تأمّل للأب ميشال عبود الكرمليّ،
رعيّة الصُّعود/ مار جرجس – الضبية،
إخوتي، بدايةً أودّ أن أطرح عليكم هذا السُّؤال: مَن مِنكم متأكِدٌّ مِن وصوله إلى السّماء بعد انتقاله من هذه الأرض؟ إنْ كُنتم، أنتم الّذين قد تركتم كلّ أعمالكم الأرضيّة، وأتيتم لتُصغوا إلى كلمة الله، لسْتُم متأكِّدين من وصولكم إلى السّماء، فما فائدة صلواتكم وإلتزامكم الكنسيّ؟ فإنّه مِن غير العادل أن يمضي الإنسان حياته على هذه الأرض محتملاً العذابات والصّعوبات الحياتيّة، إنْ لم يكن سينال الرَّاحة الأبديّة في السّماء بعد موته الجسديّ. وبالتّالي، إنْ لم نكن متأكِّدين من وصولنا إلى السّماء، ما نفع إيماننا، بمعنى آخر: أين نحن من كلام المسيح لنا: “مَن يأكل جسدي ويشرب دَمي، فَلَهُ الحياة الأبديّة” (يو 6: 54)، “مَن آمَن بي وإنْ مات فَسَيحيا” (يو 11: 25)؟ إذًا، لا يستطيع المؤمِن أن يكون مسيحيًّا حقيقيًّا وهو لا يؤمِن بكلام المسيح الّذي وَعدَنا بالحياة الأبديّة.
في المسيحيّة، فضائلُ إلهيّة ثلاث، هي: الإيمان والرَّجاء والمحبّة. الإيمان هو اعتراف الإنسان بوجود الله، والاستسلام له. الرَّجاء هو ثقة الإنسان بوعود الله له، لذا على المؤمِن أن يكون على ثِقةٍ تامَّة بحصوله على السّماء إيمانًا منه بالله الأمين في وعوده للبشر. إنَّ السّماء ليْسَت من اختراعٍ بشريّ، فالله هو الّذي كلَّمنا عنها، وأعطانا نعمة مشاركته في الملكوت بعد انتقالنا من هذه الحياة الأرضيّة، من خلال موته على الصّليب لأجلِنا. المحبّة هي فضيلةٌ يختبرها الإنسان على هذه الأرض مع الآخرين، ويستمرّ في عيشها بعد انتقاله من هذه الأرض في الحياة الثّانية. إنَّ القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، في نزاعها الأخير على فراش الموت، كانت على ثِقة تامّة بأنَّها ستنال الحياة الأبديّة، إذ قالت: “أنا لا أموت أبدًا بل أدخل الحياة”.
قد يقول البعض إنّهم يَشكُّون في أمرِ وجود السّماء، إذ لم يَعُد أحدًا من الموتى ليُخبرهم بما عاين هناك. مُخطئٌ هو مَن يؤمِن بهذا الاعتقاد، لأنّ الربَّ يسوع، الّذي نؤمِن به، نحن المسيحيِّون، قد أكَّد لنا وجود السّماء، إذ تمحورت رسالته التبشيريّة بين النَّاس حول السّماء وكيفيّة الاستعداد لها. إنّ المسيحيّ الحقيقيّ يؤمِن بكلام الربّ وبتعاليمه السماويّة، الموجودة في الإنجيل. لقد كلّمنا الربّ يسوع عن السّماء في مواقف عديدة، منها: حين أخبر نيقوديموس، الّذي أتاه ليلاً، وهو أحدُ علماء الشريعة اليهوديّة، عن ضرورة الولادة بالرُّوح من أجل الحصول على السّماء، قائلاً له: “ما مِن أحدٍ يَصعدُ إلى السّماء إلّا الّذي نزل منها، وهو ابنُ الإنسان” (يو 3: 13)، أي يسوع المسيح.
