الرياضة السنويّة 2021، “أخْتَبِئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُر الغَضَب” (أش 26: 20) 

عبر تطبيق زوم،

“هَلُمَّ يا شَعبي، أُدخُل مخادِعَكَ، وأغلِق أبوابَك خَلفَك. اخْتَبِئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُر الغَضَب” (أش 26: 20)

الخوري جوزف سلوم،

الله معكم من جديد، أتمنَّى لَكم وقتًا مبارَكًا غنيًّا في فترة الصّوم كي نَكتنز كنوزًا عظيمةً فَنَتجدَّد!
بدايةً سأقوم بمقدّمة، ثمّ سأتطرَّق إلى خمسة مشاهد من العهد القديم، ثمّ سأتطرَّق إلى تسعة مشاهد من العهد الجديد، وأخيرًا سأنُهي حديثي بِخُلاصة.

مقدمة: أودُّ أن أعترف أمامكم أنّنا اليوم موجودون في القَعر، في الهاوية، إنّها “الجَحيم”. إنّ المرحلة الّتي وَصلنا إليها، جَعلتنا في حالةٍ من البؤس والشِّدة، والضِّيق، والقلق، والخوف؛ وقد ساهَمت في اختبارِنا “اللَّيل الطويل”، فَخساراتُنا المتكرِّرة في هذا الزَّمن أنهَكَتنا، وجَعلتنا في حالة من الإفلاس التّام، في حالةٍ من التَّقيوء من الوَضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ اللّذين نعيشهما. إنَّ وَضعنا اليوم يَدفعنا إلى القول مع التّلاميذ: “تَعِبْنا اللَّيل كُلَّه ولَم نَصطَد شيئًا” (لو 5: 5). عندما تفاقَمَت المشاكل عليه ولم يَعُد قادرًا على احتمالِها، قال أيُّوب الصِّديق لله: “أتَحسَبُ أنَّ لَحمي مِن نُحاس!” (أيُّوب6: 12)، ثمّ يُضيف الصِّدِّيق قائلاً:”ليتَكَ تُوارِيني في الهاوية”(أيُّوب 14: 13)، أي ليتَك تُخبِّئني في الهاوية، إلى أن يَنصرفِ غضَبُك.

 اليوم، أوَدّ أيضًا أن أقول معكم للربّ، على مِثال أيُّوب: ليتَك يا ربّ تُخبِّئنا في قلبك، فالعواصف قويّة جدًّا علينا. إنّ هذا الاختباء أو بالأحرى هذا الهروب، ليسَ هروبًا من الله، هروبًا مِن الحقّ، بل هو هروبٌ من الخطيئة. في هذا الإطار، يقول سِفر الحِكمة: “ليسَ أحدٌ يَستَطيع أن يَهرُب من يَدك” (حكمة 16: 15). إنّ الإنسان يستطيع أن يختبئ من جميع النَّاس ولكنَّه لا يستطيع الاختباء والهروب من الله، لأنَّ الله هو “فاحِص الكُلى والقلوب” (إرميا 17: 10)، ويقول سِفر يشوع بن سيراخ (21: 2) “اهرب من الخطيئة، هَربَك من الحيّة، فإنَّك إنْ دَنَوت مِنها لَدَغتْكَ”. وبالتّالي، علينا الوقاية والحماية من الخطيئة بِكُلّ الطُرق. إنّ الهروب أو الاختباء هو نوعان: الهروب الأوّل هو هروبٌ من الله، وهو هروبٌ سلبيّ، مرفوضٌ تمامًا لأنَّه يَضُرُّ بِنا، وهنا نتذكَّر صاحب الوزنة الواحدة الّذي قال للربّ: “عَرفتُكَ رَجُلاً قاسيًا، تَحصُد حيثُ لَم تَزرَع، فَخِفتُ وذهَبتُ فَدَفنْتُ وَزنَتَك أو فِضَّتك” (متى 25: 24-25). هذا الهروب يدلُّ على رغبة الإنسان في الابتعاد عن الله. 

