“مؤاساة الحزانى”
عِظة للأب طوني عيد، خادم كنيسة مار مارون – الأنطونيّة.
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
في هذه المناسبة السَّنويّة، تُليَ على مسامِعنا إنجيل غَسلِ الربِّ يسوع لأرجُلِ تلاميذه. إنَّ هذا النَّص الإنجيليّ يدفعُنا إلى طَرح السُّؤال حول كيفيّة غسْلِنا للحزن مِن قلوب الحزانى الّذين تعرَّضوا لِفُقدانِ عزيزٍ مِن عائلتهم.
في الرِّسالة الشَّهريّة الّتي تُصدِرها جماعة “أُذكرني في ملكوتك”، والّتي كتبها هذا الشَّهر الأب جورج نخول، خادم رعيّة مار افرام في كفرذبيان، تمَّ التركيز فيها على أهميّة تعزية الحزانى. إنَّ تعزية الحزانى لا تقوم فقط على وجودنا بالقرب منهم في أيّام التَّعازي أو يوم الدَّفن وحسب، بل تقوم تعزيَتنا الفعليّة بمساندتنا لهم بعد انتهاء أيّام التَّعازي. إنَّ وجودنا بالقرب من المحزون في أيّام التَّعازيّ يُعبِّر عن تَضامُننا مع مشاعر الحزن الّتي تُعاني منها العائلة نتيجة فقدانهم لعزيز.
وفي هذا الصَّدد، يقول لنا البابا فرنسيس، إنَّ مؤاساة الحزانى هي مِن أفعال الرَّحمة، إذ تقوم لا على حضورنا بالقرب من المحزون وحسب، إنَّما على رغبتنا في مساندتهم في تخطِّي ألَمِهم من خلال السَّعي لِبَثّ روح الإيمان بالربّ يسوع المسيح الفادي والمخلِّص، الّذي منحنا بقيامته الرَّجاء بالحياة الأبديّة.
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، تسعى إلى تعزية الحزانى من خلال الصّلاة معهم في كُتَيِّب الصّلوات الّتي قامت الجماعة بنشره، وهو يتضمَّن نصوصًا كتابيّة مختارة بما يتلاءم مع المناسبة، فكلمة الله هي الوحيدة القادرة على مساعدة المحزون في تَخطِّي ألمِ الفراق. إنَّ الفقيد برحيله يترك أثرَه في منزل عائلته، فكلّ زاويةٍ من زوايا البيت تحتوي على ذِكرى منه، ممّا يؤدِّي بالمحزون إلى عيش الوِحدة إثر غياب فقيده الغالي.
لذلك، على المؤمِنِين الرّاغبين في مشاركة هذه العائلة حُزنها ومؤاساتها أن يسعوا إلى تأمين أوقات صلواتٍ يتشاركون فيها، مع المحزون، في قراءة كلمة الله والتأمُّل بها، فيتمكَّنوا معًا مِن اكتشاف حضور الله الفعّال في حياتهم والشَّهادة لإيمانهم بالربِّ يسوع القائم من الموت. إنَّ هذه التَّعزيَة للمحزون تتطلَّب من المؤمِن تكريس وَقتٍ من أجل تأمين حضوره مع العائلة المحزونة. إنَّ هذه التَّعزية تُعبِّر عن شعورٍ مُرهف بالأُخوَّة بين المؤمِن وأخيه المحزون، كما تُعبِّر عن شعور المؤمِنِين بِنِعمة حضور الربِّ في وَسَطِهم مِن خلال مساندتهم لبعضهم البعض.
منذ القرون الأولى للمسيحيّة، حثَّت الكنيسة المؤمِنِين على ذِكر إخوتهم الرَّاقدين في صلواتهم من خلال استنادها على النُّصوص المقدَّسة. إنّ أمواتنا الّذين فارقوا هذه الحياة يتطهَّرون في طريقهم لمعاينة وجه الله القدُّوس والممجَّد (ا بط 1: 7). يقول القدِّيس غريغوريوس إنَّه لا بُدَّ للمؤمِن مِنَ التطهُّر مِن جميع ذنوبه الخفيفة، هذا ما يشير إليه الربُّ يسوع إذ يقول لنا: “كُلُّ خطيئةٍ وتجديفٍ يُغفَر للنّاسِ، وأمّا التَّجديف على الرُّوح القدس فَلَنْ يُغفَر لهم. وَمَن قال كلمةً على ابن الإنسانِ يُغفر له، وأمّا مَن قال على الرُّوح القدس، فَلن يُغفَر له، لا في هذه الدُّنيا ولا في الآخِرة” (متّى 12: 31 – 32).