إذًا، إنَّ إيماننا المسيحيّ يرتكز على إيماننا بيسوع المسيح، الّذي نزل من السّماء ودعانا للاقتداء به لِنَصِل، نحن أيضًا، إلى السّماء؛ فالمسيح قد فَتَح أمام البشر أبواب السّماء، حين افتداهم بموته على الصّليب. كان رئيس فرنسا الأسبق، فرنسوا ميتران، إنسانًا مُلحدًا وقد حارب الكنيسة بكلِّ قواه. قبل ستَّة أشهر من وَفاته، قال له الأطبّاء أنّهم استَنفَذوا كلّ الوسائل الطبيّة المتاحة أمامهم لمعالجته، وَلَم يَعُد هناك مِن علاجٍ آخر لحالته، لذا عليه الاستعداد للموت. عند سماعه هذا الكلام، توجَّه الرئيس الفرنسي لزيارة أحد أهمّ فلاسفة فرنسا في ذلك العصر، جان غيتون، طارحًا عليه السؤال: ماذا يُوجد بعد الموت؟ أمام هذا السؤال، أعطى الفيلسوف الفرنسيّ الكتاب المقدَّس للرئيس الفرنسيّ قائلاً له إنَّ الربّ يسوع وحده يملك الجواب عن سؤاله هذا. فانكبَّ الرئيس على قراءة الكتاب المقدَّس للاطِّلاع على الحياة ما بعد الموت. وبعد أشهرٍ قليلةٍ، عاد الرئيس الفرنسيّ لزيارة الفيلسوف طارحًا عليه سؤالاً آخر: “لماذا جُهنَّم؟” فأجابه الفيلسوف: “لأنَّ الله محبَّة”. فاستغرب الرئيس هذا الجواب، فشَرح له الفيلسوف الأمر قائلاً: إنَّ المحبّة تفترض إعطاء الحريّة للطَّرف الآخر. إنَّ الله قد خلق الإنسان من فيضِ حبِّه وأعطاه الحريّة الكاملة، ليختار ما بين العيش معه أو بعيدًا عنه.
إنَّ الله لا يفرض على البشر محبّته، بل يحترم قرارهم الحُرّ: فإنْ قرّر الإنسان العيش مع الله على هذه الأرض، عاش مع الله أيضًا في الحياة الثانية، وهذا ما يُسمّى “السّماء”؛ أمّا إذا اختار الإنسان العيش بعيدًا عن الله في هذه الحياة، نال حياةً بعيدةً عن الله في الحياة الثانية أيضًا، وهذا ما يُسمّى “جُهنَّم”. إذًا، السّماء هي حالة القُرب من الله، أمَّا جُهنَّم فهِيَ حالةُ البُعد عن الله. إنّ الأعاجيب الّتي تتمّ بواسطة القدِّيسين، ما هي إلّا تأكيدٌ على أنَّ هؤلاء الّذين انتقلوا من بيننا، لا يزالون أحياء، وَهُم في جوار الله، إذ إنَّه الوحيد القادر على مَنحِهم تلك القوّة للقيام بشفاءاتٍ خارقة، يَعجَزُ الطبّ البشريّ عن شفائها. لذا، تتمهّل الكنيسة قبل إعلان الأعاجيب الّتي تتمّ على يد القدِّيسين، إذ تقوم بإخضاعها لِعِدّة اختباراتٍ عِلميّة للـتأكُّد من صِحتِّها.
عند طَرحِنا السؤال على المؤمِنِين حول قراءتهم الكتاب المقدَّس، كان جواب البعض منهم، أنّهم لا يقرأونه لأنّهم يعتبرون أنفسهم غير مَعنِيين بالإيمان، فالله غيرُ موجودٍ بالنسبة إليهم. وهنا أقول لكم إخوتي، ما مِن أحدٍ تعمَّق فِعلاً في كلمة الله في الكتّاب المقدَّس، إلّا وأعلَن حبَّه للمسيح، طالبًا سرّ المعموديّة للتعبير عن رغبته في اتِّباع هذا الإله الـمُحبّ للبشر. إنَّ علاقة بعض المؤمِنِين باللّه تُشبه إلى حدٍّ بَعيد، علاقة الابن الأكبر بأبيه في مَثل الابن الضّال (لو 15: 11-32): إذ عند عودة أخيه الأصغر، ساور الشَّك قلب الابن الأكبر في إمكانيّة حصوله على ميراث أبيه، فتَعامل مع أبيه، كما يتعامل الأجير مع ربِّ عَمَلِه، فَذكَّره بالسَّنوات الّتي أمضاها في خِدمته، قائلاً له: “كَم لي من السِّنين أخدمُكَ”. كذلك نحن أيضًا، في علاقَتنا بالربّ، حين نعتقد أنَّ القربانة المقدَّسة غير قادرة على مَنحِنا السَّماء كما وَعَدَنا الربّ،
هذا ما يبرِّر استمرارنا في العيش كأبناء لهذا العالَم لا كأبناء لله، حتّى بعد حصولِنا على جسد الربّ ودمِه المقدَّسَين في الذبيحة الإلهيّة. بعد ارتكابه الخطيئة، عاد الابن الأصغر إلى بيت أبيه، طالبًا إلى أبيه مساواته بالأُجراء، إذ قال لأبيه: “إجعلني كأحد أجرائك”(لو15: 19)، ولكنّ الأب قد رَفضَ الأمر، فوَضع الخاتم في إصبعه طالبًا إلى الأُجَراء إلباس ابنه الّذي كان ضّالاً الحُلَّة الجديدة وذَبْح العجل المسمَّن احتفالاً بعودة الابن الضّال.
