تفسير الكتاب المقدّس،
الأب ابراهيم سعد،
“سِفر رؤيا القدّيس يوحنّا – الإصحاح العشرون”
النّص الإنجيليّ:
“ورأيتُ ملاكًا نازلًا مِن السَّماء معه مِفتاحُ الهاوية، وسِلسِلةٌ عظيمةٌ على يده. فقَبضَ على التِّنِّين، الحيَّةِ القديمةِ، الَّذي هو إبليسُ والشَّيطانُ، وقَيَّده ألفَ سَنةٍ، وطرَحَه في الهاوية وأغلق عليه، وخَتَم عليه لكي لا يُضِلَّ الأُمَم في ما بَعد، حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. وبَعد ذلك لا بُدَّ من أن يُحَلَّ زمانًا يَسِيرًا. ورأيتُ عروشًا فَجَلسوا عليها، وأُعطوا حُكمًا. ورأيتُ نفوسَ الّذِين قُتِلوا مِن أجل شهادة يسوع ومِن أجل كَلِمة الله، والّذِين لَم يَسجُدوا للوَحشِ ولا لِصورته، ولَم يَقبلوا السِّمَة على جباهِهم وعلى أيدِيهم، فعاشوا ومَلكوا مع المسيح ألفَ سَنةٍ. وأمّا بَقيَّة الأموات فلَمْ تَعِشْ حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَة. هذه هي القيامة الأولى. مبارَكٌ ومُقدَّسٌ مَن له نَصيبٌ في القيامة الأولى. هؤلاء لَيسَ للموت الثَّاني سُلطانٌ عليهم، بل سَيَكونون كَهَنةً لله والمسيح، وَسَيَملِكون معه ألفَ سَنَةٍ. ثُمَّ متى تَمَّتِ الألفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطانُ مِن سِجنِه، ويَخرج لِيُضِلَّ الأُمم الّذِين في أربعِ زوايا الأرضِ: جوجَ وماجوج، لِيَجمعَهم للحرب، الَّذِين عددُهم مِثلُ رَملِ البَحر. فصَعِدوا على عَرضِ الأرضِ، وأحاطوا بِمُعسكرِ القدِّيسِين وبالمدينة المحبوبة، فنَزلَتْ نارٌ مِن عند الله مِن السَّماء وأكَلَتهم. وإبليسُ الّذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بُحَيرة النّار والكِبريت، حيثُ الوَحشُ والنَّبيُّ الكذَّابُ. وسَيُعَذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدِين. ثُمَّ رأيتُ عَرشًا عظيمًا أبيَضَ، والجالِسَ عليه، الّذي مِن وَجهِه هربَتِ الأرضُ والسَّماءُ، ولَم يُوجَد لهما مَوضِعٌ! ورأيتُ الأمواتَ صِغارًا وكِبارًا واقفِين أمام الله، وانفتَحَتْ أسفارٌ، وانفتَح سِفرٌ آخَرُ هو سِفرُ الحياة، وَدِينَ الأمواتُ مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار بِحَسبِ أعمالهم. وسَلَّمَ البَحرُ الأمواتَ الّذِين فيه، وسَلَّمَ الموتُ والهاويةُ الأمواتَ الّذِين فيهما. ودِينَ كلُّ واحدٍ بِحَسب أعماله. وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار. هذا هو الموت الثَّاني. وكلُّ مَن لَم يُوجَد مكتوبًا في سِفر الحياة طُرِحَ في بُحَيرة النَّار”.
شرح النّص الإنجيليّ:
في هذا الإصحاح، نجد أنّ المشهد الأخير الّذي أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول، طيلة هذا السِّفر، ينجلي أمام عيوننا. كما يبدو لنا واضحًا في هذا الإصحاح أنّ هذا السِّفر الّذي كان مختومًا بإحكامٍ، سيَتمُّ فَتحُه أخيرًا. إنّ هذا النَّصَ صعبٌ، إذ إنّ المشكلة فيه تكمن في كَثرة المفسِّرين الحديثِين له، لأنّهم يُنزِلون عليه نَظراتِهم إلى الواقع العالَمي اليوم. وإليكم مَثلاً يُوَضِّح ما أقوله لكم: إنّ عبارة “جوجَ وماجوج”، الّتي استعملها الكاتب في هذا الإصحاح، قد ذُكِرت في العهد القديم، تحديدًا في سِفر حزقيال الإصحاح 38، وقد قَصَد بها النَّبيُّ الشُّعوبَ الّتي ستأتي من الشَّرق الأقصى، أي من البَعيد.