أمّا النَّوع الثّاني من الـهُروب، فَهو هروبٌ مَرغوب ومطلوب، وهو هُروب من العالَم، حتّـى أتمكّن من الدُّخول إلى أعماقي، فألتقي بالربّ، في الصَّمت. هذا الهروب الثّاني هو هروبٌ نحو حِضن الله، ذاك الحِضن الـمُريح والحامي من الخطيئة، والربُّ يدعونا إلى لقائه قائلاً: “تعالوا إليَّ يا جَميع الـمُتعَبِين والـمُثقَلِين بالأحمال وأنا أُريحكم”(متى 11: 28). 

إذًا، أنا أختَبئ من الخطيئة وأحتمي بالربّ، هو “صَخرتي”، “صَخرة خلاصي” (مز 18: 2). وفي هذا الإطار، أوَدُّ الإشارة إلى أنَّه في فِعل النَّدامة الّذي نُردِّده بعد الاعتراف بخطايانا، نقول: “أقصُد أن أهرب مِن كلّ سبب الخطيئة”. هذا الهروب هو الهروب البُطوليّ، الّذي علينا أن نسعى إلى عيشِه في حياتنا. إنّ الكِتاب المقدَّس يدعونا أيضًا إلى الهروب من كُلِّ أصدقاء السُّوء والمعاشرات الرَّديئة، الَّتي تُفسِد الأخلاق الحميدة: هذا ما يقوله لنا بولس الرَّسول على سبيل المِثال؛ وكذلك سِفر التَّكوين، يدعونا إلى الهروب قائلاً لنا: “أُهرب إلى الحياة، لا تنظر إلى ورائك لئلَّا تَهلِك” (تك 19: 17). نحن نهرب إلى الأمام، إلى الحياة، إلى ملاقاة الله. 

كذلك نقرأ في المزمور 137(7-10): “أين أذهَبُ مِن روحك؟ أين أذهب من وجهك؟ إنْ صَعِدْتُ إلى السَّماء، فأنْتَ هناك، وإنْ اضَجَعت في مثوى الأموات، فأنتَ حاضِر. إنْ اتَّخذتُ أجنحة الفَجر وسَكنْتُ أقاصي البحر فهناك أيضًا يَدُكَ تَهديني، ويَمينُك تُمسِكني”. إضافةً إلى كُلّ المعاناة والصُّعوبات الّـتي نعيشها، حلَّت علينا جائحة الكورنا، الّتي نعتبرها أزمة العَصر، الّتي دَفعتنا جميعًا إلى الاختباء وراء كمامةٍ، والبقاء على مسافةٍ آمِنةٍ من الجميع، فَلم يَعُد باستِطاعَتِنا القيام بالزيارات واللِّقاءات، كما أوقَفَتْ كلَّ أنشِطتنا ومناسباتِنا وبَدَّلتها، وجَعلت الشَّوارع فارغة. إنّ جائحة الكورونا، فرَضَتَ علينا الجلوس في البيت، إلى أن تَعبُر. في ظلّ هذه الظُّروف الصَّعبة، أودُّ أن أذكِّركم وأقول إنّه في أعماق القَعر، في أعماق الجَحيم، الربُّ موجود، لذا لا تخافوا.

مشاهد العهد القديم:

– المشهد الأوّل هو مِن سِفر إشعيا النبيّ، الّذي منه أُخِذَتْ الآية الّتي نعالجها اليوم في موضوعنا: “هَلُمَّ يا شَعبي، أدْخُل مَخادِعَك. اغلِق أبوابَك خَلفَك. اِختَبئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُرَ الغَضَب” (اش 26: 20). إنّ النبيّ إشعيا قد عاش قَبْل مجيء المسيح بما يُقارب السَّبعَ مِئةِ وخمسين سنة؛ وكِتابه يُعتبر الأكبر في العهد القديم بعد سِفر المزامير. يُعتَبر النبيّ إشعيا، الإنجيليّ الخامِس بعد الإنجيليِّين الأربع. عاصَر هذا النبيّ خمسةَ ملوكٍ، وتَنَبّأ على مملكة يَهوذا المنقسمة عن مملكة اسرائيل، وارتَكزَتْ كلُّ كِرازتِه على فِكرة خلاص الله. وهنا السُّؤال الّذي نَطرَحُه اليوم: كيف يستطيع الله أن يُحقِّق هذا الخلاص لِشَعبه؟ يستطيعُ الربُّ أن يُخلِّص شَعبَه من خلال كلمةٍ واحدة كان يُنادي بها إشعيا، وهي”توبوا”. 