إذًا، إنّ الخطيئة عاجزةٌ عن نزعِ صِفة البنوّة عنّا، وهذا ما أكَّده بولس الرَّسول لنا حين قال:”فإذا كُنّا نحن أبناء الله، فنَحنُ ورثَة: وَرَثَة الله وشركاء المسيح” (رومة 8: 17).
إنَّ القدِّيس لا يُدرِك حقيقة قداسته على هذه الأرض؛ فَهو كُلَّما اقترب من الربّ، كلَّما شعر بضرورة تَطهُّرِه من خطاياه، وما حياة بطرس الرَّسول إلّا مِثالاً على ذلك. في نصّ الصّيد العجيب (لوقا 5: 1-11)، يُخبرنا الإنجيليّ أنَّ بعض الرُّسل أمضوا اللّيل في الصّيد ولكن دون جدوى. وحين قرّروا غَسلَ شباكهم، أتى يسوع إلى بحيرة جناسَرت حيث كانوا مجتمعين، وطلب إلى بطرس أن يُرسِل، هو والرُّسل الّذين معه شباكهم للصّيد، فاستجابوا لكلام الربّ، فكان الصّيدُ وَفِيرًا. عند رؤيته للصّيد، “ارتمى بطرس عند رُكبتيّ يسوع، وقال: يا ربّ، تَباعَد عنِّي، إنِّي رَجُلٌ خاطئ” (لو5: 8). لقد أدرك القدِّيس بطرس نجاسته حين رأى عظمة الربّ. إنَّ أعمالنا الصّالحة ليْسَت سببًا يدفع الله إلى محبّتنا؛ بل إنّ اكتشافَنا لعظمة محبّة الله لنا هو الّذي يدفعنا إلى القيام بأعمالٍ صالحة. قال الربُّ يسوع لبطرس الرَّسول:”أنت صخرٌ، وعلى الصَّخر هذا سأبني كنيستي” (متّى 16: 18).
يخبرنا الإنجيليّ متّى (متّى 14:22-33)، أنَّ الربَّ يسوع قد طلب إلى تلاميذه الابتعاد عن البَرّ، ريثما يصرف الجموع. ولكنّ الربّ قد تأخّر في موافاة رُسُله، فَهبّت عاصفةٌ قويّة على سفينتهم، فشعروا بالخوف. فأتاهم الربّ ليلاً ماشيًا على المياه، فظنُّوا أنّه خيال، ولكنَّ الربّ قال لهم: “أنا هوَ لا تخافوا”، فأجابه بُطرس:”يا ربّ إنْ كُنتَ أنتَ إيّاه، فمُرني أن آتي إليك على الماء. فقال له الربّ:”تعال!”. فمشى بطرس على المياه، ولكنّه تعرَّض للغرق عندما ازدادَتْ قوّة الرِّيح في البحر، فجاء يسوع وانتشله قائلاً له: “يا قليل الإيمان، لماذا شكَّكت؟”.