إنّ بعض المفسِّرين قد رأوا أنّ ما قصدَه يوحنّا، كاتب سِفر الرُّؤيا، في استخدامه هذه العبارة هو الصِّين، في حين رأى آخَرون أنّ المقصود بها هو روسيا وسيبيريا، إذ يعتقدون أنّ هذه الشَّعوب ستأتي من البَعيد لِتَشنّ حروبًا في الشّرق وتحتّل بلاده. إذا اعتمَدنا على تحليلات هؤلاء المفسِّرين، فإنّنا، ولا شكّ، سنَقع في الفخّ، لأنّ الحرب الّتي قصدَها يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، هي الحرب الرّوحيّة الّتي يواجهها كلّ مؤمنٍ، خصوصًا في نهاية الأزمنة، الّتي لا نَعرف متى ستكون. ما يُخبرنا به الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح، هو أنّ قَبْل مَجيء المسيح، سيكون هناك نوعٌ من “طَفرةٍ” للشَّيطان، أي أنّ الشَّيطان سيَظهر بقوّةٍ من جديدٍ في العالَم وسيَجعل الإنسان يَمرُّ بما يُشبه “يقظة الموت” فيشعر هذا الأخير على إثَرِها بأنّه إنسانٌ نشيطٌ لا يُعاني من أيّ شيء، وأنّه سيُصبح قويًّا حين يَقبَل بما يعرِضه الشَّيطان عليه.
“ورأيتُ ملاكًا نازلًا مِن السَّماء معه مِفتاحُ الهاوية، وسِلسِلَةٌ عظيمةٌ على يدِه. فقَبضَ على التِّنِّين، الحيَّةِ القديمةِ، الّذي هو إبليسُ والشَّيطانُ، وقَيَّدَه ألفَ سَنَةٍ، وطَرَحَه في الهاوية وأغلَق عليه، وخَتَمَ عليه لكي لا يُضِلَّ الأُمم في ما بَعد، حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنةِ. وبَعد ذلك لا بُدَّ من أن يُحَلَّ زمانًا يَسِيرًا”.
مِن خلال هذا الكلام، يبدو لنا واضحًا أنّ الحرب الأساسيّة ليست مع النَّاس، أي مع الشُّعوب، بل هي مع الّذي يقود هذه المجموعات من النَّاس أو مِن الشَّعوب، ألا وهو الشَّيطان أو التِّنين أو الحيّة القديمة؛ وكُلّ هذه الأسماء تستعمل في الكتاب المقدَّس للدَّلالة على الشَّيطان. في القيامة الأولى، تَمَّ تقييد الشَّيطان وطرحِه في الهاوية والخَتم عليه، لأنَّه في القيامة الأولى انتصرَ الربُّ على الشَّيطان بقيامته من بين الأموات، وهذا الانتصار سيَدوم ألفَ سنة. إنّ المقصود هنا بعبارة “ألفَ سنة” ليس عددًا محدّدًا من السِّنينِ، بل هو يرمز إلى عددٍ كبيرٍ من السِّنين لا تنتهي إلّا بالمجيء الثّاني للمسيح.
بين قيامة المسيح، أي القيامة الأولى، ويوم مجيء المسيح، أي القيامة الثّانية، يُحدِّثنا كاتب هذا السِّفر في هذا الإصحاح عن قيامةٍ أولى وعن موتٍ ثانٍ. إنّ الّذين قَبِلوا القيامة الأولى وعاشوا على أساس الإيمان بالقائم من بين الأموات، قد عاشوا حياتهم الأرضيّة مُتَمسِّكين بالكلمة، مُتَمسِّكين بشهادة يسوع، لذا لن يُصيبهم الموت الثّاني، وبالتّالي سيَحصُلون على القيامة الثّانية. إنّ كاتب هذا السِّفر لم يَذكر لنا الموت الأوّل، لأنّ هذا الموت هو موتٌ طبيعيٌّ: فَكُلّ إنسانٍ على هذ الأرض سيَموت، إمّا استشهادًا أو اعترافًا بالمسيح، كما أنّه سيتعرّض للموت بشكلٍ يوميّ في حياته الأرضيّة نتيجةَ إخلاصِه ليسوع المسيح.
بعد القيامة الأولى، هناك موتٌ ثانٍ، وهذا يعني أنّه إذا رَفَضَ الإنسان قيامة الربّ، وحارَبَ المسيح والمؤمِنِين به، فنَصيبُه سيكون الموت الثّاني، وهو بالتّالي لن يحصل على القيامة الثَّانية؛ أمّا إذا كان الإنسان مؤمِنًا ومُخلِصًا لِيَسوع المسيح ولِشهادة الربّ في هذه الحياة، حين يموت موتَه الأوّل، سيتمكَّن من التغلُّب على الموت الثّاني وسينال القيامة الثّانية. هذه هي التَّعزية والرَّجاء اللّذَين يُقدِّمهما كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين.
“ورأيتُ نفوسَ الّذِين قُتِلوا مِن أجل شهادةِ يسوعَ ومِن أجل كَلِمة الله، والَّذِين لَم يَسجُدوا للوَحشِ ولا لِصورتِه، ولَم يَقبلوا السِّمَةَ على جِباهِهم وعلى أيْدِيهم، فعَاشوا ومَلَكوا مع المسيح ألفَ سَنَةٍ. وأمَّا بَقيَّةُ الأموات فلَمْ تَعِشْ حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. هذه هي القيامةُ الأولى”.
