الايمان المسيحيّ مبني على حقائق ثلاث من الصعب فهمها وإدراكها بمنطقنا البشري، لأنّها ليست موضوع تحليل علمي ولا فلسفي، بل هي موضوع إيماني مبنيّ على الثقة المطلقة بالله الّذي، وكما نقول في فعل الايمان: “لا يَغُش ولا يُغَش”. هذه الحقائق، الّتي نسمّيها أسرارًا في إيماننا المسيحي هي سّر التجسّد، سرّ الفداء وسرّ الثالوث الأقدس.

كيف نستطيع مثلاً أن نفهم كيف أنّ الله صار إنسانًا بشخص ابنه يسوع المسيح؟ فالله بحسب الدين الإسلاميّ: “لم يَلِد، ولم يُولد، وليس مِن نَسلِه أحد.” أمّا المسيح الّذي رأيناه وسمعناه وعاش معنا فيقول لنا: “إنـّي أنا والآب واحد، من رآني قد رأى الآب”. ففِعل التجسّد هو فعل محبة مِن الله لا متناهية ولا حدود لها، إذ هكذا أحبّ الله العالم حتّى أنّه بذل ابنه الوحيد في سبيل فداء العالم، وهذا الابن الوحيد هو الّذي قال، مُعبِّرًا عن حبّه للإنسان: “ليس مِن حبٍّ أعظم مِن حبّ مَن يبذِل نفسه في سبيل أحبّائه”. وهذا الحبّ هو حبّ عطاء وتضحية بالذّات تعويضًا عمّا قام به الانسان عندما رفض الله، وأراد أن يبني ذاته بذاته، وأن يجعل مِن نفسه إلهًا لنفسه، فحكم على نفسه بالموت من دون أن يستطيع أن يحقِّق مبتغاه. وبموقفه هذا، حكم الانسان على نفسه بالموت، لكنّ الله حكم له بالحياة، وافتداه بدم ابنه الوحيد.

هذا الابن الوحيد الّذي مات على الصّليب ليفتدي الانسان، انتصر على الموت بالقيامة، فوطِئ الموت بالموت، ليُعيد الحياة للّذين في القبور. وهو الّذي قبل أن يغادرنا، قرّر أن يبقى معنا بصورة سريّة، وقال لنا: “لقد نلتُ كلّ سلطان في السّماء والأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والرّوح القدس، وعلِّموهم أن يعملوا بكلّ ما أوصيتكم به، وها أنا معكم طوال الأيّام إلى انقضاء الدّهر”. وقد أرسل لنا الرّوح القدس المعزّي الّذي يرشدنا إلى الحقِّ كلّه، وقد حلّ على الرّسل المجتمعين في العليّة مع مريم وأعاد شمل البشريّة الّتي كانت قد تشتّتت يوم قَرَّرت بناء ذاتها بذاتها، ومحاولتها الاستغناء عن الرّبّ، وبناء برجٍ يصل الأرض بالسّماء، فتبلبلت لغة الّذين حاولوا ذلك، فسميّ البرج “برج بابل”. أمّا الروح القدس فقد أعاد جَمْعَهم، ونرى ذلك في تعداد الشعوب الّتي كانت حاضرة في أورشليم، في يوم العنصرة.
وإيماننا المسيحيّ مَبنيّ على هذه الحقيقة الّتي تُعَلِّمنا إيّاها الأسرار الثلاثة، والّتي لا يمكننا أن نفهمها إلاّ في ضوء تعليم الرّوح القدس وإرشاده. وقد حاول الكثير من اللّاهوتيّين عبر الأجيال أن يشرحوها لنا، ولم يستطيعوا. ونَذكُر مِن هؤلاء القدّيس أوغسطينوس الّذي كان يُفكِّر بالموضوع، وهو يسير على شاطئ البحر، إذ رأى طفلاً صغيرًا، وقد حفر حفرةً صغيرةً في الرّمل وأخذ صدَفةً بيَدِه وبواسطتها كان ينقل الماء من البحر إليها. فوقف أوغسطينوس وقال له: “ماذا تفعل أيّها الصّغير؟”، فأجابه: “إنّي أنقل البحر إلى هنا”، فقال له أوغسطينوس: “وهل تستطيع أن تنقل هذا البحر الواسع إلى هذه الحفرة الصغيرة؟” فأجابه الصّبي: “وهل تستطيع أنتَ أن تفهم هذا السرّ الواسع في عقلك الصّغير؟” ففهم أوغسطينوس أنّ ذلك كان علامةً من الله الّذي أرسل له هذا الملاك ليُحَدِّثَه عن هذا السرّ العظيم.
أسرار الإيمان الثلاثة: التجسّد، والفداء، والثالوث الأقدس هي أساس إيماننا المسيحيّ، وليس بإمكاننا أن نستوعبها، إلاّ عبر قيامنا بفعل إيمان ننتقل فيه من الفهم والشرح الماديّ، إلى الفهم الإيماني في ضوء إرشاد الروح القدس.
واليوم، أيّها الأحبّاء، نحن أيضًا أمام سرّ كبير لا يمكننا أن نفهمه إلاّ بموقف إيمانيّ، إنّه سرّ الموت الّذي نُحاول استيعابه في ضوء تعليم المسيح في حادثة إقامة لعازر من بين الأموات، فقد قال عندما أبلغوه أنّ صديقه لعازر قد مات: “إنّه راقد وأنا ذاهب لأُوقظه”. وعندما عاتبته مرتا أخت لعازر لأنّه لم يأتِ عندما أبلغوه النبأ، قال لها إنّ أخاها سيقوم. فعبَّرت عن إيمانها بما تُعلِّمه الكتب المقدّسة، وبما يؤمن به الفريسيّون، ويرفضه الصّدوقيّون، فقال لها يسوع: “أنا القيامة والحياة، من آمن بي، وإن مات فسيحيا …” كما قال لتلاميذه إنّ الّذي يسمع كلامه، ويؤمن به فإنّه بالموت ينتقل من الموت إلى الحياة.
بهذه الحقيقة آمن لص اليمين بوحي من الروح القدس عندما قال ليسوع: “اُذكرني يا سيّد إذا ما أَتيتَ في ملكوتِك”، معبِّرًا بكلامه هذا عن أنّ الموت، بالنسبة إليه ما هو سوى انتقال من حياة زائلة نستسلم فيها غالبًا إلى الاغراءات والتحديّات الخطيرة ونسير في درب الخطيئة وحضارة الموت، إلى حياةٍ دائمة هي عودة إلى بيت الآب، والعمل على ترسيخ حضارة الحياة.
إنّكم اليوم، أيّها الأحبّاء، تسيرون على هذه الدّرب، مُعلِنين التزامكم بهذا التعليم، وبهذه الحقيقة الّتي لا يعتريها أيّ شّك. وإذا كنتم قد اجتمعتم مع بعضكم البعض اليوم لعيش هذا الايمان، فَلِأنّكم تؤمنون بأنّ أمواتكم الّذين تُصلّون لأجلهم قد انتقلوا حقيقةً من الموت إلى الحياة، وأنّهم يعيشون اليوم مع الرّبّ يسوع الّذي وعدهم، كما وعد لص اليمين بأنّهم اليوم هم معه في الملكوت.

فلنرفع إذًا الصلوات من أجلهم، ولنطلُب من الرّبّ أن يُرسِل إلينا روحه القدّوس فيُرشِدَنا ويُعزِّينا ويُنيرُ لنا السبيل. آمين.