“جماعةٌ على حسب قلب الله” 

سيادة المطران بولس الصياح السامي الاحترام،

كلمة التقديم للسيّدة تمارا شلهوب جاد،

 “على حسب قلب الله” عبارة جوهريّة من عمق الكتاب المقدّس تشير إلى الشخص أو إلى الجماعة التي تعمل ما يرضي الله، وتتجلّى أكثر ما تتجلّى في مسيرة “جماعة أذكرني في ملكوتك”. كلّنا إصغاء إليك، يا صاحب السيادة، وأسقف في الكنيسة، واحد المؤتمنين على مسيرة الجماعة لتضيء على عمل هذه الجماعة الجاهدة كلّ الجهد لترضي الله حقّ الإرضاء.

كلمة مجلس الأمناء، سيادة المطران بولس الصياح السّامي الاحترام،

أحييكم فرداً فرداً باسم مجلس الأمناء، وأشكر لكم حضوركم ومشاركتكم لنا فرحة الإحتفال بعشر سنوات من مسيرة جماعة “أذكرني في ملكوتك”. وإنني باسمكم وباسم مجلس الأمناء أهنيء المؤسسة والرئيسة السيدة جانيت الهبر ومن عاونها منذ تأسيس الجماعة، وأحيي فريق عملها بأكمله كما أهنئكم جميعاً انتم الذين تؤلفون هذه العائلة المحبة التي تطورت وانتشرت في لبنان وخارجه بسرعة فاقت توقعات الكثيرين. إنها نعمة الله التي كللّت إيماناً ثابتاً برسالة مباركة، وجهوداً جبارة بذلت وتبذل في سبيل تحقيق تلك الرسالة.

“اذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتك” (لو 23/24) هي صرخة من القلب أطلقها شخص كان مصلوباً إلى جانب يسوع قيل عنه أنه مجرم وهو قد اعترف “أن عقابه عدل لأنه يلقى ما تستوجبه أعماله” (لو 23/41) ، وقيل فيه أيضاً أنه قديس منسي، وأخاله اللقب الأقرب إلى الحقيقة. كان هذا الإنسان يشهد حدثاً غير مألوف، وهو يواجه نهاية حياته بشكل مأساوي؛ كان يصغي إلى شاب اسمه يسوع حكم عليه زوراً وصلب، ويسمعه يصلي من أجل الذين حكموا عليه والذين صلبوه، ومن أجل الشعب المتفرج واللامبالي، ومن أجل الهازئين به، ويسأل الغفران لهم جميعاً، ( أنظر لو 23: 35-37) وكان يبحث لهولاء أيضاً عن أعذار “لأنهم (في ظنه) لا يعلمون ما يفعلون”! ( لو 23/34) فأحدث موقف يسوع صحوة في نفسه، وأحس أنه في حضرة شخص ليس من طينة البشر، وكأنه حتى ليس من هذه الدنيا، بل من ملكوت آخر خاص به، فناداه باسمه متوسلاً: “أذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتك.”
هذا الكبر غير المألوف في موقف يسوع، والناس آنذاك في زمن تسوده شريعة العين بالعين والسن بالسن، آل إلى تلك الصلاة الصرخة، ومن هذه الصرخة استوحت جماعتنا إسمها، وهي التي نشأت أيضاً من رحم صدمة ومعاناة كبيرة مع العذاب والموت. وها هي اليوم، بعد عشر سنوات، غدت في نظري “جماعة على حسب قلب الله” لأنها تساهم في بناء هذا الملكوت من خلال إيمانها والتزامها بحقائق إنجيلية أربع:

أولاً: إيمان مطلق بالقيامة،

تقف الجماعة الى جانب الانسان الذي يعيش صدمة الموت بآلامه وعبثيته وتدعوه الى صحوة إيمان تذكره بان المسيح أيضاً مر في صدمة الموت وتمنى لو ان الكأس أبعدت عنه، ولكنه قبل الموت ثم قام منتصراًوهو في قيامته فتح امام الإنسان المؤمن افاق حياة جديدة تذكره بان الله قريب، بل أنه أتى إلينا وفتح لنا طريق الرجاء طريق العبور الى سر الحياة الحقيقية. الآيمان بالقيامة مدخل الى الرجاء ينقلك من واقع مغلق الى عالم منفتح يشعر فيه الانسان بقرب الله، انها الإطلالة على أورشليم الجديدة النازلة من السماء وصوت جهيّر من العرش يقول : ” هوذا مسكّن الله مع الناس، فيسكن معهم وهم سيكونون له شعوبه وهو سيكون “الله معهم”، وسيسمح كل دمعة من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الان، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم لن يبقى وجود، لان العالم القديم قد زال”. (رويا ٢١: ٣-٤). وما يحمله هذا الإيمان من فرح وسلام، لا قدرة للانسان حتى ان يتخيل حقيقته، ذلك ان ” ما لم تره عين ولا سمعت به إذن ولا خطر على قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه” ( ١ قور ٢:٩). هذه رسالة “جماعة اذكرني في ملكوتك” الى الانسان الواقف متالماً حائراً امام الموت، فهي تنقل هذا الإنسان من ظلمة الحزن والعبثية إلى نور الحياة الجديدة فيعي هويته الحقيقية كإبن اوابنة وجد مكانه مع يسوع المسيح في ملكوته. هذه هي الحقيقة الإيمانية الأولى التي ترتكز إليها جماعة “اذكرني في ملكوتك” ، ومن خلال ترسيخها في أذهان الناس تساهم في بناء الملكوت، فمن اجل ذلك هي “جماعة على حسب قلب الله”.

ثانياً: دعوة للعودة إلى الله،

أما الحقيقة الثانية التي ترتكز عليها رسالة جماعة “اذكرني في ملكوتك”، إنما هي الدعوة للعودة إلى الله وبداية مسار جديد. منذ بداية حبريته ما انفك البابا فرنسيس يردد، كلما ساله أحد عن شخصيته، أنه رجل خاطيء، وأن ثقته عمياء في رحمة الله. من أجل ذلك فهويعيش مسيرة عودة متواصلة إلى ربه. إنها مسيرة كل إنسان يعي طبيعة علاقته بالله. وهذه كانت جزأً من مسيرة الإبن الضال، وجزاً من مسيرة المجرم التائب الذي صلب مع يسوع.

وهذه المسيرة تبدأ بالعودة الصادقة إلى الذات، وتشكل دومًاً المدخل الصحيح إلى تقويم المسار والإنطلاق بمسيرة جديدة. بدأت هذه المسيرة في حال الإبن الضائع بالعودة إلى ذاته بكل صدق واتخاذ القرار “فرجع إلى نفسه … وقال أقوم وأمضي إلى أبي” (لو 15:17- 18). وفي حال “اللص اليمين” بدأت رحلة العودة بوقفة صادقة مع الذات، لما توجه إلى اللص الآخر الذي كان يجدف على يسوع بالقول: “أوما تخاف الله وأنت تعاني العقاب نفسه! أما نحن فعقابنا عدل، لأنا نلقى ما تستوجبه أعمالنا، أما هو فلم يعمل سوءًا” (لو 23: 40-41). نتيجة موقف الإبن الضائع كانت أنه لدى عودته إلى ابيه الذي كان ينتظره “األقى أبوه بنفسه على عنقه وقبله طويلاً… وقال لخدمه: أسرعوا واتوا بأفخر حلة وألبسوه، واجعلوا في أصبعه خاتماً وفي قدميه حذاء، واتوا بالعجل المسمن واذبحوه فنأكل وننعم، لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد.” (لو 15:22-24). وجواب يسوع للص اليمين أتى سريعًا وواضحًا وبشكل ينطوي على شيء من “الاحتفالية”: “الحق أقول لك: ستكون اليوم معي في الفردوس” (لو 23/43). لقد برر يسوع هذا المجرم لأنه أعرب عن توقه إلى أن يكون مع يسوع. برره يسوع من دون أن يسأئله في شأن ماضيه الحافل بالجرائم الذي استحق له حكم الموت والذي قال فيه هو “أن عقابه عدل وأنه يلقى ما تستوجبه أعماله” (أنظر لو 23/41) تماماً كما فعل الأب بابنه في مثل الإبن الضائع الذي عاد إليه مسترحماً ؛ هو أيضاً تخطى كل مخاوف ابنه الذي أعد خطاب اعتذار هام، أما الآب فما أبه بذلك الخطاب بل تجاهله تماماً وذهب إلى الأهم وهو أن ابنه عاد، كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد… فأخذوا ينعمون، لأن الوقت للفرح. ( أنظر لو 15:18-20) الله ينتظرني أينما كنت ومهما كانت الحال التي اعيش فيها. هذه هي الحقيقة الإيمانية الثانية التي ترتكز أليها جماعة “اذكرني في ملكوتك”، ومن خلال دعوة الناس إلى اعتناقها تساهم أيضاً في بناء الملكوت. فمن أجل ذلك هي أيضاً “جماعة على حسب قلب الله”.