إنّ المقصود بعبارة “الوحش وصورته” هو عبادة الإمبراطور وعبادة الأوثان. وبالتّالي، المؤمِنون الّذين لم يَقعوا في فخّ عبادة الأصنام، فإنّهم ولو قُتِلوا على هذه الأرض سيَكونون شهداء، لأنّهم قُتِلوا من أجل كلمة الله ومن أجل شهادتهم ليسوع المسيح؛ وإذا لم يُقتَلوا، أي إذا عاشوا حياتهم في الإخلاص لكلمة الله، فإنّ موتهم الأوّل سيكون ضمانةً لقيامتهم الثّانية، وضمانةً لعدم موتهم الثّاني.
إنّ المقصود بعبارة “عاشوا ومَلكوا مع المسيح ألفَ سَنَة”، هو أنّ المؤمِنِين الّذين عرَفهم التَّاريخ، وكانوا مُخلِصين ليَسوع المسيح، سيَموتون إلى يوم مَجيء المسيح الثّاني، أمّا عند مجيئه فسيَحصلون على القيامة الثّانية ولن يُدركهم الموت الثّاني. إنّ المقصود بعبارة “أمّا بَقيّة الأموات فَلم تَعِش حتّى تتمَّ الألفُ سنة” هو القيامة الأولى الّتي تحقَّقت بموت المسيح وقيامته.
“مُبارَكٌ ومُقدَّسٌ مَن له نَصيبٌ في القيامة الأولى. هؤلاء لَيسَ للموتِ الثَّاني سُلطانٌ عليهم، بل سَيَكونون كَهنةً لله والمسيح، وسَيَملِكون معه ألفَ سَنَةٍ”.
مَن لهم نَصيبٌ في القيامة الأولى هُم المؤمِنون بيسوع المسيح، أي هؤلاء الّذين لم يرتدّوا عن الإيمان الصَّحيح. وهنا نتذكَّر كلام بولس الرّسول عن يوم الارتداد. إنّ المؤمِنِين الّذين لم يرتدّوا عن الإيمان الصَّحيح والّذين لم تَغرُّهم مُغريات الشَّيطان ومَن يحكم باسمه، والّذين لم يخافوا من تهديدات الشَّيطان ومَن يحكم بِاسمه، هؤلاء سيكون لهم نَصيبُ القيامة الأولى، أي أنّه لن يكون للموت الثّاني مِن سلطانٍ عليهم. هؤلاء المؤمِنون سيُصبحون كهنةً لله وللمسيح في الملكوت، لأنّ المسيح سيَجلس على العرش، وكلّ الّذين سيخدمونه هُم كهنةٌ أي خُدَّامٌ له، وسيَملِكون معه “ألفَ سنة”، أي الحُكم الّذي لا ينتهي إلّا بالـمَجيء الثّاني للمسيح.
“ثُمَّ متى تَمَّتِ الألفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطانُ مِن سِجنِه، ويَخرج لِيُضِلَّ الأُمم الَّذِين فِي أربَعِ زوايا الأرض: جوجَ وماجوجَ، لِيَجمعَهم للحرب، الَّذِين عددُهم مِثلُ رَملِ البَحرِ. فصَعِدوا على عَرضِ الأرض، وأحاطوا بِمُعسكَر القدِّيسِين وبالمَدينة المَحبوبةِ، فنَزلَتْ نارٌ مِن عند الله مِن السَّماءِ وأكَلَتهم. وإبليسُ الَّذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بُحَيرةِ النَّار والكِبريت، حيثُ الوَحشُ والنَّبيُّ الكَذَّاب. وسَيُعَذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدِينَ”.
هنا يُكلَّمنا كاتب هذا السِّفر على فترةِ ما قَبْل المجيء الثّاني للمسيح، وفيها سَيُحَلّ الشَّيطان من سِجنه.
وهنا نَطرَح السَّؤال: لماذا سيَتِمّ حَلُّ الشَّيطان من سجنه، بعد أن كان ممسوكًا؟ إنّ حَلَّ الشَّيطان مِن قيوده يُشبه النَّعجة الّتي يقوم الإنسانُ بِحَلِّها من قيودِها قَبْل ذَبحِها، فَترفِس كلّ ما هو حولها. وبالتّالي، قَبْل أن تأتي نهايته الكاملة في المجيء الثّاني للمسيح، سيَسعى الشَّيطان إلى تضليل المؤمِنِين وإبعادِهم عن الربّ.