إذًا، كلُّ سِفر إشعيا، يرتكز على دعوتِه الشَّعب إلى التَّوبة. إنّ إشعيا طلَب إلى الشَّعب أن يعودوا إلى الله، خصوصًا بعد فسادِ الشَّعب وفسادِ ملوكه، وانغلاق الشَّعب اليَهوديّ على نَفسِه، فَهُم لَم يعيشوا انفتاحًا على الأُمَم. إنّ الشَّعب اليهوديّ، اعتبَر نفسه شَعب الله حَصرًا مِن دون بقيَّة الشُّعوب؛ لذلك أعلن النبيّ إشعيا لهذا الشَّعب عن إنذاراتٍ من الله، ووعودٍ منه، وتجارب وضيقات ستَحلُّ بهم؛ ثمّ أعلن لهم كلمات رَجاءٍ وتَعزية. إنَّ الشَّعب اليهوديّ قد عَبَد الله عبادةً سطحيّة، وأشرَكَ مع عبادته لله الحيّ عبادة الأصنام. ونحن أيضًا في الكثير من الأحيان، نبتَعدُ عن الله. 

إنَّ الله كلَّم النبيّ في رؤيا وأبلَغه فيها عن السَّبي إلى بابل والضِّيقات الّتي سيُعاني منها الشَّعب ما لَم يتُبْ إلى الربّ؛ وعلى إثرِ هذه الرُّؤيا نبَّه النبيّ إشعيا الشَّعب قائلاً لهم: “هَلُمَّ يا شَعبي، أدْخُل مخادِعَك، أغلِق أبوابَك خَلفك. اِختبِئ نحو لُحَيظة حتّى يَعبُر الغضب”. على إثر هذه التَّنبيهات، جَمَع الشَّعب ما بين الخوف من الله وخوف الله، فَسَكب الشَّعب أمام الله المخافة، لا الخوف منه. وبعد تأديب النبيّ للشَّعب، عاد الشَّعب إلى الله، فاجتاز الشَّعب هذه التَّجربة كما تتمخَّض المرأة الحُبلى قَبْل أن تَلِد حياةً جديدة إلى العالَم. بعد توبته، انطلق الشَّعب نحو الحياة الجديدة، كما انطَلق الابن الشَّاطر في حياةٍ جديدة بعد عودته إلى أبيه الّذي قال عن ابنه العائد إلى البيت: “كان مائتًا فعاش” (لو 15: 32). إنّ الربّ ينظر إلى دموع التّائبين، فَدُموع هؤلاء تُقيم الجُثث، بِحَسب قول إشعيا، إذ تُنادي سُكَّان التَّراب، قائلةً لهم:” استَيقِظوا، رنِّموا، سبِّحوا” (إشعيا 26: 19). 

إنّ النبيّ إشعيا دعا الشَّعب إلى العَيْش في الخوف المقدَّس، من خلال الدُّخول إلى مخادعهم وإغلاق أبوابِهم، فيتمكَّنوا من الكلام إلى الله. للأسف، في عالمِنا اليوم، الإنسان كَليمٌ في كلّ شيء إلّا الله. إخوتي، إنَّ الضِّيقات الّتي تُعاني منها العائلات لا تُحَلُّ في الشَّوارع، أي في الخارِج، بل في الدَّاخل. إنّ إشعيا يدعونا إلى الدُّخول إلى الدَّاخل كي نتمكَّن من الانفراد بالله، لا خوفًا منه، إنّما للعمل معه. يقول لنا إشعيا النبيّ:”اِختَبئ نحو لُحَيظة”، أي اختَبئ لِوَقتٍ قَصير. إنّ الله يريد مِنَّا هذا الوقت القليل كي نَختَبِئ في قلبه، فيَحمِينا من الأمواج وعواصِف الغضَب. إنَّ الربَّ يدعونا إلى الدُّخول إلى عُلِّياتِنا للحديث معه، وهذا ما عبَّر عنه الربّ حين وَجد تلاميذه نِيامًا في ليلة آلامه، قائلاً لهم: “ألا تسهرون معي ساعة” (متى 26: 40). يُخبرنا إشعيا النبيّ أنَّ الربَّ قد خَرج ليُعاقِب الشَّعب على خطاياه. 