ثالثاً: الثقة برحمة الله اللامتناهية،

أما الحقيقة الثالثة التي ترتكز إليها جماعة “اذكرني في ملكوتك”، فهي ان رحمة الله لا حدود لها، وهي تغمرنا وتغمر أمواتنا. فيكفي أن يكون الإنسان وهو يواجه الموت قد استغفر الله للحظة واحدة كي يكون مع يسوع في الملكوت، مهما كان ماضيه أو حاضره، إنه “عامل الساعة الحادية عشرة” (متى 20:1-16) إنه من الآخرين الذين أصبحوا أولين. (أنظر متى 20/16) وكأني باللص اليمين صرخ من على الصليب بكلام صاحب المزمور 130: “من الأعماق صرخت إليك يا رب، يا رب، يا سيد استمع صوتي ، إن كنت تراقب الآثام يا رب فمن يقف ؟! فأتاه الجواب على لسان أشعيا النبي: “إن كانت خطاياكم كالقرمز فأنا أبيضها كالثلج” (أشعيا 1/18) هذه هي نتيجة العودة الى الله، هو لا يريد موت الخاطيء بل توبته، “فالقلب المنكسر المنسحق لا تزدريه يا الله” (مز 50) ونفرأ في مزمور آخر: “الرب راعي فلا يعوزني شيء…وأن سلكت في ظلال الموت لا أخاف سوءًا لآنك معي” (مز 22).

“اذكرني يا يسوع إذا ما جئت في ملكوتك” صلاة اطلقت في اللحظة التي كان يسوع يقدم فيها ذبيحة الفداء على الصليب. هذه الذبيحة التي نحتفل بها من جديد في الافخارستيا والتي فيها تطلق جماعة “اذكرني في ملكوتك” الصرخة نفسها، من أجل المؤمنين الذين انتقلوا إلى الحياة الجديدة. لقد كتب البابا فرنسيس في “وجه الرحمة”: “قبل الآلام صلى يسوع مزمور الرحمة، مزمور 136 الذي نكرر بعد كل آية منه: ‘إن إلى الأبد رحمته’ وهذا ما يؤكده الإنجيلي متى عندما يقول: ‘وبعد أن سبحوا’ (متى 26/30) خرج يسوع إلى جبل الزيتون. فبينما كان يؤسس الإفخارستيا كتذكار أبدي له ولفصحه، وضع بشكل رمزي عمل الوحي السامي هذا في ضؤ الرحمة. وفي أطار الرحمة عينه كان يسوع يعيش آلامه وموته مدركاً لسر الحب الكبير الذي سيتم على الصليب.” (وجه الرحمة عدد 7) مفهوم الرحمة وممارستها هي في أساس لاهوت “جماعة أذكرني في ملكوتك” فمن أجل ذلك هي جماعة على حسب قلب الله.

