نحن هنا اليومَ بدعوةٍ كريمةٍ من رئيسةِ وأعضاءِ جَماعةِ ” أُذْكُرْني في ملكوتِك”، لِنُصَلِّيَ من أَجْلِ موتانا ولِنقيمَ الذبيحةَ الإلهيّة راحةً لنفوس الراقدين على رجاء القيامة. فأهلاً بِكُم في ديرِ سيّدةِ اللويزة، يا حضرَةَ الكَهَنَةِ والآباء الأفاضِلِ، ويا أيَّتُها الكنائسُ والرعايا، الوافدينَ من أكثَرَ منْ بلدةٍ ورعيةٍ، لنصَلِّيَ معاً في غمرةِ عيدِ الأعيادِ، قيامةِ سيّدِنا يسوعَ المسيحِ، الذي بآلامِهِ وَصَلْبِهِ وموتِهِ وقيامَتِهِ انتصَرَ على الموتِ وَأَعطانا الحياةَ.
جِئْنا نَسْتَذْكِرُ موتانا ونُصَلّي من أَجْلِهِم، طالبينَ شفاعَتَهُم في زمنِ عيدِ الحياةِ والحُبِّ والرَّحْمَةِ، حَيْثُ يَكْبُرُ فينا الرَّجاءُ أَمامَ تحدِّياتِ الحَياةِ الكثيرةِ، وَحَيْثُ مَعَ يسوعَ المنتَصِرِ، تزدادُ في قلوبِنا الثّقةُ بحبِّهِ المتغلِّبِ على ظُلمةِ الموتِ واليأسِ والشّقاءِ. يسوعُ، يقولُ في إنجيلِ اليومِ للقدّيس متّى “إِنّي أُوْلِيْتُ كُلَّ سلطانٍ في السّماءِ والأرضِ” (متّى 28/18).
أَجَل، هو سيِّدُ الأرضِ والسَّماءِ، هو مَلِكُ الملوكِ، يتكلَّمُ بِسُلْطانٍ، وَيُذَكِّرُنا بِعَدَمِ الخَوْفِ وبأَنَّهُ باقٍ مَعَنا وَلَنْ يترُكَنا مهما تَبَدَّلَتِ الظّروفُ وقَسَتِ الأحوالُ. وها صوتُهُ يتردَّدُ في مسامِعِنا: “هأَنذا مَعَكُم طوالَ الأيّامِ إلى نِهايَةِ العالَمِ” (متّى 28/20).
المسيحيّة، كما يوجزها بولس رسول الأمم ، هي الايمانُ بأنَّ المسيحَ قام من بين الأموات وأقام الأموات معه. وأَحَدُ وجوه التعييد للفصح هو هذا الرجاءُ الذي يبثّه العيدُ في قلب كلِّ المؤمنين بالمسيح القائم، الرجاءُ بأنَّ قيامتَهم هم أيضاً لا ريب آتية. ومن ينتبه إلى أيقونة العيد في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يلاحظ أنَّ المسيح الدائس على أبواب الجحيم يُنهِضُ معه شيخين عجوزين يرمزان إلى آدم وحوّاء جدَّينا الأوّلَين، وفي الوقتِ عينه إلى البشريّة الخاطئة.
إنَّ الغاية من قيامة المسيح، إذاً، هي القيامةُ العامّة للناس كافّة. هذه القيامة المرجوّة، والرجاءُ يقينٌ في المسيحيّة، كانت العاملَ الأساسيّ الذي جعل المسيحيّين لا يخافون الموت، فذهبوا وبشّروا في المسكونةِ كلِّها، وواجهوا بشجاعةٍ هائلةٍ الاضطهاداتِ والتهديداتِ، وقبِلوا الاستشهادَ رافضين نكرانَ إلهَهم وجحودَ إيمانهم بأنّ المسيح هو مخلّصُ حياتهم.
إنَّ شعار جماعة “أذكرني في ملكوتك”، “أنا لا أموت أبداً بل أدخل الحياة” للقدّيسة تريزيا الطفل يسوع، يجد معناه العميق في عيد قيامة سيّدنا يسوع المسيح، في هذا الزمن المقدّس، زمنِ النور الذي يسطعُ من القبر الفارغ ويجعلُنا أبناءَ الحياة؛ وإنّ الإيمانَ المسيحيّ وليدُ لقاءٍ مع شخص المسيح القائم من بين الأموات.