وفي الإنجيل نقرأ أيضًا، عن إِنباء يسوع لتلاميذه باقتراب ساعة موته، قائلاً لهم: “ها نحن صاعِدون إلى أورشليم، فيتمّ جميع ما كَتَبَ الأنبياءُ في شأنِ ابنِ الإنسان: فسيُسلَم إلى الوَثَنيِّين فيَسخَرون منه ويَشتِمونَه، ويَبصِقون عليه ويجلدونه، وفي اليوم الثّالث يقوم” (لو 18: 31-34). لم يُعجِب هذا الكلام بطرس الرَّسول، فقال للربّ:”حاشَ لكَ يا ربّ! لن يُصيبَك هذا” (متّى 16: 22). فأجابه الربّ يسوع قائلاً: “اِنسحِب! ورائي! يا شيطان، فأنتَ لي حَجَرُ عثرة، لأنّ أفكارَك ليست أفكارَ الله، بل أفكارَ البشر” (متّى 16: 23).
كذلك في ليلة آلامه، عَبَّر بطرس عن حماسته لاتِّباع الربّ فقال: يا ربّ إنّي عازمٌ على أن أمضي معك إلى السِّجن وإلى الموت. فأجابه الربّ حينها: “أقول لك يا بطرس: لا يَصيحُ الدِّيك اليومَ حتّى تُنكِرَ ثلاث مرّاتٍ أنَّك تَعرِفُني” (لو 22: 33-34). وعندما تمَّ اعتقالُ يسوع، استلَّ بطرس سيفه “وضرب خادم عظيم الكهنة، فقطع أُذُنَه اليمنى”. عندها قال الربُّ لبطرس:”أغمِدِ السّيف. أفلا أشربُ الكأسَ الّتي ناوَلني أبي إيّاها”(يوحنّا18: 10-11).
إنّ حياة القدِّيس بطرس مليئةٌ بالخطايا: فهو قد أنكر ربّه، وشكّ في إيمانه بالربّ يسوع، وقَطَعَ أُذنَ خادم عظيم الكهنة، وسمح للنُّعاس أن يَغلِبه في بستان الزّيتون فلم يقوَ على السَّهر مع الربّ في ساعاته الأخيرة. ولكنَّ الربّ غَفَر له كلَّ خطاياه، وسلَّمه رئاسة الكنيسة، إذ قد ظهر له بعد القيامة على بُحيرة طبريّا وسأله قائلاً:”يا سِمعانُ بنَ يُونا، أتُحبُّني أكثر مّما يُحبُّني هؤلاء؟” (يوحنّا 21: 15)، فكان جواب بطرس إيجابيًّا، ومُعبِّرًا عن توبته الحقيقيّة. إذًا، إنَّ محبّة الله للبشر تفوق كلَّ ضُعفاتهم البشريّة.
إنَّ القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع تدعونا إلى عيش الطُّفولة الروحيّة. إنَّ الطِّفل الّذي يريد معانقة والِدَيه لا يلجأ إلى رَمي نفسه على أعناق أهله، بل يقوم فقط بحركةٍ بسيطةٍ جدًّا تُعبِّر عن رغبته في معانقة والِدَيه، فيَرفَعُ يَديه، فيُسارِعان إلى ضمِّه إليهما، وحَملِه. وهنا يُطرَح السؤال علينا: هل نرغب حقًّا في أن نكون أبناءً لله؟ فإنْ كانت لدينا تلك الرَّغبة، علينا الاعتراف بِضُعفِنا البشريّ وبعدم استحقاقِنا لنِعمة السَّماء، فالسَّماء هي هِبةٌ من الله لنا، والاستسلام بين يديّ الله. إنَّ صِفات الله هي نفسها صِفاتُ الأب في مَثل الابن الضّال. عند عودة الابن الضّال، أسرَع الوالِدُ إليه وضمَّه إلى صَدرِه غير آبهٍ لقذارة ابنه العائد من رعاية الخنازير. على المؤمِن العودة إلى الله، على الرُّغم من وقوعه في الخطيئة، فالخطيئة لا تستطيع أن تُنجِّس الله، بل إنّ الله بمحبّته العظيمة لنا، يستطيع أن يشفينا من كلّ خطيئة لدى اقترابنا منه.
