًا كبيرًا ويتآكَلنا مِن الدَّاخِل. من خلال كلمته المقدَّسة ومن خلال روحه القدُّوس، يمنح الربُّ شفاءً لقلوبنا، كما يشفي ذاكِرَتنا ويمنحنا التَّعزية. إنّ مَصدر هذه التَّعزيات الروحيّة هو الله، لا البشر. إخوتي، إنّ قيمة الإنسان المتوفّي لا تُقاس بعدد الكهنة الموجودين، ولا بتحضيرات الدَّفن بل تُقاس بصلاتنا له وبأعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها تجاه الفقراء طالبين من الربِّ بواسطتها الرَّحمة لأمواتنا.
هذه هي التَّعزية الحقيقيّة لقلوبنا، وهذه هي “القيمة المضافة” لأمواتنا. إنَّ صلاتنا لأمواتنا وأعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها، تُعزِّر الرَّجاء في قلوبنا، وتساعدنا على مواجهة كلِّ علامات الموت في حياتنا، وبخاصّةٍ عند موت أحد أحبّائنا. إنَّ إعطاءنا القيمة للإنسان المتوفِّي لا تكون في يوم دَفنه، إنّما في حياته الأرضيّة في وَسَطنا، أي عند زيارتنا له خلال فترة مرضِه والاهتمام به. على المؤمِن لا الاهتمام بما يقوله النّاس عنه، إنَّما بما سيقوله الربُّ عنه في يوم الدَّينونة. لذا إخوتي، فلنسعَ إلى مساعدة العائلات المستورة، عِوَضَ تبذير المال في يوم دَفن المنتقل من بيننا، على أمورٍ لا نفع له منها. فلنسعَ إلى عيش الرَّجاء المسيحيّ والتَّعزية المسيحيّة في غياب أحبّائنا.
نصلِّي اليوم من أجل هذه الجماعة، ومن أجل موتانا: نصلِّي من أجل هذه الجماعة حتّى تنمو بالرُّوح، فتكون مصدر إشعاعٍ للآخَرين، وتُحقِّق رسالتها في عالمنا المليء بعلامات الموت. ونصلِّي أيضًا من أجلنا، كي نتذكّر كلّ أمواتنا الأحبّاء، فنعيش في راحة وسلام وقداسة في شراكةٍ مع الأبرار والقدِّيسين، آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العِِظة بأمانةٍ من قِبلنا.