أَيُّها الأحِبَّةُ!
أمامَ عِبْءِ المَرَضِ والموتِ والتّخَلّي، نَعْرِفُ أَنَّنا لَسْنا وحْدَنا، بَلِ المسيحُ نفسُه حاضِرٌ بيننا؛ فيسوعُ المسيحُ، ومِنْ خِلالِ حياتِهِ مَعَنا، يعيشُ إلى جانِبِ المتألِّمِ والمحزونِ للتّخفيفِ عَنْهُما. وهو يَكْشِفُ لنا مِن خِلالِ أَعْمالٍ حِسِّيَّةٍ عَنْ حُنوِّهِ وَعَطْفِهِ الأخوِيَّيْنِ على جميعِ مُنْكَسِري القلوبِ والمُصابينَ بجراحٍ جَسَدِيَّةٍ ونفسِيَّةٍ.
أَمّا تَعْزِيَتُنا في كُلِّ هذا، فهي من عِنْدِ الرَّبِّ حينَ ننظُرُ إلى المسيحِ وإلى مريمَ التي أَعطاها إِيّانا أُمّاً. فهذِهِ الأُمُّ عَرَفَتِ المُعاناةَ وتَبِعَتْ ابنَها على طريقِ الجُلجُلَةِ، مُحْتَفِظَةً في قَلْبِها بتلكَ المحبَّةِ عَيْنِها التي حَمَلَها يَسوعُ إلى جميعِ البَشَر.
فنحن البشر، وأمامَ المُعاناةِ والمَرضِ والموتِ، نَميلُ إلى الصّراخِ تحتَ تأثيرِ الألَمِ والفِراقِ، تماماً كما فَعَلَ أَيّوبُ الذي يعني اسْمُهُ “المُتَأَلِّم”، وتماماً كما صَرَخَ يسوعُ قُبَيْلَ موتِهِ. راجع (مر 15/37؛ عب 5/7).
وبالتّالي، فإِنّنا أَمامَ الموتِ، نشْعُرُ بِأَنَّنا ضُعفاءُ نفتقِرُ إلى الكلماتِ الصحيحةِ. وأَمامَ إِخوَتِنا الغارِقينَ في سِرِّ الصليبِ، غالِباً ما يكونُ صَمْتُنا الرحيمُ، ووجودُنا المُفْعَمُ بالصلاةِ، وبادِرَةُ حُنوٍّ وتعزيةٍ مِنّا، ونظرَةٌ وابتسامَةٌ، هي أفضلَ منَ الكلماتِ. هذهِ التجرِبَةُ، عاشَها رِجالٌ ونِساءٌ كُثُرٌ، كما عاشَها يوحَنّا الرسولُ ومريَمُ العذراءُ، عندما تبِعوا يسوعَ في معاناتِهِ وآلامِهِ وشَهِدوا على صَلْبِهِ وَمَوتِهِ؛ ففي وقتِ الشِدَّةِ، يقتَرحُ المسيحُ علينا وجودَهُ المُحِبَّ، حتّى لو صَعُبَ علينا فَهْمُ وجودِهِ إلى جانِبِنا. لكنْ، في نِهايَةِ المَطافِ، ندرِكُ أَنَّ انْتصارَ الرّبِّ الختاميَّ في عَمَلِ القيامةِ، يَكْشِفُ لنا المعنى الحاسِمَ لمِحَنِنا وموتِنا.
نحنُ اليومَ هُنا لِنُصَلِّيَ لأَجْلِ أَحْبابٍ سبقونا إلى ديارِ الخلودِ، آملينَ في استمرارِ علاقتِنا بِهِم روحيّاً وَعَبْرَ إيمانِنا العميقِ المُسْتَمَدِّ مِنْ قيامَةِ الرَّبِّ.
وخِتاماً، وإذْ نحنُ في عيدِ القِدّيسِ جرجُسَ الشَّهيدِ الذي عَرَفَ كيفَ يُعطي حياتَهُ وكيفَ يقدِّمُ نفسَه مُسْتَشْهِداً ليربَحَ الملكوتَ، نطلبُ إلى سَيِّدِ الحياةِ والرّجاءِ أَنْ يزيدَنا إيماناً، ويُريحَ نفوسَ موتانا، مُرَدِّدينَ معاً: المسيحُ قامَ حقّاً قام! هلّلويا…