إنَّ الكتاب المقدَّس يُكلِّمنا على ساعات الموت المختلِفة، مُشبِّهًا الموت بالسّارق: فالسّارق قد يأتي في أوّل اللّيل، وهنا نتكلَّم على موت الأطفال؛كما قد يأتي السّارق في منتصف اللّيل، وهنا نتكلَّم على موت الشّباب؛ وأخيرًا قد يأتي السّارق في آخِر اللّيل، أي عند بزوع الفجر، وهنا نتكلَّم على موت الشَّيوخ. إذًا، إنَّ الموت لا يُميِّز بين الطِّفل والشّاب والشَّيخ، لذا علينا أن نكون مستعدِّين لتلك اللَّحظة حين يدعونا الربّ للقائه. لقد انتشرَتْ عند الأقدَمين مقولةٌ تُعبِّر عن موت الشَّيوخ، بالقول:”لقد مات مِيتَة ربِّه”. ولكنَّ هذه المقولة قد فقدت مِصداقيّتها، إذ مع تطوُّر العِلم وتَقدُّمه، أَدرَكْنا أنّه ما مِن موتٍ من دون سببٍ. وفي تبرير الأقدَمِين لموت الشّباب والأطفال، نسمعهم يقولون: “هذه هي مشيئة الربّ”.
إنَّ هذه المقولة غير صحيحةٍ أبدًا، إذ إنَّ الله لا يُحدِّد أبدًا طريقة انتقالِنا من هذا العالم؛ لأنّه لو كان الربّ قد “كَتَب لنا” أن نموت مثلاً، في حادثِ سَيرٍ، فإنّه في تلك الحالة، من غير الجائز أن تُصيبنا الطّلقات النّاريّة بأيّ أذى مهما تعرَّضنا لها، وهذا يُناقِض الواقع البشريّ؛ فالإنسان هو ذات جبلةٍ ضعيفة، ولا بُدَّ له من أن يتعرَّض للأذى عندما يتعرَّض للطّلقات الناريّة. إنَّ إيمان البعض بهذه المقولة هي الّتي تَدفعهم إلى المغامرة في هذه الحياة والقيام بأعمالٍ بطوليّة، لأنَّهم على ثِقةٍ تامَّةٍ بأنَّ الله يَحميهم وأنّهم لن يتعرَّضوا إلّا لِما يرتضيه الله. إخوتي، إنّ العِلم قد أثبَتَ أنَّ لكلِّ موتٍ سببٌ، وبالتّالي علينا التخلّي عن الاعتقاد القائل: أنَّ كلّ ما نتعرَّض له من مخاطِر هو انعكاسٌ لمشيئة الله في حياتِنا.
إنَّ الربّ يسوع قد عرَّفنا عن ذاته في الإنجيل، قائلاً لنا: “أنا خُبزُ الحياة، مَن يُقبِل إليَّ فَلن يَجوعَ أبدًا، ومَن يؤمِن بي فَلن يَعطَشَ أبدًا” (يوحنّا 6: 35). ويُضيف الإنجيليّ يوحنّا قائلاً لنا إنَّ كثيرين مِن التّلاميذ قد توّقفوا عن السّير مع الربّ لدى سَماعهم هذا الكلام. في الكثير من الأحيان، نُعلن للآخَرين كلمة الله، فلا تَلقى ترحابًا في قلوبهم، فيقطعون كلّ علاقةٍ لهم بنا، لأنّ ما نُكلِّمهم به هو أمرٌ عَسير بالنسبة إليهم.
وهنا علينا اتِّخاذ الربّ يسوع مِثالاً لنا، إذ لم يَقبل بتغيير أقواله بُغية المحافظة على جماهير التّلاميذ حوله، بل على العكس من ذلك، فهو قد سأل التّلاميذ الّذين لا يزالون يتبعونه قائلاً: “أفلا تريدون أن تذهبوا أنتم أيضًا؟”، فكان جواب بطرس له:”يا ربّ، إلى مَن نذهَب وكلام الحياة الأبديّة عندَك؟ نحن آمَنّا وعَرَفْنا أنَّك قُدُّوس الله”(يوحنّا 6: 67-68). إذًا، يقدِّم لنا الإنجيل خريطة الوصول إلى السّماء، فالربُّ يسوع قد أعطانا أمثلةً كثيرة شبَّه فيها ملكوت السَّماوات بأمورٍ أرضيّة وحياتيّة.