هذا ما نعيشه اليوم في وَطنِنا، ولكن هذا لا يعني أنّ المسيح سيأتي عمَّا قريبٍ، إذ لا أحد يعرف متى سيكون المجيء الثّاني للمسيح. وبالتّالي، إنْ ظننتُم أنَّ ما يحدث اليوم في بلدِنا يُؤشِّر إلى اقتراب مجيء الربّ، فهذا يعني أنَّكم وَقعتم في الفخّ. تخيّلوا معي: لو أتى أحدهم وأخبرنا أنّه سيُعيد الوضعَ الاجتماعيّ والاقتصاديّ في لبنان إلى ما كان عليه قَبْل بداية الأزمة الخانقة الّتي نعيشها اليوم، وأنّه سَيَقوم بِحَلِّ كلِّ مشاكلِنا وسَيُعيد الازدهارَ إلى بلدنا وسيَمحو مِن ذاكرتِنا هذه الفترة الصَّعبة الّتي مَررنا بها على مُدّة سَنتَين، أؤكِّد لكم
إخوتي أنّ هذا الشَّخص ستَتبَعُه غالبيّةٌ ساحقةٌ من المواطِنِين، مِن دون أن تَطرح السّؤالَ على ذاتِها حول دوافع هذا الشَّخص للقيام بذلك. هذا ما سيَقوم به الشَّيطان مع المؤمِنِين إذ سيُقدِّم لهم إغراءات كبيرة وتهديدات كثيرة إن لم يرضخوا له. وما نعيشه اليوم في وَطننا هو مِثالٌ على ذلك: ففي ظلّ الحِصار والجوع الّذي نشعر به في بلدنا، قد تلجأ دولتُنا إلى دَفعِنا إلى الاختيار ما بين الخضوع لها ولأفكارِها وسُلطانِها للحصول على ضروريّات الحياة كالأدويّة والطَّعام، أو الموت جوعًا في حال رفضِنا الخضوع لها. في حال وصولنا إلى هذه المرحلة، أؤكِّد لكم أنّ غالبيّة الشَّعب ستَقبَل بشروط هذه الدَّولة للحصول على ما تحتاج إليه لتستمرّ في هذه الحياة.
هذا هو أسلوب الشَّيطان مع المؤمِنِين إذ يلجأ إلى اعتمادِ أساليب التَّرهيب والتَّرغيب معهم بُغيَة إبعادهم عن الله. إنّ الشَّيطان يلجأ إلى أساليب التَّرغيب والتَّرهيب مع المؤمِنِين حين يكون هؤلاء قد وصلوا إلى حالةٍ من الإفلاس، فَيَجِدون في قبولهم مغريات الشَّيطان حياةً لهم، وفي رَفضِهم لها موتًا أرضيًّا. إنّ الشَّيطان يستعملا مع المؤمنِين الأسلوبَين، طالبًا إليهم الخضوع له مقابل الحصول على ما يُقدِّمه لهم.
في التّجربة الّتي تعرَّض لها المسيح في البَرِّيّة (متى 4: 1-11)، طَلبَ الشَّيطان إلى الربّ الخضوع له، عندما كان الربُّ في الصَّحراء صائمًا لا يأكل ولا يشرب. إنّ المسيح لم يذهب إلى الصَّحراء للصّوم طوعًا كما نصوم نحن اليوم، بل إنّ المسيح في وجوده في الصَّحراء تَضوَّر جوعًا لأنّ في الصَّحراء لا يوجد لا أكلٌ ولا شُرب، فطبيعة الصَّحراء هي موتٌ، وبالتّالي، كان الربُّ معرَّضًا للموت فيها. إذًا، عند وصول المسيح إلى حدِّ إحساسه بالموت، جاء إليه الشَّيطانُ ليَعرُض عليه ما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب، شرطَ الخضوع له، فَرَفض الربُّ يسوع هذا الأمر. هذا ما يحدث معنا اليوم أيضًا، فنحن في كلِّ لحظةٍ نواجه تجربةً معيّنةً: ففي هذا الوَضع المتأزِّم الّذي نَعيشه اليوم، نجد ذواتَنا مستعدِّين للقبول بأيّة مساعدةٍ تُقدَّم لنا لأنّه بالنِّسبة إلينا “الـمُهمِّ هو أن نعيش”. إنّ استعمالنا لهذه العبارة “الـمُهمّ أن نعيش”، تُشير إلى أنّنا نذوق الموت بشكلٍ يوميّ في حياتِنا.
إذًا، يتعرَّض المؤمن لِمُغريات هذه الدُّنيا، حين يكون في حالةٍ من الإفلاس الكامل، فيُقرِّر الاستفادة منها بالشُّروط المطروحة عليه. حين يكون الإنسان في الصَّحراء الرُّوحيّة، يأتي الربُّ إليه ويَعرُض عليه أن يُنعِشَه، غير أنّ الإنسان يَرفُض إنعاشَ الربِّ له ويُفضِّل الحصول على ما يُنعِش رغباته مِن الآخَرين، فعطاءات الربِّ للإنسان لا تتماشى مع رغباتِ هذا الأخير.
إنّ رغبات الإنسان هي أمورٌ غير موجودةٍ عند الله، لذا لا يستطيع اللهُ تلبيَتها؛ أمّا حاجات الإنسان فهي موجودةٌ عند الله، وَلذا يُقدِّمها الله للإنسان، غير أنّ هذا الأخير يرفض القبول بعطاءات الله له، لأنّه يبحث عن رَغباته لا عن حاجاته. لذلك، يبحث الإنسان عن عباداتٍ أُخرى، تُقدِّم له ما يُريد شرطَ خضوعه لها. اليوم، نحن في مرحلةٍ، تَنطبق على المؤمنِين الـمُخلِصِين للربّ الآية التّالية: “مُبارَكٌ وَمُقدَّسٌ مَن له نَصِيبٌ في القِيامَةِ الأولى”، ذلك لأنّهم لم يخضعوا للشَّيطان. إنّ هذا السِّفر يُخبرنا أنّنا ننتمي إلى مجموعةِ المؤمنِين الّذين لم يسجدوا للشَّيطان، وإن كُنّا نرى ذواتِنا أنّنا لسنا مِنهم، فكاتبُ هذا السِّفر يدعونا إلى أن نسعى كي نكون من بين هؤلاء المؤمِنِين.