رابعاً: أذكرني في ملكوتك جماعة مسكونية، إذاً هي جماعة كنسية بامتياز،

أما الحقيقة الرابعة التي ترتكز إليها الجماعة هي أنها جماعة مسكونية ، إي إنها جماعة كنسية بامتياز. فقد حققت في كونها جمعت في صفوفها وفي دعائها كل المسيحيين، أساقفة وكهنة ومؤمنين، حققت فعلياً أمنية عزيزة جدًا على قلب يسوع، ففي كنفها يصلي المؤمنون معًا، كاثوليكاً وأرثوذكسيين، ولا بد أن لصلاتهم وقعها الخاص في قلب يسوع الذي صلى بدوره ليكون الذين آمنوا به واحدًا: “كما انك في، يا أبت، وأنا فيك فليكونوا هم أيضًا فينا ليؤمن العالم بأنك انت ارسلتني. … وأنك أحببتهم كما أحببتني” (لو 17: 21-24). يا رب إن الذين وهبتهم لي أريد أن يكونوا معي حيث أكون… إن صلاة جماعة “اذكرني في ملكوتك” مسموعة عند الرب يسوع بامتياز لأنها تصعد من قلوب محبة ومتّحدة ومؤمنة، وهي تتخطى كونها دعاءً إلى الله لتصبح شهادةً لمحبته ورحمته وافتدائه للعالم . وها هي تحقق سابقة مسكونية هامة بنشرها، ببركة من رؤساء الكنائس، كتاب صلاة مشترك بعنوان “صلوات التعزية والرجاء” تطلقه في هذه المناسبة كشهادة حية للروح المسكونية التي تعيشها. والمسكونية لا تعني أن تصبح كل كنيسة صورة طبق الأصل عن الأخرى، بل أن تسعى كل كنيسة لتصبح كنيسة المسيح حقاً. فالكنائس لا تتحد بأن تذهب إحداها إلى الأخرى، بل أن تعمل كل كنيسة لتكون في الميسح يسوع لأننا فيه هو نلتقي وفي تماهي كنائسنا معه نتوحد، وذلك من دون أن يفقد أحدنا جمال تراثه او يتنكر لغنى تاريخه.

تعيش المسيحية في هذه الحقبة من تاريخها، على المستوى العالمي، زمناً تبرز فيه رسالة المؤمن العلماني من خلال مبادرات رسولية ورعوية تغني الكنيسة بمؤسسات وجماعات ومنظمات جديدة وفاعلة تستجيب لحاجات تجديد البشارة بالإنجيل. إني أرى جماعة “أذكرني في ملكوتك” في هذا السياق واستناداً إلى مسار السنوات العشر الماضية، أراها مرشحة للإنتشار في بلدان جديدة وألى التوسع أكثر فأكثر في البلدان التي هي متواجدة فيها.

وتدرك الجماعة جيداً أن تطورها رهن بنموها الروحي كجماعة ونمو كل من أعضائها. إنها منذ البداية عملت من أجل ذلك، لأنه سيكون من الصعب علي أن أحمل نور القيامة إلى الإنسان المعذب قبل أن أدع نور الروح يلج إلى الأماكن المظلمة في حياتي. من أجل ذلك تحرص الجماعة على تنظيم برامج روحية وأخرى تثقيفية من شأنها أن تساعد أعضاءها على متابعة نموهم الشخصي فتتمكن آنذاك، بشكل أفضل، من أن تتابع تطوير الرسالة التي آلت على نفسها أن تحققها.

فنمو الأعضاء ونمو الجماعة ونمو الرسالة أيضاً مترابطة كلها . وذلك كله يلقي على عاتقنا جميعاً، أساقفة وكهنة مرشدين ومؤمنين ملتزمين مسؤولية العمل بكل جدية واندفاع من خلال الروحانية التي ذكرت لمساندة الرئيسة ومجلس أدارة الجماعة ولجانها ومجلس الأمناء، فيقوم الكل معاً بعمل كنسي ديناميكي يجعل من هذه الجماعة التي تنمو باضطراد ، يوماً بعد يوم، “جماعة على حسب قلب الله”.

Instagram
Copy link
URL has been copied successfully!
WhatsApp