يُخبرنا الكِتاب المقدَّس، في سِفر التَّكوين، أنَّ الإنسان كان يعيش مع الله في الفِردوس، ولكنّه نتيجة وقوعه في الخطيئة، خَسِر الفِردوس؛ فحاول الربّ بطُرقٍ عديدة إعادة الإنسان إلى الفِردوس، فأرسل إليه الأنبياء، ليُرشدوه إلى الملكوت، ولكنّهم فَشِلوا في ذلك؛ فأرسل الله في ملء الأزمنة، ابنه الوحيد، يسوع المسيح، متجسِّدًا في حشا مريم العذراء، ليُخلِّص البشر، فتنازل عن سمائه ليتمكّن مِن رَفع الإنسان إلى السّماء. إذًا، يخبرنا الكتاب المقدَّس عن وجود حالَتَين فقط، بعد الموت، هما السّماء وجُهنَّم.
في إنجيل الدينونة، حسب الإنجيليّ متّى، يطلب الربّ من الجِداء الذهاب عنه، إلى النّار الأبديّة المعدَّة لإبليس وجنوده. إنّ هَمَّ إبليس هو إبعاد النّاس عن الله، وبالتّالي مَن يُصغي إلى إبليس ويتبعه ينضمُّ إلى جنود إبليس. ولكنّ الربّ في هذا الإنجيل أيضًا يدعو الخِراف إلى الاقتراب منه، قائلاً لهم: “تَعالوا، يا مَن بارَكَهم أبي، فرِثوا الملكوت الـمُعَدَّ لَكم منذ إنشاء العالم”(متّى 25: 34). ولكنَّ الكنيسة الكاثوليكيّة حَصرًا، دون الكنيسة الأرثوذكسيّة، تُضيف إلى هاتين الحالتَين حالةً أخرى، توصّلت إلى الإيمان بها نتيجة تأمُّلها في الكتاب المقدَّس، وهي المطهر. إنَّ كلمة “مطهر”، لم تَرِد في الكتاب المقدَّس، ولكنَّ الكنيسة قد استنتجت من خلال تأمُّلها في كلام يسوع المسيح حول التجديف على الرُّوح القدس، وجود مغفرة للخطايا في الحياة الثّانية، فالربّ قال: “لذلك أقول لكم: كلُّ خطيئةٍ وتجديفٍ يُغفر للنّاس،
وأمَّا التَجديف على الرُّوح، فَلن يُغفَر لهم. ومَن قال كَلمةً على ابنِ الإنسان يُغفَر له، أمَّا مَن قال على الرُّوح القدس، فَلن يُغفَر له لا في هذه الدُّنيا ولا في الآخرة” (متَّى 12: 31-32). ويُضيف الربّ يسوع في مَثل الخادم القليل الشَّفقة قائلاً: “وغضِبَ مولاه فدَفعه إلى الجلّادين حتّى يؤدِّي كلَّ دَينَه” (متّى 18: 34).
إنَّ الـمَطهر هو حالة عبور الإنسان إلى السّماء، وبالتّالي نحن نتكلَّم على الحياة بعد الموت، أي على الحياة خارج الزَّمن، لذا لا يمكننا تحديد الوقت الّذي يستغرقه الإنسان في المطهر قبل وصوله إلى السّماء، فصاحب المزامير يقول لنا: “إنّ ألفَ سنةٍ في عينيك مثل يوم أمس العابر، وكَهجعةٍ من اللَّيل” (مز 90: 4).
إنَّ جماعة “أذكرني في ملكوتك”، قد اتَّخذت اسمها من حديث لصّ اليمين مع الربّ على الصّليب. إنَّ الربَّ يسوع قد صُلِب بين لِصَّين، ارتكبا المعاصي في حياتهما، أمَّا الربّ فقد كان إنسانًا بارًّا، وهذا ما اكتشفه لصّ اليمين عند لقائه بالربّ يسوع على الصّليب، لذا طلب من الربّ أن يَذكُرَه في ملكوته، فكان له ما أراد، إذ قال له الربّ يسوع: “اليوم تكون معي في الفِردَوس” (لوقا 23: 43). إنّ كلمة “اليوم” تعني اللَّحظة الحاضرة، أي أنَّه عندما يعيش الإنسان مع الربّ لا يوجد للماضي وجود، فالربّ ينسى كلّ ماضينا المليء بالخطايا.