إنّ الإنسان يعيش على هذه الأرض مُحاطًا بِدَائرتَين: الدّائرة الأولى المحيطة به، هي دائرةُ نِعمة الله ومحبَّته ورحمته، وهذه الدَّائرة هي الّتي تُحصِّن الإنسان؛ أمّا الدَّائرة الثّانية المحيطة به، فهي دائرة الإغراءات: التَّرغيب والتَّرهيب، الشَّهوات، عَملُ الشَّيطان، ومَن يتبَع الشَّيطان. بمعنى آخَر، هناك قوَّتان محيطَتان بالمؤمن؛ والمؤمن هو الّذي يختار القوّة الّتي يريدها أن تكون الأقرب إليه، لتَحميه من القُوّة الأُخرى. فإذا جَعلَ المؤمنُ، الّذي هو نواةُ هاتَين الدَّائرَتين، دائرةَ الله في المركز الأوّل أي الأقرب إليه، ستَكون تِلقائيًا الدّائرة الثّانية بعيدةً عنه ولن تتمكَّن من الاقتراب منه أو اختراقه؛ أمّا إذا جعلَ المؤمنُ كلّ ترغيبات الشَّيطان وتهديداته في الدّائرة الأقرب له، عندها تُصبح دائرة الله أبعد عنه، وستَجد صعوبةً كبيرة في اختراقِه.
إذًا، المؤمن هو مَن يُقرِّر ما إذا كان يريد أن يكون له نَصيبٌ في القيامة الأولى أم لا. وهنا، يقول لنا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أهميّةُ التحلِّي بِصَبرِ القِدِّيسِين. إذًا، نحن نعيش في زمنٍ مهما طال، سيكون له نهاية، ولكن قَبْل نهاية هذا الزَّمن لا بُدَّ من وجود حركةِ ضلالٍ في أربع زوايا الأرض يقوم بها الشَّيطان لإبعاد المؤمِنِين عن الله، وسيَنجح هذا الأخير في إخضاع أُممٍ كثيرةٍ لِحُكمه.
وهنا يُطرَح السُّؤال على كلّ دُوَل العالَم، وخصوصًا المسيحيّة منها: هل فِعلاً حُكم الله هو الّذي يسود عليها أم حُكم الشَّيطان؟ وهذا السُّؤال يدفعُنا إلى طرح سؤالٍ آخَر: ما هو حُكم الله؟ هل حُكم الله يقوم على الاجتهاد لإعادة بناءِ كنيسةٍ تَعرَّضت للحَرق لأنّها كنيسة أثريّة، لا لأنّها مكانٌ يجتمعُ فيه المؤمنون للصّلاة؟ للأسف، إنّ غالبيّة كنائس أوروبا المسيحيّة تحوَّلت إلى متاحف، وأصبحَت إضاءةُ الشُّموع فيها للصّلاة هدفًا للرِّبح الماديّ. وهنا نقول: حين تزداد كميّة المال في يَدِ الإنسان، فإنّها تزيد معها سُلطتَه على الآخَرين، والعكس صحيح. لذلك، في ظلّ الوَضع الّذي نعيشُه في وَطَنِنا، نُعظِّم شأن “الدُّوَل المانحة” للأموال لنا بُغيةَ الاستمرار في إرضائها، في حين تُرهِبنا “الدُّوَل غير المانحة” فنَسعى إلى إرضائها لكي تمنَحنا المال الّذي نَحتاجُ إليه. إذًا، أمام المؤمِن خياران في هذه الحياة، وما عليه إلّا أن يَحسِم أمرَه ويختار ما الّذي يريده.
نحن إلى الآن، لم نَختَر الحقّ، بل فضَّلنا مَصلَحتَنا الشَّخصيّة على الحقّ؛ وهنا تَكمن المشكلة الأساس في كلّ زوايا الأرض.
“جوجٌ وماجوجٌ” ترمز إلى الشَّعوب الّتي تُحارِب الله وملائكته. وبالتّالي، كلَّمنا كاتب هذا السِّفر في هذا الإصحاح، على الحرب الرّوحيّة في هذا العالَم بين قِوى الشَّر وأفكارِها وسُلطانِها من جهةٍ، وبين قوى الخير الّتي يمثِّلها الربّ وملائكته وقدِّيسوه والّذين قُتِلوا من أجل شهادة المسيح من جهةٍ أُخرى.