إذًا، استنادًا إلى قول الربِّ يسوع، وهو صادقٌ في ما يقول، هناك غفرانٌ في هذه الحياة وكذلك في الدَّهر الآتي. وبالتَّالي، إنَّ صلواتنا للّذين انتقلوا من هذه الحياة تعود بالفائدة عليهم إذ تساهم في تطهيرهم من خطاياهم، إذ نطلب لهم من الربِّ غفران ذنوبهم. وفي هذا الصَّدد أيضًا، يقول لنا القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، إنَّه علينا أن نَـمُدَّ العون لأمواتنا ذاكِرين إيّاهم في الصّلوات. فإذا كانت ذبيحة أيّوب الصدِّيق قد ساهَمَت في التَّكفير عن خطايا أبنائه، لماذا نشكُّ في مقدرتنا على تقديم التعزية لأمواتنا، من خلال الذبائح الإلهيّة والصّلوات الّتي نقدِّمها لأجلِهم بعد انتقالهم من هذه الحياة؟
إنّ ذبيحة ربِّنا يسوع المسيح الّتي يُقدِّمها المؤمِن من أجل موتاه إلى الله الآب، تقوم على استعانتنا بالربِّ يسوع في شفاعته لهم، وهذه الشَّفاعة لا تُردُّ عند الآب. تعلِّمُنا الكنيسة أنَّنا نحن الّذين نؤمِن بالمسيح سنموت معه ونقوم معه للحياة الأبديّة.
ونحن اليوم، في هذا الأسبوع نُصلِّي من أجل الكهنة الّذين خَدَموا الكلمة الإلهيّة وأسرار الكنيسة. إنّ رسالة جماعة “أذكرني في ملكوتك”، الَّتي انطلقت سنة 2006، مبنيّة على الإيمان وخِدمة الآخَرين وبناء علاقاتٍ أساسها المحبّة والشَّفافيّة. إنّنا مدعوُّون إلى اتِّخاذ الربِّ يسوع مِثالاً لنا في المحبّة والخِدمة، ونحن مِن خلال إيماننا بالربِّ يسوع ننال تعزيَتنا إذ نُدرِك أنّ فيه خلاصَنا. إنَّ علاقَتَنا الشَّفافة مع الآخَرين تعكس نور ربِّنا فينا، كما تعكس قداستنا فنُصبح من الطوباويِّين.
نحن نصلِّي أوَّلاً، من أجلنا، نحن الأحياء، كي نكون خدَّامًا أمناء للربّ، كما سَمِعنا في الرِّسالة الّتي تُليَت على مسامِعنا اليوم، فنحن لسنا فقط كهنةً للربّ، بل خُدّامًا لكلمته، فنحن المؤمِنين ننتمي إلى شعب الله الكهنوتيّ من خلال المعموديّة، ممّا يدفعنا إلى تعزيَة بعضنا البعض كما تفعل جماعة “أذكرني في ملكوتك”، فكلُّ إنسانٍ معمَّدٍ مدعوٌّ إلى إعطاء كلمة التّعزية للآخَرين الّتي يُلهمه عليها الرُّوح القدس.
إذًا، نحن جميعًا مدعوُّون إلى تعزية بعضنا البعض والمساهمة في غسلِ الحزن من قلوب الحزانى بيننا، الّتي أعماها فقدانها لأحد الأعزّاء عن رؤية إيمانها بالربّ القائم. إنّ صلاتنا وحضورنا مع الحزانى وتعزيَتنا لهم، تساهم من خلال نعمة الرُّوح القدس في تحويل الأشخاص الحزانى من أشخاصٍ يائسين إثر فقدانِ عزيزٍ إلى أشخاصٍ يملؤهم الرَّجاء، رجاء القيامة، رجاء الحياة الّتي لا دموع فيها ولا أحزان، ولا مرضٌ ولا ألم، فنمجِّد الله ونشكره على خلاصه لنا، إلى أبد الأبدين. آمين.
ملاحظة: دُوِّنَت العِظة بأمانةٍ من قِبلنا.