في المجيء الأوَّل، أي في التجسُّد، جاء الربُّ لا لِيَدين العالَم بل لِيُخلِّص العالَم؛ أمّا في المجيء الثّاني، أي في نهاية العالَم، فهو سيأتي ليَدين العالم، أي ليُحاسِب النَّاس على أعمالِهم. عندها سَتَكشِفُ الأرض عن دِمائِها، أي ستَكشِف حقيقة القَتَلة، الّذين يرتَكبون الشَّر في هذا العالَم. إنّ الربَّ سيُعاقب النّاس على شرورهم كما سيُعاقب”الحيّة الهارِبة” (إشعيا27: 1). ففي قصّة آدم وحوَّاء، هَربَتْ الحيّة وبالتَّالي هي لا تَزال موجودة في هذا العالم، وهي لا تزال تُغري النّاس، وتدفعهم إلى ارتكاب الخطايا والشُّرور؛ ولكنَّ الربَّ سيتمكَّن منها وسيُعاقِبها. إخوتي، نحن مدعوون إلى صناعة عليَّتِنا الخاصَّة فنَدخُلَ إلى مخادِعنا ونُغلِق أبوابِنا لنتمكَّن مِن سماع صوت الربّ.

– آدم وحوّاء: في قصّة آدم وحوَّاء، نكتشف أوَّلَ هروبٍ عاشته البشريّة، (تك 3: 7). إنّ الربَّ طلَب من آدم وحوَّاء عدم لَمِسِ شجرة معرفة الخير والشَّر، فلَم يأبها لكِلامه، إذ أصبحا كليمَي الحيّة، الّتي أغوتهما، ودَفعتهما إلى مخالفة أوامر الربّ، فما كان من آدم وحوَّاء إلّا أن أسرَعا إلى خياطة مآزِرَ لهما من أوراق الشَّجر، عندما سَمعا صوت الربّ صارخًا إلى آدم قائلاً:”آدم، أين أنت؟”(تك 3: 9)
– سفينة نوح: (تكوين 9: 12- 14).

 يُخبرنا سِفر التَكوين أنَّ الربَّ قد رأى أنّ الشُّرور في الأرض قد كَثُرَت، وأنَّ نوحًا كان رَجُلاً بارًّا، كامِلاً، تقيًّا، سالكًا مع الله، مملؤءًا نعمةً، طلب الربُّ إلى نوح الدُّخول إلى السَّفينة مع عائلته للاختباء من الطُّوفان الّذي كان الربُّ مزمِعًا أن يقوم به. ونحن اليوم، مدعوون إلى الاختباء في قلب هذه السَّفينة، في قلب هذه العِليَّة، فالربّ يؤدِّب ساعة، ويرحم إلى الأبد. بعد هذا الاختباء من الطُّوفان، دشّن الله عَهدًا جديدًا مع الإنسان من خلال إعطاءِ نوح علامة قوسَ قُزَح. عند خروجه من السَّفينة، أدرَك نوح أنّ الربَّ قد خبَّأه من الوباء، أي من الطُّوفان. في اختبائنا من الضِّيقات، نحن نحمي ذواتنا، مع الربّ؛ وعند خروجنا من مخابئنا سنكتشفُ أنّ الله كان حاضرًا معنا لحمايتنا في ظلّ تلك الضِّيقات.