إنّ الحرب قائمةٌ بين هذين الفريقَين وما على المؤمن إلّا اختيار الفريق الّذي يُمثِّله: فإذا قام المؤمن بحساباته الأرضيّة الآنية، فإنّه سيَميل من دون شكّ إلى قوى الشَّر؛ أمّا إذا قام بحساباته الأبديّة، فإنّه سيَميل بكلِّ تأكيدٍ إلى قوى الخير، لذا على المؤمن أن يَحسم قراره: إلى جانب مَن سيَكون في هذه الحرب. في هذا الإصحاح، يقول لنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، إنّه لن نَملِك بعد الآن فرصةً أُخرى للاختيار، لذا يدعونا من باب الرَّحمة، إلى حسم قرارِنا بِاختيار الدّائرة الّتي نريد أن تُحيط بِنا: هل ستكون دائرةُ الله الّتي ستَحمينا، أم دائرة الشَّر الّتي ستُدمِّرَنا؟ إنّ كلّ الاختيارات ما زالت متاحةً أمام المؤمِن: حين يضع المؤمِن نُصبَ عينَيه رحمةَ الله وحُبَّه، فإنّه سيُعمى عندها عن رؤية قوى الشَّر؛ وإذا وَضَع المؤمن قِوى الشَّر نُصبَ عينَيه، فإنّه عندئذٍ سيُعمى عن رؤية عمل الله. وبالتّالي، الخيار هو بِيَد المؤمن القائم على اختيار النَّظَّارات الّتي يريد أن يضعها في حياته.
إنّ “المَدينة المحبوبة” هنا لا تعني مدينة أورشليم، إذ إنّ الكاتِب قد سبَقَ وقال لنا إنّ مدينة أورشليم قد أصبحت عدوَّةً لله، وقد تمَّ تدميرها مع هيكلها حوالي سنة 70 م.، أي قَبْل كتابة الرَّسول لهذا السِّفر. إنّ الكتاب المقدَّس هو ضِدَّ أورشليم الأرضيّة لأنّ هذه الأخيرة تحوَّلت إلى عدوَّة الله، والدَّليل على ما أقول هو أنّ الإنجيليّ متّى يُخبرنا أنّ أورشليم كلَّها قد اضطربَتْ عندما عَلِمت بأمرِ ولادة الربّ، وقد سَعت إلى قتلِه إذ اتَّخذَ ملِكها هيرودس قرارًا بقتل الطِّفل المولود؛ كما يُخبرنا الرَّسول نفسه أنّ أورشليم عادت واضطربَت مجدّدًا بسبب الربّ فقرّرت صَلبَه على يد بيلاطُس.
إذًا، ليسَتْ أورشليمُ هي المقصودة بعبارة “المدينة المحبوبة”، بل جماعةُ المؤمنِين الّذي أَخلَصوا للربّ أي الكنيسة. لذلك، نجد أنّ الكنيسة تفتح أبوابها أمام جميع النّاس كي يستطيع الدُّخول إليها كلُّ مَن يشاء ذلك، والخروج منها كلُّ مَن يرغب في ذلك، ولكن مَن يَثبُت فيها إلى النِّهاية سيَكون من أبناء “المدينة المحبوبة”. صحيحٌ أنّ المؤمِن مُحاطٌ بِقوى الشَّر، ولكنَّ قوى الله ما زالت موجودةً، وهي الّتي ستُبيد في اليوم الأخير، حسب قول كاتب هذا السِّفر، كلَّ ما يَحول دون بقاء المؤمِن مع الربّ، إذ كان المؤمِن قد اختار البقاء مع الربّ.
لذا، يدعو كاتبُ هذا السِّفر المؤمنِين إلى عدم الرُّضوخ لإغراءات الشَّيطان وعدم الخوف من تهديداته. إنّ “الوحش” هو انعكاسٌ لصورة الشّيطان على الأرض المتمثِّلة بالإمبراطور أو الـمَلِك، بمعنى آخر، إنّ صورة الشَّيطان تَتمثَّل بالحاكم أو المسؤول المتسلِّط على الأرض. إنّ “النَّبيَّ الكذَّاب” هو الّذي يَنقل إلى الإنسان خَبرًا، ويدفعه إلى الاعتقاد بأنّه الخَبرُ السّار الّذي ينتظره، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذا الخبر ما هو إلّا وَهمٌ زرعه الشَّيطان في فِكر الإنسان، فيُوهِم المؤمِنَ بأنّه هو مُخلِصه، محاولاً بذلك إبعاده عن الـمُخلِّص الحقيقيّ. إنّ الّذين سيَخضعون للشَّيطان “سيُعذَّبون إلى أبدِ الأبدين”، ليس فقط ألفَ سنة، وبالتّالي سيكون الموت الثّاني مِن نصيبِهم.
“ثُمَّ رأيتُ عَرشًا عظيمًا أَبيَض، والجالسَ عليه، الَّذي مِن وَجهِه هَربَتِ الأرضُ والسَّماءُ، ولَم يُوجَد لهما مَوضِعٌ!”: إنّ شخصًا واحدًا جالسٌ على العرش، وبهذا الكلام يُقدِّم لنا الكاتب صورةً عن الدَّينونة. وهنا نتذكَّر قول متّى الإنجيليّ الّذي يقول لنا على لسان يسوع: “السَّماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول”(متى 24: 35).