إنّ علاقتنا بالربّ تُشبِه حياةَ مُغتَربٍ يستعدُّ، بعد إمضائه العُمرَ في الغُربة، للعودة إلى بيت والِدَيه لرؤيتهما ومعانقتهما؛ فنَحنُ المؤمِنون نعيش في هذه الحياة في غُربةٍ عن الله، ولن نجد راحةً لنا إلّا في عودتِنا إلى وَطَننا السماويّ، حين نلتقي بالربّ وجهًا لوجهٍ. في الفلسفة البشريّة، وفي العهد القديم، قِيلَ في الإنسان إنّه من التُّراب وإلى التُّراب يعود. أمّا بعد مجيء المسيح، فقد أدرَك الإنسان أنّه من الله أتى وإلى الله يعود. هذا هو هَدف جماعة “أذكرني في ملكوتك”، أن تُلقي الضَّوء من جديد على هذه الفلسفة الجديدة دافعةً الإنسان إلى التَّفكير في السّماء.
إنّنا أبناء الرَّجاء المسيحيّ، أي إنّنا أبناء السّماء، فَنحنُ لَم نُخلَق كي نكون مجرَّد حُفنةٍ من التُّراب في القبور بعد الموت، بل خُلِقنا كي نسعى منذ هذه الحياة لنكون مع الربّ في الحياة الثانية. إنّ إيمان الإنسان بمحبَّة الله له، هو الّذي يؤكِّد وصوله إلى السّماء بعد انتقاله من هذا العالم. فالله يُدرِك أنَّ الإنسان هو جَبلةٌ ضعيفة، أي أنَّه مُعرَّضٌ للسّقوط اليوميّ في الخطيئة، لذا فإنَّ الربَّ لا يرفض توبة الإنسان، وهذا ما نراه جليًّا في تَصرُّف الأب في مَثلِ الابن الضّال. ولكنَّ الربَّ يحترِم حريّة الإنسان الّذي يُقرِّر البقاء بعيدًا عنه على الرُّغم من اختباره محبَّة الله له وهذا ما يُسمّى بالإلحاد، أو بعبارة أخرى التَّجديف على الرُّوح القدس.
ولكن السؤال الّذي يُطرَح الآن: هل السّماء هي فقط للمسيحيِّين؟ إنَّ السّماء هي مَسكِنُ الله، وبالتّالي الله وَحده يُقرِّر مَن سيدخُل إلى مَسكنه، أي أنَّه لا يَحقُّ لنا إدانة الآخَرين. عندما جاء نيقوديموس إلى يسوع ليلاً، قال له الربّ يسوع: “ما مِن أحدٍ يُمكنه أن يدخُل إلى ملكوت الله، إلّا إذا وُلِدَ من الماء والرُّوح”(يوحنّا 3: 5).
وبالتّالي بِناءً على كلمة الله هذه، نستطيع القول إنّه لا يدخل إلى السّماء إلّا مَن كان مُعمَّدًا. وهنا طُرِح السؤال على القدِّيس أوغسطينوس: ما هو مصير الأطفال الرُّضَع الّذين ماتوا قبل اقتبالهم سرّ المعموديّة؟ فكان جوابه أنّهم يذهبون إلى اليَنبُث، وهو مكان لا عذاب فيه ولا آلام، أي أنَّهم لن يكونوا من أبناء الملكوت ولا مِن أبناء جُهنمّ. ولكن الكنيسة تابعَتْ مسيرتها في كلمة الله، فتَذكَّرت أنَّ الربَّ قال لها إنَّ الرُّوح يَهبُّ حيث يشاء، ويمكنها أن تسمع صوته ولكنّها لا تستطيع أن تراه. وبالتّالي،
فإنَّ الإنسان الّذي لم يتمكّن من سماع البشارة، يستطيع أيضًا أن يخلُص إنْ كان يعيش مع الآخَرين حياةً مبنيّة على المحبّة، ومتناغمة مع قناعاته الإنسانيّة، لأنَّ رَحمةَ الله تَفوق قدرتنا على إدراكها في تفكيرِنا البشريّ.