– يوسف: إنّ سِفر التَّكوين يُخبرنا أيضًا عن يوسف الّذي باعه إخوته للإسماعيليِّين في مِصر، حيث اشتراه رئيس الحرس، وهو خِصيّ فِرعون. في ظلّ هذه المحنة، نال يوسف حُظوةً عند فِرعون فسلَّمه هذا الأخير أعمال بيته. في بيت فرعون، تعرَّض يوسف إلى تَجربة كبيرة، مِن قِبَل زَوجة رئيس الحرس، إذ أرادت إقامة علاقة معه، فرَفَض، واختار تركَ ردائه بين يَديها، والهروب من الخطيئة، وقد تمكَّن من الهروب بِفَضل صلاته وإيمانه بالربّ.

– يونان النبيّ: إنّ الربَّ قد رأى أنَّ الشَّر والفساد قد تعاظَما في نينوى، فطلب الربُّ إلى يونان الذَّهاب إلى هذه المدينة، فرفَضَ وحاول الهروب من دعوة الله له، في سفينةٍ إلى ترشيش. في السَّفينة، أظهر الربُّ لِرَبابِنَة السَّفينة أنَّ يونان هو السَّبب في مواجهتهم العواصِف في البحر، فرَموه في البحر، فابتلعه الحوت، وبَقيَ في جوفه ثلاثة أيّام. إنّ يونان لم يتمكَّن مِن الهروب مِن صوت الله، الّذي عاد وأرسَله من جديد إلى نينوى.كان يونان خائفًا جدًّا من الذَّهاب إلى هذه المدينة، لأنّ نينوى مدينةٌ صَعبةٌ جدًّا، فِيها الكثير من أعمال الدَّعارة وهي مدينةٌ وثنيّة وهي تَقع على البَحر. وعلى الرَّغم من كلِّ ذلك، تمكَّن يونان بِمَعونة الربّ من تبشير هذه المدينة وحَثِّها على التَّوبة. إذًا، تَوارِينا هو للتَّوبة ولإعادة قراءة الحياة.

في العهد الجديد: سأتوَّقف عند تسع نقاط:
– حياة يسوع الخفيّة: إنَّ الربَّ يسوع عاش ثلاثين سنة في الخفاء، وثلاث سِنِين أمضاها في التَّبشير بكلمة الله، أي أنّ الربَّ قد تحضَّر للتَّبشير، فَكانت الثلاثون سنة، مرحلةَ عيشِه في الخفاء، مرحلةً للنُّمو.
– الهروب إلى مِصر مع يوسف ومريم: لـمّا اضطرب هيرودس وكلّ المملكة معه، عندما عَلمِ من خلال المجوس أنّ الربَّ قد وُلد في بيت لَحم، قام هيرودس بِإصدار أمرٍ بِقَتلِ كلَّ أطفال بيت لحم. عندها ظَهر الملاكُ ليوسف في الحُلم وطلب إليه الهروب مع الصَّبي وأمَّه إلى مِصر، ففعل يوسف ما أمرَه ملاكُ الربِّ به. هذا الهروب هو مبدأ روحيّ: عندما يُبصِر الصِّديق الشَّر، يتوارى. هذه هي الحِكمة، هذه هي طريق السّلام بَدَلَ الدُّخول في حروب. إنَّ القدِّيس يوسف عَمِل على تنظيم وترتيب هذا الهروب. عاش يوسف في الخَفاء طِيلةَ حياته.

– يسوع يتوارى عن تلاميذه والجموع، فَيعتزل للصّلاة. نلاحظ في الكثير من الأوقات أنَّ الربّ كان يَصعد إلى الجبل، تاركًا الجموع، ومُتواريًا عن التَّلاميذ، ليُصلِّي إلى أبيه في الخفاء. “عندما صار المساء، كان هناك وَحده على الجبل يُصلِّي”(متى 14: 23).