إنّ هذه السَّماء وهذه الأرض اللّتَين نَعرفهما لن يعود لهما قيمةٌ في يوم مجيء الربّ، لأنّ الربَّ سيَخلق أرضًا جديدةً وسماءً جديدة، أي أنّه سيَخلقُ خليقةً جديدة وكَونًا جديدًا، وسيُخبرنا عنهما يوحنّا الرَّسول، في الإصحاحَين المتَبقِيَن من هذا السِّفر. إنّ الأرض الأولى قد تَنجسَّت بفِعل عملِ الشَّيطان فيها، لذلك هي تهرب من وجه الله الجالس على العرش. والسَّماء تَتبَع الأرض، لأنّها موجودةٌ معها في كوكَبٌ واحد، أي أنّها خليقةٌ واحدةٌ.
“وَرأيتُ الأمواتَ صِغارًا وَكِبارًا واقفِين أمام الله، وانفتَحَتْ أسفارٌ، وانفَتَحَ سِفرٌ آخَرُ هو سِفرُ الحياة، وَدِينَ الأموات مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار بِحَسبِ أعمالهم”:
من خلال هذا الكلام، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عن الدَّينونة. ويَبدو لنا أنّ هناك سِفرَين، إذ يقول لنا الكاتب “انفتَح سِفرٌ آخَر”. إنّ جميع الأموات سيُدانون بِحَسب أعمالهم.
“وَسَلَّمَ البَحرُ الأمواتَ الّذِين فيه، وَسَلَّمَ الموتُ والهاويةُ الأمواتَ الَّذِين فيهما. وَدِينوا كلُّ واحِدٍ بِحَسب أعماله. وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار. هذا هو الموت الثَّاني. وكلُّ مَن لَم يُوجَد مكتوبًا فِي سِفر الحياة طُرِحَ فِي بُحَيرة النَّار”:
من خلال هذا الكلام، يبدو لنا أنّ البَحر كان قد ابتلَع الأموات في السَّابق وها هو يُسلِّمهم للربّ من جديد في يوم الدَّينونة. وبالتّالي، أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبرنا أنّ جميع الأموات من دون استثناء سيَقفون أمام عرش الله للدَّينونة. إذًا، هناك قيامةٌ ثانية لجميع البشر، ومن ثمّ سَيَنال البعض منهم الموت الثاني في حين أنّ البعض الآخَر سَيَنال القيامة الثانية. إنّ العهد القديم يُخبرنا عن الهاوية الّتي كانت تُسمَّى “shéol”، وكان يُقصَد بها المكان الّذي سيَدخله الأموات بعد انتقالهم من هذه الأرض، وهو عبارةٌ عن مغارةٍ كبيرةٍ. إنّ عبارة “وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار”، تَعني أنّه لن يعود هناك من وجود للموت بعد الآن. فالّذين أخلَصوا للربّ، وثَبَتوا في إيمانهم بالله، كُتِبَت أسماؤهم في سِفر الحياة، لذا لن يطالهم الموت الثّاني. وهذا ما يَبعثُ التَّعزية في قلوب المؤمِنِين عند قراءتهم لهذا السِّفر.
إنّ كاتب سِفر الرُّؤيا يوجِّه كلامه هذا إلى المؤمنِين الّذين هُم تحت الضَّغط والّذين يواجهون الضِّيقات. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم ما قاله كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين لأنّنا نَذوق الضِّيقة في كلِّ يوم: إذ إنّنا في حالةٍ قلقٍ مستمرِّة في ما يخصّ شؤونِنا الأرضيّة من طعامٍ ودواءٍ وكلفة التَّنقلات…، ونجد صعوبةً في التّفكير في أمورٍ أُخرى: هذا نوعٌ من أنواع التَّجارب الّتي نتعرَّض لها في حياتِنا اليوميّة.
كم من النَّاس ما زالوا يتركون مكانًا في حياتهم للتّفكير في عبادة الله الحقّ، عِوضَ السَّعي إلى عبادة مَن يستطيع أن يُقدِّم لهم مساعداتٍ ماديّةٍ على كافة المستويات للاستمرار في العيش! نحن اليوم في تَجربةٍ أُخرويّة، وهذا ما يجب أن نشعر به، عِوضَ أن نُفكِّر في أنّ كلّ ما نمرُّ به هو دليلٌ على اقتراب مجيء المسيح! فماذا يَهمُّك، أيّها المؤمِن، إنْ عرَفْتَ متى يكون المجيء، إنْ كنتَ لم تَحسِم خيارَك بَعد، أي مع مَن تُريد أن تكون. وبالتّالي، عليكَ، أيّها المؤمن، أن تأخذَ قرارًا مع مَن ستَكون، بدلَ أن تهدر وقتَك في التَّفكير في معرفة توقيت مجيء الربّ، أقَبلَ موتِك الأرضيّ أم بعدَه. ماذا يُفيدك معرفة توقيت مَجيء الربّ، طالما أنتَ لا تزال على إخلاصِك للربّ، وتُواجه الشَّر بالخير الّذي تقوم به.
إنّها لتَجربةٌ كبيرةٌ عندما تشعر أنّ الخير الّذي تقوم به لا يُؤتيك نتيجةً ولا ثَمرًا: هذا أحدُ الأوهام الّذي يسعى الشَّيطان إلى زرعِها فيك. إنَّ أكبر وَهْمٍ يزرعه الشَّيطان فيك هو: إقناعُك أنَّ كلَّ ما تقوم به من خَيرٍ في هذه الحياة لا قيمةَ له، ممّا يدفعك إلى القيام بِرَدَّةِ فِعلٍ ضدَّ الله نتيجةَ اعتقادك أنّه لا يرى أعمالك الصّالحة الّتي تقوم بها. إنّ هذا الوَهم الّذي يزرعه فيك الشَّيطان يجعلُكَ تُهمِل علاقتك بالله بدلَ العمل على تقوية رباطِك به؛ كما يدفعك إلى اليأس، إذ يجعلُكَ تشعر بعدم منفعةِ بقائك مع الله. حين تَصِل إلى هذه المرحلة من اليأس والإحباط، يكون الشَّيطان قد رَبِحَ معرَكتِه ضدَّ الله من خلالِكَ، إذ يكون الشَّيطان أتاكَ بـ”جوج وماجوج”، وحارَبَكَ بهم وانتَصَر على الله من خلال الحرب الرّوحيّة الّتي خاضها الشَّيطان ضدَّ الله فيك.
هذه هي الحرب الرُّوحيّة الّتي تتعرَّض لها يوميًا، ومُخطِئًا تكون إذا اعتقدت أنّ الحرب الرُّوحيّة تقتصر على مسائل تتعلَّق بالأكل والشُّرب. إنّ الحرب الرُّوحيّة هي مسألةُ تَغيير مسارِ الأرض، مسالةُ تغيير مسارِ الإنسانيّة بأسِرها. في العالم اليوم صراعٌ كبيرٌ من أجل إحلال “عبادة جديدة”، لا بالمعنى الحرفيّ للكلمة، إذ إنّها عبادةٌ قديمةٌ متجدِّدةٌ. هذه العبادة كانت مربوطةً في القديم بِفَضل قوّةِ المسيح وقوّةِ المؤمِنِين به، لذا فقَدَتْ في السّابق سُلطانَها على المؤمِنين، وهذا السُّلطان لن يعود إليها مجدّدًا إلّا إذا استسلم المؤمنون لها.
نحن اليوم أمام حربٍ روحيّة كبيرة: إنّ قوى الشَّر الآن تَحكُم العالَم، ولكنْ طالما أنّ هناك مؤمِنِين، ولو قلَّ عددَهم، ثابتِين في إيمانهم بيَسوع المسيح، فتأكَّدوا وتيَّقنوا من أنّ الله وملائكته والقدِّيسين وأنتم، ستنتصرون في النِّهاية على قوى الشَّر، مهما كَبُرت هذه الأخيرة. إنّ كاتب سِفر الرُّؤيا يدعونا إلى تقديم البُرهان على هذه النتيجة الّتي يُعلِنها لنا، من خلال عيشنا اليوميّ. إنّكم اليوم في حالةِ اضطهادٍ وجوع، ولكن هذا لا يعني أن تُسارِعوا إلى اعتبار ذواتِكم قدِّيسِين؛ بل عليكم أن تُبرهِنوا أنَّكم قدِّيسون من خلال إخلاصِكم والتزامِكم بالربّ، وتعمُّقكم بكلمة الربّ وتمسُّككم بها، بالرُّغم من كلّ الأنشطة الشَّيطانيّة الّتي تُحاربكم. إذًا، ليس لأنّكم تُحارَبون أنتم صالحون، بل لأنّكم تُحارَبون ستُصبِحون قدِّيسِين، إذا بَقيتُم ثابتِين على الإخلاص. فنحن لن نتمكَّن من الانتصار على قوى الشَر بالجسد، بل سننتصر عليها بالرُّوح والفِكر والإيمان والصَّبر والمحبَّة والوداعة، وكافة ثمار الرُّوح الّتي يتكلَّم عليها الإنجيل.
وهنا يَطرح البعضُ السُّؤالَ: كيف سننتَصر؟ هنا أقول لكم: إنّ الله قال إنّه سيَربَح هذه المعركة ضدَّ الشَّيطان؛ فهل تُصدِّقونه؟ إنّ يسوع المسيح الّذي أخبرنا عنه الإنجيل، قال لنا :”ثقوا أنا قد غَلَبتُ العالَم”(يو 16: 33)، وأنتم تَرون أنّ العالَم هو الغالِب، فمَن تُصدِّقون: العالَم أم الله؟ إنّ الّذي تُصدِّقونه سيَربَح فيكم. فإذا صدَّقتم المسيح فهو سيَربَح فيكم؛ وإذا صدَّقتم الشَّيطان فهو سيَربح على هذه الأرض في داخلكم. إنّ الله أدخلَ نفسَه في ورطةٍ كبيرةٍ حين جَعل انتصاره في هذه المعركة بين أيديكم أنتم المؤمِنون. فماذا تفعلون؟ هنا يتجلّى صَبرُ القدِّيسِين.
إنّ الإصحاحَين الـمُتَبَقِيَن من سفر الرُّؤيا سيُعطياننا الصُّورة الحقيقيّة الّتي سيكتَمِل فيها عَمَل الله، ويكون فرحُنا فيه كاملاً. آمين.
ملاحظة: دُوِّن الشرح بأمانةٍ من قِبَلنا.