إذًا، إنّ حديثنا اليوم، يشكِّل دَعوةً لكلِّ مؤمِنٍ لقراءة الإنجيل والتعمُّق فيه، قبل أن يحين موعد انتقالِه من هذا العالم، فيكون مُدرِكًا لتعاليم الربِّ ووصاياه. إنَّ الإنجيل ليْسَ مجرَّد كتابٍ يُكلِّمنا عن الله، بل إنَّ الله نفسه يُكلِّمنا بكلمته الإلهيّة من خلال الإنجيل، وبالتّالي هل يجوز لنا رَفض السّماء الّتي يمنَحنا إيّاها الله في كلِّ صفحةٍ من الكتاب المقدَّس؟ إنَّ المؤمِن بالربّ، هو ابنُ السّماء لا بِفضل قوَّته البشريّة، إنَّما بفضل محبَّة الله الّتي تجعله أهلاً للملكوت.
إذًا، نحن جئنا للمشاركة في هذا اللِّقاء مع جماعة “أذكرني في ملكوتك”، لأنّنا نبحث عن السّماء، ونرغب في أن نكون من أبناء السّماء، كما نرغب في نَقل هذه البشارة إلى الآخَرين. لقد سأل القدِّيس دون بوسكو تلاميذه: ما الّذي يفعلونه إنْ قِيل لهم إنّهم بعد لحظاتٍ سيموتون؟ فكان جواب القدِّيس دومنيكو سافيو، وهو أحد تلامذة القدِّيس دون بوسكو، إنّه سيُتابع اللَّعب، وهو العَمل الّذي كان يقوم به، لأنّه مستعدٌّ للقاء الربّ. وعندما طلب معلِّم الفنون الجميلة من تلاميذه أن يرسُم كلّ واحدٍ منهم عائلته، رَسَم القدِّيس دومنيكو سافيو، عائلته السماويّة. وعندما طلب الـمُعلِّم تفسيرًا من القدِّيس، أجابه إنَّ بيته هو السّماء وأنَّ الله هو أبوه.
في نزاع القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، حاولت الرَّاهبات تشجيع تلك القدِّيسة على احتمال آلامِها، قائلاتٍ لها: إنّها حين تنتقل من هذا العالم ستعيش مع الربّ؛ فأجابتهنَّ أنّها أمضت كلَّ حياتها في معيّة مع الربّ، ولكنّ فَرَحها سيكون عظيمًا حين تتمكَّن من رؤية الله وَجهًا لوجه. في الختام، أودّ أن أعرِض عليكم اختبارًا من القدِّيس أوغسطنيوس، يقول: إنْ أُتيحت لنا الفُرصة في العيش الأبديّ في هذه الأرض بسلامٍ من دون آلامٍ وأوجاعٍ وضغوطاتٍ، ولكنْ من دون الحصول على إمكانيّة لرؤية وجه الربّ، فما نختار: أَنَختار العيش في السّماء حيث نستطيع رؤية وجه الله على الدَّوام، أم نختار هذه الحياة الأرضيّة؟ فإنْ كان اختيارُنا هو الحياة الأرضيّة وكانت حياتُنا هادئة ونَنعَم بالهناء، فهذا دليلٌ على أنّنا نبحث عن راحتنا وحسب لا عن الله؛ أمّا إذا كان اختيارُنا الحياة في السّماء مع الله، فهذا يعني أنّنا لن نستطيع أن نعيش بهناء إلّا بمعاينة وجه الحبيب، فالحبيب لا يرتاح إلّا بِلقائه المحبوب.
إنّ السّماء هي العيش مع الحبيب، إنَّها لقاء الحبيب بالمحبوب وجهًا لوَجه، برِفقة العذراء مريم وجميع القدِّيسين.
فلنسعَ إخوتي إذًا، إلى الاستفادة من حياتنا على هذه الأرض بالمحبّة وبالأعمال الصّالحة، لأنَّ هذه الحياة الأرضيّة لا تُعاش إلّا مرّة واحدة، ومن خلال عَيشِنا لها، نقرِّر حياتنا الثانية، ما إذا كانت بالقرب من الربّ أو بعيدًا عنه.
ملاحظة: دُوِّن التأمّل بأمانةٍ من قِبلنا.