– بعد تكثير الخبز والسَّمك على جبل طبريَّا، وشفائه لمَرضى كثيرين، وتعليمِهم كلمة الله، وإطعامهم من القوت الأرضيّ، شعر الجمع بالفرح، فقالوا عن الربِّ يسوع: “هذا هو حقًّا النبيّ الآتي، إلى العالَم”(يو6: 14). وعَلِم يسوع أنَّ الجموع تُريد اختطافَه لإعلانه مَلِكًا أرضيًا عليهم، فما كان من الربّ إلّا أن توارى عن الجموع وصَعِد إلى الجَبَل ليَجلِس وَحده ويصلِّي إلى أبيه. إنَّ الربَّ يسوع طلب إلينا في الصّوم أن نعيش أمورًا ثلاثة، هي الصَّوم والصَّدقة والصّلاة؛ وعلى هذه الأمور الثلاثة أن تتمَّ في الخَفاء، لا أمام النَّاس. وهذه قاعدةٌ أساسيٌّة وفي غاية الأهميّة.

– إنَّ الربَّ أعطانا مَثَل اللؤلؤة الثَّمينة، الّتـي تكون متوارية عن الأنظار، ولكن حين يكتشِف الإنسان وجودها، فإنّه يفرح بها، ويعبِّر عن استعداده لِبَيع كلّ ما يَملِك من أجل الحصول عليها، لأنّها كَنزٌ بالنِّسبة إليه.

– بعد قيامة لِعازر، (يو 11: 1- 45) أراد رؤوساء اليَهود قَتلَ الربِّ لأنّه أقام لِعازَر من الموت، فقرّر الربُّ التَّواري عن أنظارهم، فتَابع مسيرته التَّبشيريّة في الخفاء.

– إنَّ الربَّ يسوع قال عن ذاته إنّه نور العالم، فامتَعض رؤوساء اليهود من هذا الكلام، قائلين له:”مَن أنت؟”(يو8: 25)، عندها قال لهم إنّه كائنٌ قَبلَ ابراهيم. عندها حَملوا حجارةً وأرادوا رَجمه، فخرج من الهيكل وتوارى عنهم، وتوقَّف عن القيام بالأعاجيب علانيّة. هذا الاختفاء هو سرّ حكمة يسوع.

– في وجود يسوع في القبر، توارى الربُّ عن أنظارنا ليقول لنا إنّه لا يزالُ حاضرًا معنا ولكن بطريقة أُخرى. يمكننا الاستفادة من وقت الاختباء هذا الّذي نعيشه، وتحويله إلى وقت خِصبٍ عند التَّواري عن الظَّهور في العَلن.

– مار بولس: بعدما اهتدى على طريق دِمشق، أثار انتماء بولس إلى الرُّسل جدلاً كبيرًا في أوساط المؤمنِين. فقام التّلاميذ بتهريب بولس في سلّة دلُّوها عن سُور دِمشق. توارى بولس في سلّة صغيرة. لَم يبدأ مار بولس رسالته التَّبشيريّة فورًا بعد اهتدائه على طريق دِمشق، بل بَقِي ثلاث سنوات يتحضَّر لهذه الرِّسالة .

خلاصة: في الختام، أطلب إليكم أن يقوم كُلُّ واحدٍ منكم بِصناعةِ عِليَّته، والعِليّة الأهمّ تكمن في داخل الإنسان. نحن مدعوون إلى الدُّخول إلى أعماق ذواتنا، فنَكتَشف حضور الله فينا. في هذه المرحلة، نحن مدعوون إلى استخدام حِكمَتنا، ونقول لِذواتنا إنَّ هذه المرحلة الّتي نَختَبِئُ فيها، سنتمكَّن من اجتيازها عمّا قريب، إذ إنّها لن تَدوم إلى الأبد. فعلى الرَّغم من كلِّ الخِسارات الّتي تكبَّدناها، سنتمكَّن، بعد الخروج من أزمة الكورونا والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، من الوصول إلى ولادةٍ جديدة حقيقيّة، مُشدِّدين ذواتِنا، باحِثِين عن أولويّاتنا، جاعِلين يسوع نُصبَ عينَينا، هو الأساس. لذلك، أتمنَّى أن نتوارى ولو قليلاً حتّى يَعبُر هذا الغضب، فنعود ونلتَقي، ونكمِّل رسالتنا. اليوم، علينا العمل على ذواتنا من الدَّاخل، فنعيش حياة يسوع الخفيّة، كي نتمكَّن فيما بَعد من الانطلاق نحو الرِّسالة من جديد.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بأمانةٍ من قِبَلِنا.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp